الرئيسية » تحرر الكلام » العربية السعودية .. تغيير رشيد هادئ متوازن ينتج دولة أصيلة عصرية وقوة إقليمية تصبو للعالمية (1)

العربية السعودية .. تغيير رشيد هادئ متوازن ينتج دولة أصيلة عصرية وقوة إقليمية تصبو للعالمية (1)

لم تكن أحداث الثورات العربية حافزاً على التغيير في العربية السعودية ، فالمراقب بتأمل وعمق لهذه الدولة لا يصعب عليه أن يلحظ أن المملكة كانت قد بدأت عملية تغيير ذات مواصفات خاصة منذ ما يقرب من عقدين من الزمان ، تغيير اتسم بالرشد والهدوء والتوازن ، وبدأت تجليات ذلك التغيير في الظهور في السنوات الخمس الأخيرة ، وكان ذلك التغيير ذاته ونتائجه بالتتابع من الأسباب المباشرة لأن تجتمع مجموعة قوى وتشن هجمة شرسة على المملكة ، والغريب أن المهاجمين هم جماع أهم عناصر القوى العالمية والإقليمية ، وقبل أن نعكف على درس وتحليل تلك الهجمة وطبيعة ودوافع المهاجمين ، رأينا أنه قد يكون من المجدي والضروري معاً البدء بتأمل وضعية العربية السعودية وتدبر التغيير ونتائجه الذي باشرته ونجحت فيه ، واستدعت نتائجه هجمة المتربصين والمرجفين من العالم والإقليم .           

الفرع الأول : طبيعة التغيير الذي تم بالعربية السعودية :

التغيير في المجتنعات الإنسانية وفق نظرية الاجتماع السياسي لا يعني بالضرورة أن يتم بأساليب عنيفة ومدمرة ، ولا يعني كذلك الانقطاع بين الحاضر والماضي والبدء من حيث نجح التغيير ، ولكن التغيير يمكن أن يكون هادئاً متدرجاً سلساً لا يحدث انقاطعاً أو انفصالاً عن الماضي ، بل يمتد سياق الحياة والتطور بشكل قد يجعل التغيير غير ملحوظ أو محسوس إلا من خلال نتائجه التي قد تفاجئ المراقب .

وهذا التغيير الذاتي التلقائي الذي يحدث في كيانات الدول والمجتمعات هو من سمات الكيانات البشرية المتقدمة التي تملك القدرة على التغيير الذاتي التلقائي ، ومن ثم فمن الخطأ أن يظن البعض أن المجتمعات المتقدمة مثل المجتمعات الأوربية وأميركا وكندا هي كيانات لا يعتريها التغيير ، بل هي مجتمعات تتغير باستمرار ولكن بشكل ذاتي أي من داخلها ، وتلقائي أي دون عوامل خارجية ومثيرات عنيفة ، إنه تغيير يتم داخل كيان عبقري يستوعب المتغيرات والمستجدات ويطوّر أدوات التعامل مع الواقع .

لقد كانت تلك هي وتيرة وطبيعة التغيير في المملكة العربية السعودبة ، كان تغييراً رشيداً ومن أمارات الرشد فيه هو أن الدولة بمجتمعها وبنظامها السياسي وكافة الأنظمة الفرعية الأخرى لم تتجاهل المتغيرات والمستجدات التي تحدث بشكل مستمر على كافة المستويات الداخلية والإقليمية والعالمية ، وبكافة أنواعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والمعتقدية والحضارية ، بل كانت تستوعب تلك المتغيرات وتحتوي المستجدات بشكل دائم ، ثم تعمد عبر وسائل مدروسة إلى تطوير أدوات التعامل مع الواقع ، لتعيد انتاج تلك المتغيرات والمستجدات في شكل أفكار وسلوكات مهذبة ومشذبة وأصيلة ، وفي ذات الوقت متوائمة مع أحداث وتطورات العصر والواقع المعاش .

لقد ترتب على السمة السابقة أن جاء التغيير في المملكة هادئاً لا يستشعرة إلا المراقب المتخصص ، ثم لم يلبث أن استشعره الجميع عندما أفرز نتائجه على كافة المستويات وبكافة الأنواع المذكورة أعلاه .

كذلك جاء التغيير بالمملكة متوازناً في وتيرته ، ومتوازناً في المجالات التي غطّاها ، وكذا في تأثيراته وتفاعلاته ، وأخيراً كان متوازناً في النتائج التي أنتجها .        

الفرع الثاني : مجتمع لا يفارق الأصالة ويتفاعل مع عصره :

لقد كان المجتمع السعودي بحق هو أول الفواعل التي رأت بضرورة التغيير حيث استشعر الحاجة إليه ، لأنه مجتمع حساس لم ينفصل عن الواقع العالمي والإقليمي ، وفي ذات الوقت لم يفارق تاريخه وتراثه وثقافته وحضارته الإسلامية التي أكدت دوماً أصالته .

إن من يقم في أي بقعة من تراب المملكة يشعر بشعور لا يستشعره في أي مكان آخر إلا اللمم ، إنه شعور يجمع في مزيج بديع وعميق من المشاعر والأحاسيس ، بين تاريخ لم ينفك يترك أثاره وبصماته التي تجذبك رغماً عنك إلى ما قرأت وسمعت من ماضي العرب والمسلمين ، وتستحضر مآثر وأمجاد وتفاعلات شكلت مجتمعاً ذا خصوصية ، وبين واقع صاخب يهدر بالحركة والنشاط ، ويجمع كل ما يحدث في شتى بقاع الأرض ، بعد أن يهذبه من كل ما ينتهك حرمة الأصالة ، ويشذبه من كل ما يشين القيم والمبادئ والمثل والأنساق الأخلاقية التي تفرضها مقدسات جليلة تهفو إليها أفئدة الناس من كل صوب وحدب .

هذا هو المجتمع السعودي الذي يطلب التغيير السلس ليواكب ركب الإنسانية ، ولكن بأنفة من يملك ذاتاً سامقة تأبى إلا أن تروّض ذلك التغيير حتى يغدو متوالفاً مع عراقتها ، إلى أن يصبحا مركباً فريداً من الخصوصية والتميز ، وقد يكون ذلك تعبيراً متطوراً ومبتكراً عن التغيير يمكن أن يضاف إلى نظرية التغيير في علم الاجتماع السياسي ، وهو التغيير الاجتماعي المتوازن في دولة ومجتمع لهما سماتهما وخصوصياتهما التي تجعل من الحديث عن التغيير وطروحاته ضرباً من اللامعقول واللامقبول لدى مسطحي الفكر .

إن مطلب التغيير هو مطلب حتمي لكافة المجتمعات الإنسانية ، وتتدخل فيه إرادة الخالق العظيم ، بما يدفع الكون وفق قضائه جلّ وعلا إلى نهايته الحتمية وهي الفناء ، وإعادة الخلق في كون جديد أبدي خالد ، ولكن وتيرة التغيير وآلياته وأهدافه تختلف من مجتمع لآخر ، وفق التكوين الخاص بأفراد كل مجتمع ، وتشير أمارات وقسمات تطور المجتمع السعودي إلى أنه مجتمع هادئ يمتص صدمات التغيير المفاجئ والسريع والعنيف ، ويفرز عليه خصوصيته ، فيسيّر التغيير وفق إرادته ، وبالشكل والوتيرة التي يراها ويرغب فيها .

ثمة من يشك ويشكك ويتشكك في التغيير الذي جرى في العربية السعودية ، ولكن الشاك والمشكك والمتشكك قد لا يحسن فهم أن التغيير الذي نقصده قد بدأ بالفكر الذي سرى بين الأجيال الجديدة من المجتمع السعودي ، بل وحتى بين الأجيال القديمة ، ولا ينبغي أبداً أن تمتد معاني التغيير محل التحليل إلى أبعاد أخلاقية قيمية ، فيتصور البعض أن التغيير يعني الانتقال من وضع سيئ أخلاقياً وقيمياً إلى آخر أحسن من الناحيتين ، ولكن التغيير يعني الانتقال من وضع أخلاقي وقيمي معين إلى وضع آخر أخلاقي وقيمي كذلك ، ولكنه انطلاقة نحو الترقي بكلية الوجود الإنساني إلى غايتها .

ثم شمل التغيير كذلك السلوك ، وكان التغيير في السلوك أكثر وضوحاً بطبيعة الحال من التغيير في الفكر ، وإذا كان التغيير في الفكر يعني الثقافة ، فإن التغيير في السلوك يعني الحضارة ، وكأن التغيير في مجتمع العربية السعودية بعبارة أكثر دقة يعني تغييراً ثقافياً وحضارياً ، ومن المجدي في هذا الخصوص وفي هذا الموضع أن نوضح سبب تشكك البعض في التغيير في مجتمع العربية السعودية ، فنقول بأن التغيير لم يسفر عن آلياته وعملياته وتفاعلاته ولكنه أعلن عن نتائجه وإفرازاته !

إن حتمية التغيير في المجتمعات الإنسانية عملية مركبة إلى درجة التعقيد ، فالتغيير له دواعيه ومبرراته ، ثم له ظروفه ومعطياته ، وللتغيير كذلك فواعله وآلياته ، وللتغيير أخيراً أهدافه ونتائجه ، ويستحيل على مجتمع من المجتمعات البشرية أن يفلت من حتمية التغيير .

ولقد كان المجتمع السعودي هو أهم فواعل التغيير ، فهو الذي استحضر الدواعي والمبررات ، وهو الذي هيأ الظروف والمعطيات ، وهو الذي ابتكر وأبدع الآليات ، وهو الذي خطط ورسم الأهداف ، وهو أخيراً الذي أبرز النتائج واستثمرها ووظفها ، وكل ذلك في هدوء وسلاسة ورشد ليثبت أنه مجتمع عبقري !!     

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.