الرئيسية » غير مصنف » رحيق النهاية !

رحيق النهاية !

رياحُ عاتيةُ تصارعُ جدرانَ الغرفة التى فيها نشعر بأمان عندما نضع وجهنا على وسادتنا فنذهب إلى سباتٍ سحيقٍ، الجدرانُ تحاول بقوةِ بنيانها أن تدفع تلك الرياح بعيداً  فتبتعد الرياح قليلاً لتعاود بعد ثوانى الهجوم من جديد، مازالت الجدران صامدة ، وفى لحظة ما غيرت الرياحُ مسارَ اصرارها على الإقتحام لتجتاح الغرفة عن طريق النافذة، والجدران ساكنة تتسائل : ما هى تلك الرياح الشديدة ؟ وما هو ذلك الإصرار الكبير على الإجتياح لتبديل جوانب أركان كل شئ  ؟! وأثناء لحظة السكون هذه لم يصمدْ زجاج النافذة كثيراً أمام تلك القوة صاحبة التصميم الغريب وها هى الأشياء تبدلت وتغيرت الملامح وانهار ترتيب الأماكن التى ظلت عقود من الزمن مستقرة، ضاعت ملامح غرفتنا البسيطة بعد أن ظللنا طويلاً نبنى أركانها حتى وصلت الى شكل اعتادت عليه أركاننا واطمئن له وجداننا ،ولكن مات الأمان الذى كان يدفعنا دفعاً إلى نومٍ عميقٍ، استيقظنا من نومنا وشعرنا بغربة فى مكانِ بنيناه يوماً بأيدينا وكل منا يسأل نفسه: كيف أيتها النفس فى لحظة يتحول شعور الأمان إلى شعور بغربةٍ عمياءٍ لا ترى الخوفَ القابعَ فى عينيكِ فترحمك ؟!! وهزمَ القلقُ الأمانَ وصار قابعاً فى مكانه  وعرَّت الرياحُ كل شئ بعد أن كنتِ فى مأمن ،لم تعدْ أفراحك ولا أحْزانك بعيدة عن أعينِ البشر ،وجهت رياح الفراق ضربتها لتستقر فى مركز القلب فيتسرب الدم الذى يُضَخ فينتشر فى الداخل فنبكى، دمعةًّ بسبب ألمَ الضربة وأخرى بسبب حيرة ما الذي أصابنا، تنتشر الدموع وتختلط بالدماء وتجري فى شرايين الأعماق ونحاول جاهدين أن نتحسس بكفتى يدينا أعماقنا لإيقاف ذلك القهر الذى اصبح يسري  فينا بلا رحمة، فنعْتصِرُ دواخِلنَا حتى نوقِفَ ذلك الشئ الذى يخترق أركاننا لعل أعماقنا تخرج حية من ذلك الصراع،وحتى لو حدث ذلك سنخرج بقايا إنسان كَحُطامِ سفينة كانت تُزيْنَ يوماً البحارَ وتحولتْ إلى أشلاءٍ تبعْثرت هنا وهناك ووجَب الآن رفع أنقاضها حتى تعودُ المياه إلى صورتها الجميلة.

منْ منا لم تعْتَصِره مخالب الفراقِ وفقد عزيزا لديه سواءً بإرادة قدرية كالموت او بإرادة بشرية فيها ابتعاد ووداع، من منا لم تفارقْه ضحكات بعد ان عششت بداخله ، وكم منا اجتاحت رياح الفراق غرفته وفى لمحة وجد من كان بين يديه بعيداً حتى عن عينيه وقطّعتْ رياح الفراق ذلك الخيط الرفيع الذى ربط من أحببناه بحياتنا لتذهب به إلى حياة بعيدة ،إحساس مرير ولكن العلقم عندما تراهم ها هم قد اعتبروا حطامنا مجرد أشياء لابد من إزالتها للمحافظة على شكل جمالى مزيف .. فهناك فراقُ من نوعِ اخر قد يكون أشد وطأه، يسكننا عندما يفارق القلوبُ شعورَ الأمان في وطنِ يجري في شرايينها، فقد أردنا الوطن كغرفتنا البسيطه الأمنه وهم أرادوه كضجيجِ رياحِ وأصوات ثكالي وأرواح ثائرين ودماء مصابين ، صارت الغرفة تتأوه،  فلم يعد فيها حتى مكان للنوم أو حتى الوقوف مرفوعي الرأس ،حتى موضع القدم لم يعد له مكان، فهنا أم شهيد تمسك بتلك الرصاصه التى أخرجتها من جسد إبنها عندما ودعته إلى مثواه الأخير ، لم يعد هناك إلا مكان وحيد فى ركن ذليل من أركان تلك الغرفه فيه فقط نستطيع الجلوس فى انتظار رصاصة او قضبان سجن لو فكرنا الاعتراض فى مظاهرة سلمية ،وهناك أم أخري تناجى إبن قلبها بعد أن رأت قاتليه أحرار طلقاء واعتبروا نحيبها مجرد حطام لابد وأن يزال، فتهاتى بصوت مبحوح ، فيتلاقى صوتها المبحوح مع روحها التى صارت معلقة يوماً على الارض ويوماً مع إبنها فى السماء ، نصف وجع على الارض ونصف أخر فى السماء.

اجتمع نصفى الوجع ليلتقيان فى روح واحدة ذهبت تتناول الطعام مع إبنها كعادتها ولكنها لم تجده ووجدت المائدة التى طالما جَلسا عليها صارت حُطَام ،فتتكلم الروح : حدثينى أيُتْها المائدة عن ما جري ! حدثينى عن إبنى أين ذهب وكيف صار؟! حدثينى وأجيبينى : دماءُ مَنْ هذه ؟ وهاهى الحُطَامُ تتحدث: إنْها دماءُ من كان يٌطْعِمَك بيديه ، مَنْ كان يحْتَضِنك حتى الجنون ! وفى الوقت الذى تحدثت فيه أشلاء المائدة فى ظل ضحكات سيطرت على كرسى العرش على مر العصور بعد أن ظن انه بالظلم قد استقر ،هرولت الروح لتهز بيديها ما تبقى فى خيالها من إبنها لتتحدث إليه: أستيقظ يا من أنت القلب والضنَّى فقد أتعبنى الظلام فكنت أرى النور فى عينيك ،أستيقظ فإنى أشعر بالجوع وأريدك أن ُتطْعمَنى فى فمى كعادتك ، قم فيدى صارت حمراء بعد أن كانت بيضاء وسيطر أنين الدماء عليها ، أستيقظ لتخبرنى ما الذى أصاب يدىّ ؟ عد لترى كيف أن كتاب الظلم مازالت مفتوحه صفحاته وتُكْتَب واحدة تلو الأخرى، ولم تنته آهاتها ،انهض لتخبرهم انه كان عليهم أن يفهموا أن القصاص هو بمثابة سفينة نوح التى ستنقذ الوطن مما هو فيه لكن كل حاكم تصرف بتفكير الإبن ولجأ الى الجبل كي يحميه من الطوفان ونسى خالق الجبل ، احكى لهم ماذا فعل أنين خالد سعيد فى الطغيان بالماضى القريب ، وماذا فعل تأوه معوض عادل فى حكم مجلس عسكري أراد لنا الإستمرار فى ظلمات الأمس،وماذا فعلت أوجاع جيكا فى حكم تجار الشريعه وخونة الاوطان، حَدثَهُم أكثر عما ستفعل فى حكم تجار الوطن آهات من خرج ليعترض سلميا على حكم براءة الطغيان من الطغيان فهتًكوا كبده، كل ذنبه أنه تظاهر بدون ترخيص طبقا لقانونهم القاتل،ولكن لماذا لم يقمعوا أيضا من تظاهروا للإحتفال بالبراءة ،أم أن حياة من يعترض لها ثمن ومن يؤيد لها ثمن اخر،تكلم واحكى لهم كيف ضحيت بحياتك من أجل أن ترى مصر كالبدرِ فى ليلة تمامه ،واحكى لبلادي كيف قلبي عليها انقبض ، فمن يوجه ضرباته لقيمة العدل فيها بحُجة انه يحميها يقودها الى مصير مجهول ،فلنبحث فى كُتب التاريخ اين تلك الامه التى قامت والظلم ينخر فى أساسها أين تلك السلطه التى تقدمت بأمتها وهى وائدة للأرواح ، اصرخْ فى وجه من فشل فى مواجهة الإرهاب وقمع الحريات واحتضن الفساد ، خَبِّره أن حُكمَه مات إكلينيكاً وكل ما يستطيع فعله هو وضعه على جهاز التنفس الصناعي مؤقتاً ، قل له أن عليه أن يتنَّحى وأما يوماً سيُنَّحى، فلن نرضى لأنفسنا ذلك الركن الذليل، قم أيٌها الضَنّى فإنى أشِمُ رحيقَ نهاية الظُلم والتجبر فى الارض..

 

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.