الرئيسية » تحرر الكلام » فتنة المحيا!

فتنة المحيا!

وطن- في ماضي الحياة كلمات كثيرة تشربها الشعور بفهم يعتمد على أمور أبرزها الثقة التامة في صاحبها، ثم الاستيعاب العقلي، وإن بقي الشعور على الهامش يبحث عن تفسير، ومن الكلمات التي لفتتْ نظري منذ استمعتها للمرة الأولى:
ـ “اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات“!
وكان أن فهمتُ الأمر على وجهه الأقرب “فتنة المحيا” أن يأتي صارف يصرف القلب عن التوجه إلى صاحبه الذي فطره وأوجده من العدم، ثم أوجد العدم طيناً وحمئاً مسنوناً ليكون شراييناً وغرفاً ودماء تقطر بنظام شديد جداً.
حدث أن كنتُ في الصف الخامس الابتدائي وشرح لنا الأستاذ “محمد حسن” وكان معلماً، رحمه الله، من أسرع الناس فهماً وتفسيراً وحركة في آن واحد، وكنا إذ نصعد السُّلم إليه نشاهد أسرة كاملة تتحرك في الطابق الاسفل وسقفها، أو جزء منه، مغطاً ببطانية ، كنا صغاراً بالغيّ الاندهاش، نرى الحياة من مسافات متفاوتة، نأتي من المدرسة بملابسنا إليه، فيما أسرة تحت “بير السُّلم” تتحرك بحرية، كان التعليم أمراً غير محبب واشتهاء اليوم الذي يأتينا فنكون على حريتنا بلا ضرب أو منع أو أوامر أو صراخ أحب إلينا من الدنيا كلها، وحتى الأمنية لم تغب عن المعلم فكان يُكثر من ضربنا ل”تجسسنا” على جيرانه، ولم نكن نعرف معناً دقيقاً لا للتجسس ولا الجيران..
قال المعلم الذي كان يُدرسُ لنا اللغة العربية فإن رأى خللاً لدى مدرس العلوم درّس لنا مكانه:
ـ الدورة الدموية سر بقاء الإنسان ولولاها لمات الواحد منكم منذ الولادة!
فانسحبتْ من لساني قائلاً:
ـ وكم ساعة بل يوماً يلزم الدورة الدموية لتقوم بعملها؟
سبحان المبدع الخلاق .. أخذنا ساعة في رسومات وتوضيح وقال المعلم:
ـ بل جزء من الثانية..أيام “إيه” الموضوع بسيط؟!
أما فتنة المحيا فلا تأخذ إلا جزءً من الثانية هي الأخرى ويترتب عليها فتنة أكبر ..فتنة الممات ..

“كالعهن المنفوش”:بشر ومطر .. يتساقطون

وعلى مدار “لحظات” متفرقة مضتْ من العمر مؤخراً إلى غير رجعة فهمتُ معنى الفتنة “تلك” فهماً مغايراً للفهم الأول الذي اقتنع وأحب بل تمادى في القبول والحب لأن الكلمات صادرة من معلم البشرية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولما يستعيّذ سيدنا محمد من أمر فلا شك في كونه أمراً أكثر من عظيم، فهمتُ معنى الحديث وقول الشاعر:
رب يوم بكيتُ فيه .. فلما صرتُ في غيره بكيتُ عليه!
فذلك يوم كنا نصعد السلم إلى بيت المعلم مع عدد من زملاء النقاء وطهر وسلامة قلب الحياة الأولى نتمنى فقط لحظة راحة في الشتاء من الدراسة لتجىء الحياة بمحنها المستمرة لا مختبرة الرغبة الاولى في الراحة بل الرغبة الدفينة الأهم في النقاء وحب الحياة دون تشويهها، والابتعاد عن كل ما يسبب ألماً للآخرين و”لنا”!
فتنة المحيا:
يالهما من كلمتين اختصرتا تاريخ حياة مئات الآلاف بل ملايين الذين يسعون فوق ظهر المعمورة من يوم خلقها الله إلى الآن! ولكل قلب مفتاح يتم عبره الدخول إليه، كمثل مفاتح الأبواب التي نعرفها جميعاً لكل باب مفتاحه الذي لا يتم الدخول إلى عالمه إلا عبره، والذي استطاع الدخول يستطيع الحفاظ على أمان الدعوة الآمنة العابرة لكن المطمئنة إليه بالدخول، ذلك الذي أخذ نسخة من مفتاح القلب ما نالها بسهولة كما يظن عشرت الملايين من الداخلين إلى أعز ممتلكات الملايين من البشر من أمثالهم، وبالتالي فإن عشرات ملايين آخرين معهم مفاتيح لقلوب العشرات من الملايين الأوائل، بمعنى أن أحدنا قد يكون امتلك مفتاحاً لقلب آخر، امتلاكاً عابراً أو دائماً فيما آخر لديه مفتاح قلبه هو، وهلم جراً إلى ما لا نهاية، وبالطبع فإن هناك نسبة من الدوائر الصغرى المتماسكة المتداخلة بين قلوب لدينا مفاتحها ولدى أصحابها مفاتحنا وتلك قمة المحبة البشرية.
والكلمتان تشيران إلى أن “فتنة المحيا” بحر بلا سقف ولا شطآن قد يلتهم حياوات بأكملها، يجفف أنهاراً مضت في مسارها منذ آلاف السنوات، يفسد أموالاً ما كان لها أن تُفسدَ لولا إن قلوباً عطنة مالتْ إلى قلوب أكثر عطانة فأحدثتْ ثقباً في التقدير، وهلم جراً إلى الموبقات والعياذ بالله، ومن أصحاب القلوب والمفاتيح من يستمر في تلك النوبات حتى ما لا نهاية، ولما تحدثه يقول لك عن القيم والشرف ومن قبل الدين أحاديث لا تنتهي، وذلك جزء بالغ الأهمية من هامش فتنة المحيا والممات!
أما أولئك الذين اعتادوا الحياة على الهامش مستلهمين قوله تعالى:”تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين” 83 القصص، وبعد عشرات السنوات من السير الحثيث المستمر نحو غاية أولى هي النجاة من فتنة المحيا، وسؤال الله النجاة من الفتنة التالية، يأتي “قادم” بمفتاح للقلب خطأ لدى “الفاتح” نفسه بنسبة كبرى، بل إن أمله في أن يفتح به واحد في الترليون، وسبحان الذي أودع في القلوب أسرارها، وجعل مفاتح فتنتها خفيّة لكنها غير مستبعدة، فيفتح المفتاح غفلة بين يديه، وتصير كنوز “التعالي” عن جميع زينة وفتنة الدنيا، أو مجرد حب الشهرة فيها بما استطاعت “يدانا”، والذكريات الجميلة، والخطط الكريمة لمستقبل العمر، والتطلع الأخضر إلى الغد، وخوف انتفاخ المسام التي طالما حرصنا على إطعامها الحلال من الجسد في القبر، وألم المساهمة في إفساد أحد من البشر لمجرد رؤيته ينحرف ونحن شهود، كل تفاصيل المغارة المنفتحة على ما لا نظن إلا خيراً يصير بين يد عابث لاهٍ، يحاول أن يدير “المعركة” لحساب نفسه، آملاً في استدارة الأمور إليه وحده، لأسباب يعلمها الله وتخصه، ولكنها أبرع فتنة يتعرض إليها عابد في محراب جمال الإله تعالى وما أبدعت يداه، وهل من محراب جمال أعز وأسمى من محرابه تعالى، ولكن شياطين الأنس والجن دائماً ما لا يغفلون!
كان الراهب في المحراب يعبد الله بعيداً عن جميع فتن الدنيا، لما عظم في عينيه أمر نفسه، واستطال في بنيان الأخلاق الذي يدعي إنه بناه لنفسه وحده بعيداً عن كل زينة للدنيا، وكان أن عرض نفسه للبلاء فوقفت بأبواب نفسه امرأة جميلة عبثت معنوياً بطهره وكادت تخرجه عن ألقه .. لولا أن عاد مستغفراً تائباً عن النظرة التي أفلتتْ عنه كمقدمة لما يشبه الهفوة بل الغفوة!
في اللحظة التي نظر فيها رأى العقل إنه مخطىء تمام الخطأ، وإنه أعز على نفسه وأغلى، ومن قبل هدفه في الحياة أعلى وأرقى، فيما “صرخت” العاطفة أن لها الحق أن تتنفس متع الحياة ما دامت حيّة .. تلك صورة فتنة المحيا، تمام الصورة لدى العابد الذي كان يحيا منذ آلاف السنين .. لولا أن أنجاه الله منها ..
اللهم سلّم من جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن!

وصارت الآمال وحيدة !

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.