الرئيسية » تحرر الكلام » نزيف العلماء والمربين

نزيف العلماء والمربين

وأنا أتصفح ببرنامج الواتس أب، شدتني مشاركة قد نشرها أحد الاخوة، ويخبرنا فيها، إنَّ أحد العلماء الأفاضل في العراق، قد أُصيب بجلطة دماغية، ويطلب منا الدعاء له بالشفاء، لأنه حالته خطرة جداً، وتلت هذه المشاركة مشاركات أخرى من اخوة اخرين كانوا تلاميذ له، يعرضون خصال هذا العالم الجليل الحميدة، وفضله على تلاميذه، وتراثه العلمي الذي خلفه للأخرين، فأدركت عِظم فَضله وسِعة عِلمه، كوني لم أحظى بمعرفته من قبل. وقفت عند هذا الخبر طويلاً، واعتراني شعور بالخوف الشديد، وأنا أسأل نفسي، ماذا لو خلا مجتمعنا من العلماء والمربين؟ ماذا لو استمرت مسيرة الخسائر التي يدفعها مجتمعنا العراقي في ظل حياة الضياع التي نعيشها الأن؟ وأي خسارة، فخسارة المال ليست بمثل خسارة العلماء والمربين.

لقد كانت من أعظم الخسائر التي دفعها شعبنا العراقي، هو غياب علمائه قصراً، تارة بالاغتيال وتارة بالتهجير، ومن نجى من تلك المخاطر لم يسعفه طول عمره ليبقى بيننا، وهو أمر الله لا راد له. فالفترة التي تلت احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة، ومن بعدها استيلاء إيران على مقدرات الشعب بكل مفاصلها، شهدت أكبر عملية لتصفية علمائنا وفضلائنا ومربينا، من خلال هجمة شرسة، الهدف منها واضح لكل لبيب. هي خسائر غير منظورة يدفعها هذا الشعب المظلوم، والتي ستظهر آثارها على أجيالنا القادمة، بل إنَّ بعضها قد ظهر.

إنَّ غياب العلماء والمربيين تدريجياً من بيننا، من دون أن يستشعر أحد منا عظم الفاجعة والمصيبة التي تنتظرنا من جراء هذا النزيف، هي مصيبة أخرى تضاف لمصائبنا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ لا يقبِضُ العِلمَ انتزاعًا ينتزِعُه من النَّاسِ. ولكن يقبِضُ العِلمَ بقبضِ العلماءِ. حتَّى إذا لم يَترُكْ عالمًا، اتَّخذ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئِلوا فأفتَوْا بغيرِ علمٍ. فضلُّوا وأضلُّوا) صحيح مسلم

والحديث الشريف المذكور أعلاه يلخص حالة المجتمع العراقي بالضبط، الأمر الذي جعل شرائح كبيرة من المجتمع العراقي يتّبعون الرويبضة، وما أكثرهم في زماننا هذا. وإلا ما هو تفسيرنا لإتّباع ألاف الناس لأحد هؤلاء، والذي لا يفقه من أمر العامة شيء، يتّبعوه بالشر والخير دون معرفة السبب أو السؤال عنه، فتارةً يكونوا مليشيات ينشرون الموت والدمار بخلق الله، وتارةً أخرى يكونون مناضلين من اجل اصلاح حال الأمة.  وماذا نفسر خروج الاف الشباب وراء من يدعي بتطبيق الخلافة وهو أقرب لأن يكون أحد الحشاشين الذين ظهروا بأمتنا في أزمان سابقة، وجعلوا من أنفسهم إمَّعة يتبعون كل ناعق، وهذا الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال (لا تكونوا إمَّعةً تقولون إن أحسَن النَّاسُ أحسنَّا وإن ظلموا ظلمنا). نعم هذا حال الأمة بغياب العلماء والمربين.

إلا إنَّ الذي حدث ومازال يحدث في بلدنا ليس عفوياً، وأعدائنا يمشون وفق أجندةً واضحة لهم، ولكنها ضبابية لنا. إنهم يعرفون إنَّ أفضل طريقة لتطويع الشعوب وجعلها مطيةً لهم تنفذ بهم مأربها، هو جعلهم بعيدين عن علمائهم ومربيهم ليسهُل قيادتهم.

لهذا السبب كان مخطط تصفية العلماء والمربين وعلى اختلاف تخصصاتهم، بدأ العمل به بوقت مبكر بعد الاحتلال، والطامة الكبرى التي نشترك فيها نحن أيضاً من حيث لا ندري، إننا لا نسعى لتعويض هذا النقص بالعلماء والمربين. وإن أستمر هذا الحال، فإننا مقبلين على تغير نوعي نحو الأسوأ، في طِباع وثقافة شعبنا، وسنحصل على مجتمع، ينزع الى توافه الأمور وتغيب عنه مصالحهُ الكبرى، يستجيب لكل دعوى باطلة، ويلهث وراء ملذاته، شعباً انانياً، شهوانياً، استهلاكياً، لا يدرك للقيم العليا في حياته من ضرورة، ولا للمثل السامية من حاجة.

ولكن هي مجاهدة ما بين الحق والباطل قائمة إلى يوم القيامة، فإذا كنّا ندّعي إننا من أصحاب الحق، فهذا يفرض علينا التزاماً أمام شعبنا وبني جلدتنا، وهو استدراك أخطائنا، يجب على المخططين لهذه الامة أن ينشؤوا البرامج الهادفة لصنع جيل جديد من العلماء والمربين يعوض النقص الحاصل في اعدادهم، وجعلهم يتصدون لإنارة الطريق لشعبنا. ومن لطف الله بنا، إنَّ كثير من الوسائل الكفيلة لإتمام مثل هذه البرامج، مازالت متوفرة بأيدينا، فلا زال هناك علماء ومربين، قادرين على إداء هذه المهمة، لنوفر لهم الوسائل التي تمكّنهم من توريث علمهم لشبابنا، وليأخذوا بأيدهم لينهلوا من كنوز العلم والمعرفة.  لان محاربة الظلمات لا تكون إلا بنور المعرفة.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.