الرئيسية » تحرر الكلام » الدولة المدنية الرشيدة ثقافة وممارسة أم نظام يفرضه الدستور (3)

الدولة المدنية الرشيدة ثقافة وممارسة أم نظام يفرضه الدستور (3)

رابعاً : خصائص المجتمع المدني :

هل فكرة ” المجتمع المدني ” هذه تمثل تطوراً في المجتمع الإنساني ، أم أنها تمثل واقعاً في ذلك المجتمع ، يضيق ويتسع ، وينشط ويخمل من مجتمع إلى آخر ؟ إن كافة المجتمعات الإنسانية على مدى التاريخ ، وحتى القائمة الآن تحوي نوعية العلاقات التي يُطلق عليها ” المجتمع المدني ” ، والتي سنطلق عليها من الآن ( العلاقات الإنسانية الطبيعية ) ، وهذه العلاقات في كل مجتمع لها طبيعتها وكنهها وخصوصيتها ، التي ترتبط بما يسود المجتمع من قيم ومعتقدات دينية وشرعية ، وترتبط كذلك بطبيعة السلطة في المجتمع ، وطبيعة الوصول إليها وتداولها ، وطبيعة القوى الاجتماعية والسياسية الموجودة في المجتمع .

في إطار هذه العلاقات التي تتم بين أفراد المجتمع وقواه الاجتماعية ، تنشأ مؤسسات إنسانية طبيعية ، وهي مؤسسات إنسانية لأنها تعتمد على العلاقات الإنسانية الصرفة ، التي تتجرد من أية انتماءات قومية أو عرقية أو دينية أو طائفية أو سياسية أو اقتصادية ، وهي مؤسسات طبيعية لأنها مجردة من أية ارتباطات ذات طبيعة سلطوية ، وتتم بشكل تلقائي غير مفروض ، وإذا كانت هذه هي طبيعة هذه المؤسسات ، فإن لها كذلك خصائص وقواسم معينة ، تتمثل في الآتي :

أ ـ المؤسسات الإنسانية الطبيعية ذات طبيعة اختيارية طوعية ، ينضوي الإنسان في إطارها ، وينخرط في نشاطها برغبته ودون جبر أو قسر ، بل تحدوه الرغبة في تحقيق أهداف يحددها لنفسه ، ويمكن أن تتحقق من خلال هذه المؤسسة .

ب ـ المؤسسات الإنسانية الطبيعية تسعى نحو تحقيق أهداف أعضائها بشكل محدد والدفاع عن أفراد المجتمع ضد تجاوزات سلطة الدولة وجموحها ، فأهدافها ذات طبيعة إنسانية طبيعية ، وتحمل نفس خصائص المؤسسات ذاتها .

ت ـ المؤسسات الإنسانية الطبيعية تحتاج إلى إطار قانوني ونظام أساسي ، يحدد طريقة تشكيلها ، وهيكلها التنظيمي وشروط العضوية فيها ، وطريقة ممارساتها لنشاطها ، وهي لذلك لابد أن تُعتمد لدى الدولة ، وتعترف بها ، ويتولى أمرها والإشراف عليها إحدى الوزارات ذات العلاقة ، ومن ثم فهذه المؤسسات لابد من إشهارها رسمياً ، وهذا الإشهار بمثابة الاعتراف الرسمي بها ، حتى يتسنى لها ممارسة نشاطها ، وتعتبر هذه العلاقة بين المؤسسات الإنسانية الطبيعية والسلطة الرسمية ذات دلالة ، فهي مؤشر على أن السلطة الرسمية في نهاية المطاف تتحكم في وجود ونشاط هذه المؤسسات ، حيث أن السلطة الرسمية التي تملك الموافقة على هذه المؤسسات والاعتراف بها ، تملك كذلك سحب هذه الموافقة وإلغاء الاعتراف.

ث ـ إن وجود المؤسسات الإنسانية الطبيعية لا يعني بحال أنها في صراع أو صدام حتمي مع السلطة أو الدولة ، ولكن قد يحدث ذلك الصراع والصدام إذا استجد تعارض بين أهداف الدولة وسلوكات السلطة ، وبين مصالح أعضاء المؤسسات الإنسانية الطبيعية ، وقد يؤشر ذلك الصراع والصدام إلى ولاية وهيمنة الدولة على هذه المؤسسات ، ومراقبتها الدائمة لها ، وضبطها لمساراتها وحركاتها ، وقد يؤشر إلى أن المؤسسات الإنسانية الطبيعية تتصدى لتجاوزات السلطة .

ج ـ إن وجود المؤسسات الإنسانية الطبيعية ونشاطها تعبير عن أن الدولة لا يمكنها أن تقوم بمهمة هذه المؤسسات ، التي تتمثل في جملة التفاعلات داخل المجتمع ، التي لا تحتاج في دينامياتها وحركاتها إلى قوة السلطة ، بل تتم بشكل إنساني طبيعي ، هو في ذات الوقت وتيرة التطور الطبيعي للمجتمع البشري .

ح ـ المؤسسات الإنسانية الطبيعية تفيد المجتمع ، وكذلك السلطة في جوانب عديدة ، فهي تفيد المجتمع في تحريك التفاعلات بداخله ، وتحقيق التنمية الاجتماعية ، وتفيد السلطة في امتصاص واحتواء الكثير من المطالب والرغبات ، التي تحققها تلك المؤسسات ، وتعفي الدولة من أعباء تحقيقها .

خامساً : مبرات ودواعي إثارة الغرب لفكرة الدولة المدنية والمجتمع المدني :

لماذا أثار الغرب ومفكروه فكرة المؤسسات الإنسانية الطبيعية في هذا الوقت من تاريخ العالم الذي شهد تحولات محورية ! إن ثمة نقلة فكرية أيديولوجية تستبدل الثقافة والحضارة بالأيديولوجيا ، وقد استتبع ذلك تصدير الأفكار والقيم والمبادئ الثقافية والحضارية إلى كافة أنحاء العالم ، وفي إطار هذه التحولات جاءت فكرة المؤسسات الإنسانية الطبيعية ، وتحتاج الإجابة على هذا التساؤل إلى التفصيل التالي:

أ ـ إن ثمة حركة فكرية جادة في المجتمعات الغربية ، تستهدف نشر القيم الثقافية الغربية ، ومن تلك القيم ما عرف بثقافة ” المجتمع المدني ” أو ” الثقافة المدنية ” وهي الثقافة الخاصة بالعلاقات والتفاعلات والارتباطات التحتية بين عموم المجتمع بعيداً عن السلطة وامتداداتها ، ويعتقد مفكرو الغرب أن هذه الثقافة راسخة في عقول أفراد المجتمعات الغربية ، وقد تحولت إلى ممارسات نظمية وتنظيمية وسلوكية ، وعليهم أن يصدروا تلك الثقافة بتجاربها وممارساتها إلى كافة أرجاء العالم .

ويرتبط ما تقدم بالعلاقة التي ابتكرها علماء الغرب ومفكروه بين ما يعرف ” بثقافة المجتمع المدني ” والممارسات الديمقراطية ، وخلصوا من تلك العلاقة إلى أن تشجيع تلك الثقافة ونشرها وترسيخها في أية مجتمعات ، سوف يقود إلى ترسيخ مبدأ الديمقراطية في تلك المجتمعات ، وإن كان بعضهم قد تحدث في هذا السياق عن الاتجاه العكسي لتلك العلاقة ، فبدأ بالديمقراطية على أساس أنها سوف تشجع تلقائياً نشر ” ثقافة المجتمع المدني ” المزعومة ، ومن ثم سعى هؤلاء المفكرون وساعدتهم مجتمعاتهم على تصدير تلك الثقافة ، ومن ثم كان الحديث عن تلك الثقافة في هذه الحقبة التاريخية بالذات ، وما صاحبها من تحولات أيديولوجية وثقافية وحضارية .

وحسب رؤية علماء الغرب ومجتمعاته ” فثقافة المجتمع المدني ” سوف تتصدى للكثير من الظواهر والسلوكات في مجتمعات العالم المختلفة ، مثل العنف والإرهاب والتخلف والجهل والقمع والتسلط إلى آخره ، وسوف تُستبدل المبادئ المصاحبة لمبدأ الديمقراطية بتلك الظواهر المعطوبة ، ولا تزال رؤية الغرب ومفكريه ومجتمعاته على محك التجربة .

وبالرغم من بروز الصبغة التوجيهية الريادية على الفكرة الخاصة بالمؤسسات الإنسانية الطبيعية ، إلا أنها يمكن أن تصنف في عداد نوبات الغزو والاختراق الثقافي ، التي ازدهرت منذ أوائل تسعينيات القرن المنصرم ، والتي تجلت آثارها السريعة في زخات من الدراسات والبحوث والكتابات التي تقاطرت حول ما عرف ” بمؤسسات المجتمع المدني ” وكان العالم الإسلامي من مناطق العالم التي اهتمت بهذه الفكرة ، وبصفة خاصة أن ذلك العالم معد ومهيأ لأن يستقبل مثل تلك الأفكار ليملأ بها الفراغ الفكري والعقلي الشاغر منذ فترة طويلة ، وتجتهد مؤسساته البحثية والأكاديمية من أجل البحث عن ” مؤسسات المجتمع المدني ” وعن دورها في المجتمع ، مقتفية أثر الدراسات والأفكار التي انبعثت من الغرب .

لقد التزمت السلطة ومؤسساتها في العالم الإسلامي الصمت والحذر في كثير من الأحيان إزاء فكرة ” مؤسسات المجتمع المدني ” وسبب الصمت هو أن في هذه الفكرة ما يمكن للسلطة ومؤسساتها أن تستفيد منه ، مثل المساهمة في التنمية ، وتعليم الناس المشاركة المنظمة والفعالة ، وامتصاص حماسهم في نشاط مجد وفعال ، كذلك من أسباب صمت السلطة ومؤسساتها إزاء ما يعرف ” بمؤسسات المجتمع المدني ” أن النتائج الفعلية المؤكدة للدراسات التي اهتمت بهذه الفكرة لم تبد بعد ، ومن ثم لم يُستدل على جدوى تلك الدراسات ، بل وما إذا كان ثمة ما يمكن أن يسمى ” بمؤسسات المجتمع المدني ” في تلك المجتمعات .

ب ـ تقسيم المجتمع إلى فاعليْن : إن إبراز دور وفعالية ما يمكن أن يسمى “بمؤسسات المجتمع المدني” يقسم المجتمع إلى ثنائية تضع السلطة الرسمية والدولة ومؤسساتها في جانب ” ومؤسسات المجتمع المدني ” المزعومة في الجانب الآخر ، ومن ثم يصبح المجتمع مجالاً لحركة فاعلين : وهنا بدأت الدولة تخشى على وضعها ومكانتها ، إلا أن الدولة بسبب بروز فكرة ” مؤسسات المجتمع المدني ” أمست في مواجهة وضعين متناقضين : الوضع الأول أن الفاعل الآخر بات يواجه دور الدولة في السلطة والسيطرة ، ويقلص من ذلك الدور ، ويُظهر الدولة في مظهر الضعيف الذي يخشى تهديد فاعل آخر ، الوضع الثاني أن الفاعل الآخر وهو ” مؤسسات المجتمع المدني ” يقلص مرة أخرى من دور الدولة في خدمة المجتمع ، وفي التنمية بشكل عام ، ومن ثم تُعفى الدولة من كثير من المهام التي تريحها ، وتجعلها في حل من الالتزامات التي تؤرقها وتجعلها محط أنظار المعارضين في الداخل والخارج .

ولكن لماذا يستهدف الغرب دور الدولة في المجتمعات غير الغربية ، بالرغم من أن الدولة في الغرب لا تزال تتمتع بدور مهم وحيوي ، وتبدو أهميته وحيويته في أوقات الأزمات ! إلا أن الدولة لا تزال هي الفاعل الوحيد في المجتمع الذي يمكن أن يتصدى للتدخلات الخارجية ، أما ” مؤسسات المجتمع المدني ” فربما تكون وسيلة وأداة مستحدثة ومبتكرة للتدخل الأجنبي نفسه ، أو على الأقل لا تبدي اهتماماً وجدية في مقاومة النفوذ الأجنبي والتدخل الخارجي في صوره المستحدثة .

إن تهميش دور الدولة في المجتمعات غير الغربية يضع تلك المجتمعات في مواجهة صريحة ومباشرة مع الآخر ، ويجرد تلك المجتمعات من أية حماية ، ويتركها مكشوفة في مواجهة ذلك الآخر ، بما لديه من وسائل وآليات يصعب على تلك المجتمعات بوضعيتها المتخلفة مواجهتها والتصدي لها .

وتهميش دور الدولة وإزاحتها من المواجهة مع الآخر تلتقي مع التحولات والتطورات الفكرية التي شهدها العالم منذ بداية تسعينيات القرن المنصرم ، وكانت الذريعة هي ” مؤسسات المجتمع المدني ” فهي التي حولت الأفكار إلى واقع ، وجعلت ثقافة ما يسمى ” بالعولمة ” آلية تزيح حدود الدولة بمعناها ومفهومها التقليدي ، وتتركها حماً مستباحاً أمام تدخلات الآخر واختراقاته الثقافية والفكرية وحتى السياسية .

ولكن هل تنبه أبناء المجتمعات غير الغربية إلى استخدام الغرب لذريعة ” مؤسسات المجتمع المدني ” بالشكل الذي قدمنا له ! كثير من أبناء المجتمعات غير الغربية لا يزالون في حالة مراجعة وإعادة نظر لهذه الفكرة ولآثارها ، ومن أبناء تلك المجتمعات من لم يقتنع بالفكرة من حيث المبدأ .

ت ـ الصراع بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة : إن الأمر لم يتوقف عند التذرع ” بمؤسسات المجتمع المدني ” لتهميش دور الدولة في المجتمعات غير الغربية ، بل تجاوزه إلي خلق حالة من الصراع بين تلك المؤسسات وبين الدولة ، تحت دعوى أن تلك المؤسسات تتولي تحقيق مصالح أعضائها والدفاع عنهم في مواجهة سلطة الدولة ، وتجليات تلك السلطة ، وامتداداتها في المجالات المختلفة .

وقيام ذلك الصراع يعني أن السلطة في دول العالم غير الغربي قد اعتادت الجور علي حريات وحقوق المواطنين ، وأن ذلك الجور يحتاج إلي تصدي من أبناء المجتمع يتحقق في دور “مؤسسات المجتمع المدني” ، وهذا يعني أن ” مؤسسات المجتمع المدني ” في قيامها بهذا الدور تختلف عن دور المعارضة السياسية الرسمية التي تصارع من أجل الوصول إلي السلطة ، ولكن يمكن تصور نوع من التنسيق والتكتل وتوزيع الأدوار بين المعارضة السياسية الرسمية وبين ” مؤسسات المجتمع المدني ” ، لدرجة أن البعض يعتبر تلك المؤسسات نوعاً من المعارضة ، ولكنها اجتماعية وغير رسمية ، ويمكن أن تؤدي دوراً مسانداً للمعارضة السياسية .

وإذا كان الأمر كذلك فلنا أن نتصور أن “مؤسسات المجتمع المدني” وهي في موضع المعارضة والتصدي لممارسات السلطة ، يمكن أن تمثل موطئ قدم لتدخلات أجنبية ، ما يجعل السلطة دائمة الشك والتوجس في علاقات تلك المؤسسات وبالذات التي تتجاوز حدود الدولة .

والصراع بين ” مؤسسات المجتمع المدني ” وبين السلطة يأخذ أشكالاً عديدة ، ويتطور في أطوار شتى ، فالصراع قد يبدأ باختلاف وجهات النظر ، وينتهي بالصدام الذي يُلجئ السلطة في كثير من الأحيان إلي أن تسحب الدولة اعترافها بتلك المؤسسات ، وتقوم بإلغائها .

إن من شأن ما تقدم أن يوصلنا إلي نتيجة مؤداها أن شكل المواجهة الصراعية بين ” مؤسسات المجتمع المدني ” والسلطة الرسمية يضع الأخيرة في المركز الأعلى والأقوى والمؤسسات في الوضع الأضعف ، حيث لا تتورع السلطة من محو المؤسسات المدنية من الوجود ، وتصبح السلطة هي الأساس في المجتمع ، وتصبح ” مؤسسات المجتمع المدني ” فكرة لا يمكن أن تتحول إلي واقع إلا إذا قبلت بها السلطة ، وظلت دائماً تحت رحمتها ، وفي حوزتها ، وهذا واقع لا يمكن إنكاره .

والحقيقة أن العلاقة بين ” مؤسسات المجتمع المدني ” وبين سلطة الدولة ، تتراوح دوماً بين التعاون وبين الصراع ، مروراً بوضعية الاستقلالية بين الطرفين ، والمعيار الأساسي لسيادة أي حالة من الحالات الثلاث ، هو القواعد المتفق عليها بين السلطة و” مؤسسات المجتمع المدني ” ، وهل هذه العلاقة التي تربط بين الطرفين ذات صبغة دستورية تدعمها ممارسات وقيم ومبادئ أساسها مبدأ الديمقراطية ، أم أنها علاقة سلطوية ، تصيغها السلطة ، وتكون هي معيارها الوحيد ، وتصبح الخصم والحكم في وقت واحد ، ومن ثم يبدو وجود دستور يحمي تلك المؤسسات من جور السلطة مسألة ذات أهمية ، بل ويحافظ على ديمقراطية مؤسسات الدولة المدنية ذاتها ، وهذا ما سوف نعكف على تحليله بعد قليل .

ث ـ مؤسسات المجتمع المدني والتدخل الخارجي : ولعل آخر المسائل التي يمكن أن تثير جدلاً في هذا السياق ، وترتبط بالبعد العالمي لما يعرف ” بمؤسسات المجتمع المدني ” هي المسألة الخاصة بما يمكن أن يترتب علي تلك المؤسسات من تدخلات في شؤون الدول التي تنشط فيها وتباشر دوراً في الحياة الاجتماعية والسياسية ، وهذا يرتبط بما اصُطلح علي تسميته ” بثقافة العولمة ” تلك الثقافة التي تُشيع بين الناس في كافة المجتمعات المفاهيم والمدركات المشتركة ، والتي تنتقل من مجتمع إلي آخر دون اعتبار للحدود ، ودون اهتمام بخصوصية الثقافات وتميز الهويات .

ويمثل تمويل هذه المؤسسات والإنفاق علي دورها ونشاطها أحد أهم مداخل الوجود الأجنبي ، حيث تسعى بعض الدول إلي تمويل هذه المؤسسات في دول أخرى ، كما أن بعض المؤسسات تطلب التمويل من دول بذاتها ، وتتحسس الدول الحاضنة لتلك المؤسسات من هذا التمويل ، وتعتبره نوعاً من التدخل ، وكذلك تتوجس من نشاط تلك المؤسسات ، وتعتبرها مجلبة لذلك التدخل .

كذلك تميل بعض مؤسسات ما يسمي ” بالمجتمع المدني ” إلي إقامة تكتلات تعبر حدود الدول ، وتتجاوز خصوصياتها كمؤسسات حقوق الإنسان ، ومؤسسات النهوض بالبيئة إلي آخره ، وقد تعمد هذه التكتلات العابرة للحدود القومية إلي ممارسة أنشطة ، والدعوة إلي أفكار قد لا تتفق مع سياسات الدول التي تمارس نشاطها علي أراضيها ، فيتطور الأمر إلي مواجهة بين الطرفين ، وتتعامل الدول مع هذه المواجهات علي أنها تدخل في شؤونها الداخلية ، ناتج عن نشاط تلك المؤسسات .

وثمة حالات تتبني فيها الدول دعم وتفعيل وإقامة ” مؤسسات المجتمع المدني ” ما يجعل الأخيرة أداة مباشرة في يد تلك الدول ، تحقق أهدافها السياسية داخل الدول المضيفة ، وتمثل هذه المؤسسات تحديات مباشرة وصريحة لسلطات الدول التي تعمل فوق أراضيها ، وعليه تحدث المصادمات بين الدول والمؤسسات ، وعادة ما تنتهي تلك المصادمات بتعطيل تلك المؤسسات وتجميد نشاطها .

ودراسة رؤية وموقف المجتمعات الإسلامية إزاء تلك المؤسسات تحتاج إلي وقفة تأمل ، فالمجتمع المسلم له خصوصياته التي تميزه عن غيره من المجتمعات ، فهو مجتمع تلعب فيه الشعيرة والشريعة دوراً يمثل صلب خصوصياته وقوام تميزه ، فالشعيرة في المجتمع المسلم لها جوهر وهو العلاقة بين العبد وخالقه ، ثم لها أثرها وهو امتداد تلك العلاقة إلي تفاعلات العبد مع عناصر الوجود ، ثم تأتي الشريعة لتنظيم كافة شؤون الحياة من خلال منهج دقيق تلعب فيه الشعيرة كذلك دوراً محورياً ، وهكذا يبدو المجتمع المسلم في علاقاته الإنسانية الطبيعية مجتمعاً متميزاً ومتفرداً ، وهذا هو الذي يطلق عليه ” المجتمع المدني ” حسب الكتّاب الغربيين.

إن تكوين المجتمع المسلم تكوين طبيعي تلقائي ، يرتكز علي علاقات انسيابية سلسة بين أعضائه ، لا تتدخل فيها أي انتماءات عرقية أو دينية أو سياسية ، وهذه العلاقات بطبيعتها المذكورة تأخذ أشكالاً عديدة وصيغاً شتى ، تعمل جميعاً من أجل توطيد تلك العلاقات وترسيخها فيبدو المجتمع متماسكاً ، ولعل أهم أسباب ذلك التماسك والقوة في المجتمع المسلم ، هو اعتماد علاقات أفراده علي الشعيرة والشريعة وعلاقاتهما التي سبق وأوضحناها .

وما يوسع من دائرة العلاقات الإنسانية الطبيعية في المجتمع المسلم ، والتي تصبح تربة خصبة للمؤسسات والتنظيمات ذات الطبيعة الإنسانية الطبيعية ، والتي يسميها الغرب ” مؤسسات المجتمع المدني ” هو اعتماد تلك العلاقات علي قاعدة مهمة ، يعتمدها المجتمع لنفسه من مرجعياته الشرعية ، وهي قاعدة المسؤولية التي تحول المجتمع إلي وسط متجانس ، المسؤول فيه مكلف بأعباء ومهام لخدمة أفراد المجتمع ، ومن ثم فالمجتمع لا ينقسم إلي نوعين من العلاقات : علاقات بين الأفراد وبعضهم وعلاقات بين الأفراد والمسؤول ، ولكن كلها علاقة واحدة بين الأفراد وبعضهم ، وما المسؤول إلا واحداً منهم .

ويدعم مساحة العلاقات الإنسانية الطبيعية في المجتمع المسلم نسق من القيم الاجتماعية الإسلامية ، تتمثل في العدالة الاجتماعية ، التي تعتبر قاعدة مهمة لتحري العدالة والمساواة في توزيع ثروة المجتمع بين أبنائه ، حتى يحصل كل منهم علي حصته من ثروة مجتمعه دون نظر إلي دينه أو عرقه أو طبقته الاقتصادية أو أية انتماءات أخرى .

وتتمثل كذلك في قيمة الإخاء ، التي تسود بين أبناء المجتمع المسلم ، وهي قيمة تنشر المحبة والتكاتف في القيام بمسؤولية بناء المجتمع ، والحفاظ علي وجوده ومساندة تفاعلاته ، والعمل علي تطويره .

وتتمثل أيضاً في قيمة التكافل والتضامن بين الأفراد ، وهي قيمة عملية ، معناها الواسع يتجسد في أن كل من يملك قيمة لا يبخل بها علي من لايملك ، ويستوي في ذلك المال والعلم والصحة والقدرة علي الفعل المفيد ، ومن ثم تفيض القيم علي كل أفراد المجتمع في صورة بديعة من التكافل والتضامن ، فمن يملك القيمة يتكفل بإشباع من لا يملكها .

في إطار هذه المساحة الواسعة من العلاقات الإنسانية الطبيعية ، وفي ظل هذا النسق القيمي البديع ، تكون الفرصة مهيأة لإقامة مؤسسات وتنظيمات ، ترتب وتنظم شؤون أفراد المجتمع ، وتشبع رغباتهم من خلال فيض القيم ، الذي يفيض من أصحابه علي مفتقديه ، وفي هذا الإطار يختفي الصراع بين أفراد المجتمع والمسؤولين حيث لا سلطة ولا تسلط ولا تحكم ولا نفوذ ، بل هناك المنافسة بين كل أفراد المجتمع بما فيهم المسؤولين من أجل تحقيق مصلحة الأفراد ، التي أصبحت مسؤولية الجميع .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.