الرئيسية » تحرر الكلام » مسافة ففاصلة ..ثم نقطة!

مسافة ففاصلة ..ثم نقطة!

لستُ ممن يقولون بالمسامحة على إطلاقها، بخاصة مع أولئك الذين مددنا إليهم أيدِ خضراء بالمعروف، وكانت قلوبنا عندها بالغة النداوة، فخانوا الأخضر منا، وأطفأوا فرحة المعروف لمجرد أنهم كرهوا أن تكون هناك رائحة مسك، ليست كتلك التي في زجاجات، بل كشذى وطهارة الورود على أغصانها، ولأنهم يرون طعم المعروف مذاقاً يستدرجهم، وقد يملأ الكون من حواليهم خيراً، فلا يجب الاستسلام إليه، بل الأصل، لديهم، خيانة الأخضر.

   لستُ من دعاة المسامحة التامة الكاملة، وتزيين الأوراق وتحبير الكتب باللون الوردي، ثم الاستشهاد بأن الحياة بقاؤوها قليل، فلا داعي لإردائها وقتلها بتذكر ما يعكر صفوها، كما أني على الطرف الآخر لستُ مع تذكر ناكريّ الجميل والمعروف طوال الوقت.

     أتذكر الفاصلة الصغرى والكبرى، المنقوطة وغير المنقوطة كلما عبر إلى حيّز الوجود الذي أراه.. إنسانٌ حاول جرح يد أمتدت له بالخير، أتذكر عندها الفاصلات في الحياة، وأن الأخيرة قليلة، وأن مثله في الوجود أيضاً قليل لكن لا ينبغي، أبداً، فتح صفحة جديدة معه، وكأن شيئاً لم يكن.

    عندها أستعيد أقول العلماء الثقات عن سلامة الصدر وحسن الشعور نحو الآخرين، يعجل بالقدوم إليّ شعورٌ بأن الاستفادة من الدروس المريرة يقتضي مرحلة وسطى، بين اعتبارها كأن لم تكن، وتذكرها طوال الوقت بما يفسد رونق الخضرة في معالم الطريق والنفوس، كما أن اعتبار الأمر كأن لم يكن، وبالتالي السماح لأولئك الذين لم يكونوا أهلاً للثقة بأن يكونوا في مرمى “حسن الظن” من جديد..غير وارد من الأساس.

    حينها أجد في النفس تماماً .. مدينة عامرة مزدهرة اسمها:

ـ مَنْ ذاق عرف..!

  البعض يصف دواءً للشعور الذي لم يقاربه من قبل أو حتى يخطر له على بال.

   وأتذكر خير الخلق، صلى الله عليه وسلم، وهو يقول يوم فتح مكة “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، أورده ابن إسحاق في السيرة وضعفه علماء الحديث،  ولم يكن الرسول العظيم ليقول “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن”. رواه مسلم، إلا وقد قدر عليهم، واستطاع رد شرورهم عن نفسه والصحابة الكرام، ورغم هذا أمر بقتل نفر منهم، ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة المعظمة، والشاهد أن ليست المسامحة باباً مفتوحاً فلا يغلق بلا حد.

   كما أتذكره، صلى الله عليه وسلم، أحد العرب وقد تمكن منه الرسول العظيم بعد غزوة بدر، ثم انقلب عليه، فلما قدر عليه مرة أخرى، فقال له الرسول العظيم قولته التي لا تُنسى:

ـ والله لا تمسح عارضيك بظهر مكة وتقول خدعتُ خدعتُ محمداً مرتين!

أو كما قال، صلى الله عليه وسلم، وأمر بقتله. رواه ابن هشام في سيرته وضعفه آخرون.

   فليست المسامحة على طول الخط بحل، وليس الاحتفاظ بالمشاعر القاتمة اللون بأمر جائز لدى عاقل، ولكنها المسافة الوسطى بين الذكرى السيئة والدرس المستفادة، التي تجعلنا نبتسم لـ”هؤلاء” ولكن نتعامل معهم بحذر يتناسب “طردياً” مع اخطائهم.

وتلك بداية المسافة، لمن يعرف وسر هذه الحياة.

   هذه المسافة مؤلمة بالتحديد، فبعض التجارب مع البشر لا حاجة لمن لم يعرفها لكي يتحدث عنها، او لأن يفكر في كنهها وتكوينها، بل بعض التجارب الخلو منها مدعاة للحمد.

    تلك هي المسافة تماماً حين نقلب النظر فيها بين غيظنا من أحدهم ثم اكتشافنا أن الأمر لا يستحق عناء الرد.. بما يمنعه من مراجعة الأمر بخاصة في بسيط المواقف لديه.

    وهي المسافة نفسها التي تعلمنا أن بين إعمال الفكر لرغبة نفع البشرية، وبين التطلع إلى الإجرام، وزيادة الأرصدة الخاصة في البنوك، والسير على رفاة البشر مسافة ليست بالبعيدة على المحتالين.

    تلك التجارب التي تصقل وعينا بالحياة فتزيدنا ألقاً وتفهمنا أن بين الخيانة والتمسك بما آتانا الله مسافة تضيق أحياناً في وقت الأزمات، لكن السعيد  الذي يتمسك بالقرب من رب الوجود.

   وتلك نفسها هي المسافة بين الرغبة في التخفف من ملل النفس حين المحن، وبين التصبر والتمسك بما لدى الله تعالى.

   وهي المسافة بين الضيق من الأشخاص والأشياء أحياناً، والاستعانة بالله وعدم العجز الذي علمنا الرسول العظيم إياهما.

   فإن سامحنا كل مخطىء وتعاملنا معه رغم حرصه على ما لا يرضي الله، فإن فعلنا وأوغلنا في المسامحة، فقد ننسى أن في المسافات والفراق مسافة خاصة بالتباين والاختلاف والمفاصلة، ومن ثم الولاء والبراء.

  كن وسطاً يحلو لك ما بعد الحياة .. فإنما الدنيا سنحياها على كل احوالها فما أجمل أن يكون هذا بالله، وفيه تعالى.

   مسافة الوجود عمر ركوبك دراجة أو قل سيارة أو حتى باخرة فقطاراً، عمرك نفسه مسافة سهم أطلق عليك بميلادك، ومقدار حياتك مدى سفره حتى الوصول إليك.

   وأنت في مقعدك نحو الخاتمة تذكر أن رحلة السفر، هذه، ليست المقصودة، وإنما ما بعدها فلا ترتح إليها، ولا تركن، ولا تستعذب من الأعداء ما لا يمكن قبوله، وبعض الأعداء، لو تدري بالغ التخفي يحمل ملامحاً قريبة، ويرتدي ثياباً مشابهة.

   ليست الحياة لمرضاة الآخرين من حولك، وحبذا لو رضوا، ولكنها سر نحو نقطة، فإن كان العمر مسافة بتجاربه، الحلوة حيناً والمرة أحياناً، وإن كان المختلفون من البشر فاصلة فيها، فعايش التجربة واستفد منها إلى أقصى قدر فإنما انت في النهاية مقبل على نقطة تنهي حوار حياتك، والموعد الله الأعظم!

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.