الرئيسية » تحرر الكلام » على جناح الليلة الثانية بعد الألف “1”

على جناح الليلة الثانية بعد الألف “1”

الفتى “عُمّري” لين الطباع، هادىء الأعصاب، ثابت النفس قوي الجنان محب للدنيا لكن و”الطهر” قبل أي شىء، وآتاه الله الدنيا من حذافيرها سكناً، وقلباً محباً ينتفض دفاعاً عنه، وسيارة تُنمى، ومؤسسة لا يحلم بها الذين قاربوا مفارقة الحياة في “عاصف المهنة” ..فقط “يخون”.

   كان الفتى صغيراً ولكن القلب منه كان وما يزال غضّأً طرياً أخضر “فزدقياً”، عامراً بالإيمان بأن الظلام أول درجات الظلم وآخرها المحال، وأن “الليالي” التي عنفته وراحت منه هباء منثوراً في “جامعة المنيا” ما كان له أن يُذيق قسوتها أحداً من البشر.

   هناك كان يبكي لوعة فراق الأحباب فيما الحياة منه وإليهم في القلب تمتد، ووجود من لا يريد في حياته، في حالك الظلمة منه هناك تم “ثقب القلب”، إذ يسير في المساحة الفاصلة من كلية الآداب حتى كلية التربية، ومن كلية التربية حتى مدينة الزراعة القديمة، كانت مستشفاً فصارت مدينة للطلبة، ولما ترقى فيما يراه “فشلاً” نال جزءً من غرفة في مدينة الزراعة الجديدة، ولأنه عانى فقد الأحبة مبكراً فقد كان يظل في “مدينته” بعد انصراف الرفاق وانفضاض الجمع من حوله وعنه، يراقب السماء ويرعى الهدوء ويتمنى أن تتوقف الحياة منه وإليه، أن يغادرها كما جاءها لا منه ولا عليه.

    الليالي التي سار فيها، ولم يسر إليها ولم يردها، وهرب من جميع ألوان طيف عيون الفتيات، كان يعرف حجم الشوق بداخله إلى ما لا يدرين ولا يعلمن، ويشك أن الحياة ستجعلهن يدرين أو مجرد يدركن، ويعرف أنهن يُعجبن منه برونق الشباب الحلو المُحيا فيما “البركان” بداخله.

    وهو يقطع “استاد جامعة المنيا” ليصل إلى الباب الخلفي لكليته، وهو لا يعرف رابطاً بين مئات الأفندنة من “خيّرة” الاراضي الزراعية تُبنى الجامعة عليها، وبين شركة توزيع “أمواس معدة للحلاقة” في اليوم الجامعي الأول على أبواب الجامعة البعيدة عن مبانيها بأكثر من كيلو متر ينبغي ان يقطعها على قدميّه كل صباح ومساء، وهو لا يدري سبباُ لملاصقة سور “أستاد المنيا” للجامعة، وهو لا يعرف سبباً لكون “باب الجامعة” يساوي مئات الطلاب “واقفين” فوق بعضهم سوى التنكر للإنسان الداخل منه، كما كان يرى نفسه غريباً عن الحرس يلاحق الطلاب يسألهم عن عناوين بيوتهم لينتقي أيّهم يبلغ عنه السلطات، ولا الطعام الذي كانت أوانيه تغرق في مياه المجاري، وكان يراها رأي العين، ولا عن مرض “الدوسنتريا” اقتحم فضاء أحب الأصحاب إلى القلب.

     كانت الأسئلة في جوف الليل تتمادى منه وفيه، بقدر إجابة “مُنى” المُلخصة للحال:

ـ إنني “مشتتة” مقسومة بين أهل متباعدين، ولديّ شىء من المال، وأعرف فيك قلباً صادقاً ونقاء، أو تعرف “فتاة” خطبت رجلاً ..فإنني لأريدها منك؟!

  عجز عن الإجابة، لم يكن يريد سفراً إلى البلد شبه الخليجي معها، لم يكن يريد عملاً بـ”المهنة” التي عاش عمره حتى “تُجبره” بلده على التخصص منها وفيها، قالت له:

ـ معي سأخفف عنك من عنفوان أحلامك .. ستجد نفسك آخر ..

   وهي تسمعه همسها، محاولاً بث الحياة، من وجهة نظرها في قلب عانى انسحابها مؤقتاً:

ـ لا فائدة معك .. ولم أرد من الحياة “غيرك”!

    هذه الليالي أورثته المرارة:

مضيّه مع “منى” و”أكرم” مرة من المدينة الجامعية حتى المنيا المحافظة ..ثلاثة كيلو مترات، قول أستاذه “علي البطل” الوحيد الذي فهمه:

ـ يا بني لا تترك قلبك للمرارة، كلهن من حولك يردن إسعادك .. أختر واحدة.. ولا تبخل على نفسك، لا تجمع بين “الصعيدي” و”الفلاح” .. خذها في طريقك تُنر لك دربك، وغيّر “مهنتك” كما تشاء وهي معك!

مضى عنه دون استئذان وصوته يرن في عقله وضميره وكامل وعيه:

ـ يا فلاح .. سترسب في مادتي!

   علمته قسوة الحياة الإبداع، وهو يرى الأحباب يتنكرون له، والغرباء يفتحون أبواب القبول، لم يكن يعرف لماذا يبيع رجل كفيف الشاي على باب آداب المنيا، ولا لماذا ألقت الحياة به في هذه المتاهة؟

فقط كل الذي كان يدريه وما يزال:

   الظلم أورثه الإبداع.. ولكن الظلم عصف بكل حوايا جسده، ونما العقل منه والوجدان، الفكر والشعور..

   وفي أول حياته العملية طُلبتْ الخيانة منه ليرتقي في الحياة، أو بعد كل هذه الآلام .. يكون اختياره أن يهديها للآخرين؟!.

لكن الراحل “علي البطل” أسرّ إليه:

ـ أنت نبت منفصل يتشكل في قلوبنا، يدق بمحبته قاسي أبوابنا، لن تكون منا يا “محمد” لكنك ستكون فينا، تسمح لنا بأن ندق أعتابك لكن لا أن ندوس عليها، وكل زملائك يسمحون لأمثالي بدق عالي رقابهم، فيما “تتألم” لمجرد خطوي فوق أعتابي، وأنت، أيا “بُني” الحبيب، فإن ابني من بعدي لو وجد جنيهاً سيحبه عني، فيما ستحب يا “ابا حميد” كلماتي عني بعد وفاتي.

    كان يسافر مع المدى ليلاحق كلماته ..فيما كان حزنه أشد يسمع تارة ويرى الكلمات تضرب وتر الألم والحزن منه، ويغفو أخرى إذ لا يرى “مجرد” فائدة من القول:

ـ ستجد قرب نهاية عمرك تلك التي تقتص لفتيات الدفعة، وستلقي بنفسها عليك فلا تستطيع فكاكاً!

   كان الدكتور علي، رحمه الله، متزوجاً من الدكتورة “نادية صليب” وكان يقول له بهمس، رغم قصر معرفتيهما:

ـ يا أخي لم أجد جنون الحياة إلا لديها.. ورفضوا أن تلحق بي في “السعودية” ولكني تمسكت بها حتى النهاية!

لم يكن الدكتور علي ليعرف أن الخيانة مثل “سم الثعابين” .. زعاف إن لم نرده لأنفسنا وجدنا الذي يسقيه لمن حولنا فقط “يسمم الأجواء”، لو يكن الرجل يعرف ان “قافلة الأندال” لم تبق من طعم الهناءة شيئاً لأحد.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.