الرئيسية » تحرر الكلام » هذه النفس..!

هذه النفس..!

هذه النفس التي أدنتك خوفاً من موات الروح التي في جوفك، تلك النفس التي رأتك على شفا حفرة من النار تتلوى، تلك النفس التي عزّ عليها أن تموت وأنت حي، وأن “يقرأ” كل عابر مهما كان مهين الوجدان كتابك، وأن يتمادى كل قليل الحياء عفي الجراح، يسير بلا قدمين من ثقة، يتنفس خرابات الأرض، له أمعاء تهضم الطعام وليس لديه روح تهضم الجمال الحقيقي الأبقى..في الحياة.. بألا يقطف وردة عفيّة من فوق غصونها بحجة سد شهوة عابرة لديه ..وإن إبقاؤوها على قيد الحياة أفضل ما في الحياة، ولكنه رفض إلا “الفراغ” من حاجته.. ويدعها من بعد لأوحال الطريق تتقاذفها هاهنا وهاهناك..

عزة نفسه تلك التي منعتْ يده من أن يمد طرف النظر إليك .. فيتملى من زهوة الشباب فيك، أو تستشعر العين ارتياحاً لدى معالمك بحيث تكون عنواناً دائماً تحط لديه في الدنيا، فتفقدك في الآخرة وتفتقدها في الدار الباقية بما أسلفنا في الدنيا الخربة، تلك النفس التي أبتْ أن تزيد من خراب الدنيا ولو بوزن شعرة من خروج عن سفر التكوين، لا الذي في العهد القديم، وإنما ذاك الذي في كل العهود والمواثيق وأولها السماوية، تلك الروح التي أجلتك عن حدودها حينما هممت بالمجىء إليها في لفتة غير حسنة ذكرته بالأشواك التي تحيط بالورود لما لا تدمي ولا تجرح إلا الذي يريد الحفاظ عليها، لما تسهل الطريق لمن يريد قطافها..!

عزة نفسه التي جعلته.. حينما أبديت فتنتك إليه.. يستعير الناحية الثانية من الحياة.. فلا يلتفتْ الوجه منه.. وإنما تلتفتْ مبتعدة عنك الحياة كلها منه..من أمامه، إذ تلوي وتصعد السُّلم حزيناً مكفهراً غير مصدق إن فتنتك هذه تُرفضُ .. كانت الحياة بداخله تستعر حريقاً ..

كنت لديه غالياً بما يكفي لأن يرفع عنك طرف الوجدان والروح والنفس والعقل .. ويدعو الله أن يحفظك ويبعد عنك كل ما يقودك في طريق التلوث .. كم تآسى وحيداً لأن النهر منك استطاع عفنو الضمائر تلويثه، وكم دعا الله في خاطره أن يمكنك من تغليب الجانب المضىء من الروح على وقاحاتهم!

تلك النفس التي ما سمحت لك بالقرب إلا في حدود، وراحت عبر جراحة نادرة لنقل الدماء.. لم تسمع البشرية بها من قبل .. تسكب في تكوينك من ألق أفضل ما وُهبَه الوجود من وجود جودة الحنايا، راحت المسام تتقافز لكي ترسل إليك أعذب ما فيها من نقاء، وباح لك سر الخاطر بما لم يخبر به أحداً، وما خجل من الوجود كله أن ينقل عنه “كيلا” يتهم بالخبل، ورغم كرهه لذياك الاتهام أكمل البوح لك وحده بغربته .. لكنه، في نفس الوقت، باح لربه بما بين الخاطر وبينه، كانت النفس منه تتمنى لك أن تستطيع كبح جماح شاحنتك العملاقة في ثانية ..والتوقف قبل المنحدر القائد إلى ما لا نهاية.

إذ يرفع أنقى ما فيه عن محاسنك ويريد لك العودة إلى سنوات الصبا، وتلك الصورة البائسة التي كنت فيها في الخامسة والحيرة بين عينيك تنظر إلى الحياة في شبه توسل أن تعفو عنك، كانت تلك الصورة لديه أفضل ما لديه.. كره شلالات الجرأة في عينيك، وخضرة البريق.. وذلك اللمعان غير الخجل، معك كره للمرة الأولى بريق الأخضر، وجرأة الشلال!

تلك النفس التي أبتْ أن تدنسك، تلك النفس التي ظننت بها بلهاً لإنها ترفعتْ عنك.. في الوقت الذي لم يترفع عنك مترفع، ويرحمك بها.. فيما لا يرحمك أحد، ويحاول أن يعلمك التألق فيما الكل أمامك ينحدر، تلك النفس، لو تدري، هي التي أدركتْ فشلها للمرة الأولى في أداء مهمة غير عصيّة ولا أبية على الذين تأمل الخير فيهم طوال العمر، تلك النفس ما تألقتْ في مد اليد لنفس تغرق كثيراً، تلك النفس التي ما تعشمتْ في بشر إلا نادراً، وكان عشمها فيك جباراً من حظ كرامتها هي.. أن تنتقل إليك، وبعدها تغفر لك ما قد مضى، تلك “الأحجية” في التغيير غير معهودة، ولكن نفساً تتطلع لأن تبقى كريمة استشرفتها فيك .. تلمستْ لديك تعبيراً عن قصة رويت في القاهرة القديمة، مع الفارق، لشيخ عجوز فانِ تاه في الحواري والدروب الطريق إلى المسجد فدخل حارة للمهالك الخاصة وبأجر، وراح يسأل بائعات الهوى عن الشارع المفضي إلى المسجد، وفيما تلوتْ غير واحدة، وتحدبتْ .. ارتكنتْ على الجدار من فرط الاستهزاء واعتدلتْ جاءت مسرعة “الغرة” تلك التي قادتها قدماها إلى الخطأ ولكن الضوء الرائق الاخضر الخاص بالبردة النبوية ما يزال يتلألأ في جنبات روحها، هذه المرة دلته على المسجد، وأزاحتهن من وجهه ثم تبعته إليه بعد ساعة..

نفسٌ صدقتْ ما لا تصدق في عادي الحالات لأجلك، وتم إحراجها آلاف المرات لأجلك لما تبين لها إن “الأدب” وجميل الكلمات الجزلة العذبة لا تصالح الحياة إلا نادراً وأنك، أيا صديق في هذا المضمار، مضمار الأدب، لم تكن على مستوى الآمال في الحياة!

إن نفساً ازدهتْ بك في الخيال، واعترفتْ مراراً بإنها ستحيا معك في دنيا موازية، تلقى الجانب الحسن منك فيها طوال الوقت، بل ترفض الحقائق التي صاغها أصدقاء مشتركون ما بيننا، وجاؤوا بها معتذرين عنك فجانبهم الاعتذار وجانبك، وإن روحاً أردت مسك النهاية، وقبضة ريح الخريف، وزهوة الروح في انتفاضة النهاية، وصحوة الحياة في حديقة توشك على الاحتراق، وقبلة قدمين طالما أدمنتا التيّه ولم يلقيا ما يسد رمق العقل والروح معاً، وارتباك نفس خُيلَ إليها إنها تجد السعادة فيما تدرك إن النهاية وشيكة، إن الجميع متفقون على إن فراقك واجب اليوم .. فلما تتعمد الآن أن تطيل أمد النهاية؟

إن النفس التي شُغفتْ بك، أيا زميل، هي نفسها التي تتولى عنك، وإن الوجدان الذي أدناك وصدقك رفض أن يُدمنك، وإن الشعور الذي صادقك ابى في النهاية أن يصدقك، وإن الروح التي خاصمتك منذ البداية وجدتْ مبتغاها منك بتلك النهاية..

نفس، أيا هذا، أردتْ لك العزة فحاولت كسرها، وأرادت أخذك بعيداً عن طريق الخطأ فحاولتْ سحبها إليه، وأحبت لك الحياة فكدتْ ترديها .. كيف لها، فيما تظن أن تعود وتعرفك؟!

النفس التي قادني ألقها إلى أعتابك هي التي تنأى عنك فلا تؤاخذها، فماذا عن روح تنكسر الآن بمعرفتك؟ .. وهي التي أردت أن تمعن في بذر الألىء بك.. كيف لها أن تعاودك .. وهذا أثر فأسك؟!

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.