الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة

الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة

(13)

علاقة الجيش بالنظام السياسي الاستبدادي

ببراعة واقتدار وضع الجيش المصري أسس الدولة الشمولية البوليسية ، وصنع الزعيم القائد الذي يملك مفاصل الدولة ، ويرعى مصالح الجيش ، ويحافظ على ميزاته ، وبمكر ودهاء تداخل الجيش منذ تجديده على أثر انقلاب 23 يوليو 1952م مع النظام السياسي الذي يتربع على قمته الزعيم القائد ، فلم يكتف الجيش بصناعة الزعيم القائد بل طمح إلى التداخل مع النظام السياسي ، وأن يكون سنده الأساس ، حتى يضمن دعم الزعيم القائد عن قرب ، ومن ثم السيطرة على النظام وتحقيق مصالحه والحفاظ على ميزاته بشكل مباشر .

الفرع الأول : الجيش متداخل مع النظام السياسي :

منذ علم 1952م والجيش المصري من خلال قياداته ركيزة أساسية داخل النظام السياسي ، فمعظم الوزراء أعضاء مجلس قيادة الثورة ضباط سابقون في الجيش ، كما أن الكثير من المحافظين والمسئولين عن أهم أجهزة ودوائر الدولة ضباط في الجيش ، بالإضافة إلى ما تقدم فإن رسم السياسات وتنفيذها يتم وفق العقلية العسكرية التي ليس لها خبرة أو دراية بإدارة الدولة .

واستمر الحال هكذا خلال حكم “السادات” و”مبارك” و”السيسي” ، ويتوهم الكثير من السذج ، أن تغيير الزي يترتب عليه تغيير الفكر والسلوك ، فالعسكريون بزيهم المدني في النظام السياسي لن يكونوا في يوم ما مدنيين في فكرهم وسلوكهم ، ولذلك فمصر لم تكن في يوم ما دولة مدنية ، بل هي دوماً دولة عسكرية ، بفكر وسلوك زعيمها وقائدها ، ونظامها السياسي ، وجيشها ، الصانع للأول ، والداعم للثاني ، والمتغلغل في ثناياه ، ولن تكون مصر غير ذلك ، أي دولة مدنية إلا إذا تم فك الارتباط بين الجيش والنظام السياسي ، ليس هذا فقط ، بل بكف يد الجيش عن السياسة بالمرة ، وتأسيس نظام سياسي ديمقراطي بعيداً عن اسطورة الزعيم القائد ، بل وفق حقيقة الرئيس المنتخب .

الفرع الثاني : الجيش هو السند الأساس للنظام السياسي :

تداخل الجيش مع النظلم السياسي منحه الفرصة لأن ينفّذ التزامه في ميثاقه مع النظام السياسي وهو دعم النظام وحمايته ، وهنا اتضحت الصورة تماماً حيث أن الجيش المصري هو حامي النظام السياسي والضامن لوجوده واستمراره في دولة عسكرية منذ 23/7/1952م وحتى بعد انقلاب 3/7/2013م .

وفي دولة عسكرية بالوصف الذي أوضحنا ، فإن الجيش هو القوة الوحيدة التي تملك القوة المادية والدعم الشعبي للقيام بحماية النظام ودعمه والدفاع عنه ، لأن النظام مفروض على الناس ولم يأت إلا بالتزوير والبلطجة .

كذلك أدخل الجيش في روع النظام السياسي ، وهكذا اعتقد الأخير أنه يمكنه الاستعانة بالجيش في أية لحظة ، عندما يتعرض النظام لتهديد داخلي من قبل الشعب أو أية قوى سياسية ، ولكن أمام قوة الشعب الثائر لكرامته في 25/1/2011م ، لم يقدّر للجيش أن يبر بوعده ، ويشتبك مع الشعب من أجل الإبقاء على نظام انتهى عمره الافتراضي ، وتعفن وزكمت رائحته الأنوف ، وأجّل الجيش معركته مع الشعب التي ستأتي لا محالة مع تأسيس النظام الجديد وليد الثورة ، حيث سيبحث الجيش عن دوره وحصته في الدولة الجديدة والنظام الجديد .

الفرع الثالث : النظام السياسي يضمن مصالح وميزات الجيش :

منذ بدء عهد دولة الجيش الشمولية البوليسية في عام 1952م ، والجيش في مصر أدخل في أذهان الناس أهميته وعظمته ومجده ودوره الوطني عبر مصطلحات ومفاهيم غامضة ، تثير الحماس ، وتستنفر الأحاسيس ، وتشحذ المشاعر ، من أجل تبجيل وتقديس الجيش ، واعتباره فوق الجميع ، وأهم من الجميع ، فلا وزن لمجتمع ولا لشعب أمام الجيش ، صانع المعجزات وصاحب الأمجاد .

وكانت هذه ردة فعل طبيعية وسلوك منطقي من جيش لم يكن له وجود في حرب فلسطين التي عُرفت بنكبة 1948م ، وهُزم في عام 1956م فيما عُرف بالعدوان الثلاثي ، وسُحق في حرب يونيو 1967م التي عُرفت بنكسة يونيو ، وأحرز نصراً قزّمه “السادات” بغروره واستبداده وانفراده بالرأي في عام 1973م ، كان على الجيش إذن أن يرسم لنفسه صورة جديدة ، ترتسم في أذهان أبناء الشعب المصري ، تضخّم ذلك الجيش ، وتعظّم قياداته وتظهرهم بمظهر الأبطال ، وترتكز هذه الصورة على مجموعة من المرتكزات :

البند الأول :هالة معنوية نفسية : كان أول المرتكزات التي رسخ عليها الجيش المصري نفوذ وسلطة ومصالح وميزات قياداته ، هو إطلاق هالة من الشعارات عن طريق إدارة الشئون المعنوية بالجيش تستهدف تقديس الجيش وتمجيده لدى المواطنين البسطاء بأسلوب شعبوي ، مؤدّاهاأن الجيش هو رمز الكرامة والعزة للمصريين ، ومن ثم فكل أفعال وتصرفات قيادات الجيش مبررة لأنه جيش إلهي !! وقال الرسول الكريم في جنوده أنهم خير أجناد الأرض ! وتم تبرير الشئون والأوضاع الحياتية غير الواقعية وغير المبررة بنصوص مقدسة ، حتى يتعامى الناس عن الأفعال والأوضاع غير المقبولة لقيادات الجيش ، تحت رهبة وخشية تلك النصوص الموظفة في غير موضعها والموجهة لعكس ما جاءت من أجله .

وطالما صاحب تلك الحملة الحماسية الصاخبة المستمرة استعراضات للجيش في مناسبات ما أكثرها ، ترافقها خطابات إنشائية من المذيعين المعدين لذلك إعداداً خاصاً ، تقرع الآذان بنبرات صوت “أحمد سعيد” ، لتستعرض أمجاد الجيش وأفضاله على البلاد والعباد ، وأنه لولا الجيش ما كانت مصر ، فمصر هبة الجيش ، وإزاء هذه الاستعراضات الأخاذة ، تختلط لدى الناس مشاعر العزة التي لم يستشعروها في هذا البلد أبداً بأحاسيس الشموخ والكبرياء اللذين يحلمون بهما في بلد مرّغ جباه أبنائه في التراب ، لتخرج في مزيج من الإرهاب والرعب والخوف من هؤلاء المدججين وآلياتهم التي قد تتحول في لحظات إلى رؤوسالناس وصدورهم فتحرقهم وهم أحياء .

البند الثاني :هالة استراتيجية [ذريعة الأمن القومي] :تناغم مع الهالة المعنوية النفسية التي أطلقتها الشئون المعنوية على البسطاء من الشعب المصري دفق هائل من الإعلام والأفكار الموجهة والبحوث المفبركة التافهة ، تعتبر الجيش والمقصود هنا حقيقة قيادات الجيش خطاً أحمراً لا ينبغي تجاوزه ، لأنه يمثل صميم الأمن القومي المصري ، ولا ندري هل الجيش المصري هو الأمن القومي أم أنه يدافع عن الأمن القومي المصري ، الذي يعني ضمان الوجود وكفالة التفاعل وصون التطور للدولة المصرية .

وكانت الطامة الكبرى المترتبة على هذه الهالة الضخمة عندما تم تكييف وتصنيف أية آراء أو رؤى أو مراجعات منهجية علمية لأوضاع الجيش في مصر ومكانته ومهامه الحقيقية الأصيلة والنأي به عن الحياة السياسية والمدنية على أنها ضمن محاذير الأمن القوميويُتهَم أصحابها بالخيانة العظمى !!

البند الثالث :هالة سياسية : ألمحنا قبل قليل إلى علاقة الجيش بالنظام السياسي ، وكيف يباشر الجيش دوماً دوراً ضاغطاً على رموز النظام ، والمفارقة أن الجيش يتذرع في ضغوطه على النظام السياسي من أجل السلطة والنفوذ والميزات والمصالح بنفس الذرائع الشعبوية التي يتذرع بها وهو يخاطب البسطاء من الشعب المصري وهي الهالة المعنوية النفسية وهالة الأمن القومي ، وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود إبتداءً من ثمانينيات القرن العشرين ورموز النظام السياسي وبطانته يرددون هذه المقولات ، دون أن يدركوا أن ذلك يسيئ إلى الجيش أكثر مما يفيده .

البند الرابع :هالة اقتصادية :من الغريب والمثير حقاً أن نتحدث عن هالة اقتصادية في سياق الحديث عن مرتكزات تضخيم وتمجيد واقع الجيش في مصر ، إلا أن الحقيقة تنطق بأن الاقتصاد كان له حضور مهم في تلك المرتكزات ، وذلك لأن قيادات الجيش بعد اتفاق السلام مع إسرائيل شرعوا في إقران ومزج كل ماقدمنا من هالات معنوية نفسية واستراتيجية أمنية وسياسية في بوتقة اقتصادية مادية ، وكان ذلك إيذاناً بتحويل الجيش الذي سيتعطل عن القتال لتحول عدوه إلى حليف إلى مؤسسة اقتصادية عملاقة يوازي اقتصادها اقتصاد الدولة المصرية ، دون معقب أو رقيب ، بل وبمباركة وموافقة من النظام السياسي ، ويُحظَر على أي مصري التطرق إلى هذا المسألة لأنها ضمن محاذير الأمن القومي ، وبعد قليل سنتطرق إلى تفصيل هذه المسألة .

ترتيباً على كل ماتقدم لم يجد النظام السياسي بداً من أن يتحالف مع الجيش بما يضمن مصالح وميزات قياداته في مقابل أن يكفل الجيش وجود النظام .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.