الرئيسية » حياتنا » مطرح العمانية تاريخ مكتوب على الصخور والشواطىء والوجوه

مطرح العمانية تاريخ مكتوب على الصخور والشواطىء والوجوه

 

مطرح أكبر من نقطة في الجغرافيا العمانية، إنها حالة شعرية تجتمع بها كل عناصر الجمال: الماء والخضرة والعراقة والطيور والسفن، والأسواق والباعة.
 
اكتسبت «مطرح» الواقعة على ساحل بحر عمان الذي يحدّها من جهة الشمال، شهرتها من كونها مركزا تجاريّا، فميناؤها يعد المصدر الرئيسي للبضائع في الأسواق العمانيّة على مرّ التاريخ، ومن وقوعها على ساحل البحر حظيت بمكانتها المتميّزة، وحتى اسمها له علاقة بالسفن حين تطرح مراسيها عند توقفها في مينائها، هذا الموقع جعلها تحتلّ مكانة متميّزة في التاريخ العماني، فميناء السلطان قابوس يعد اليوم بوابة بحرية رئيسة لعمان.
 
 ويقع هذا الميناء على بعد 250 كيلومترا جنوب مضيق هرمز على ساحل المحيط الهندي المحاذي لشبه الجزيرة العربية وهو حلقة وصل تمتدّ إلى شبه الجزيرة الهندية وتربط عمان بأسواق شرق وجنوب أفريقيا.
 
وعلى واجهة البحر تقف قلعة مطرح التي تعتبر من أبرز معالم المدينة التاريخية التي تؤكد عراقتها بشموخ. ويقول المهندس سعيد الصقلاوي «إن القلعة يعود زمن بنائها إلى القرن السادس عشر، وكانت وسيلة دفاعيّة تصد ّهجمات المغيرين على عمان من جهة البحر».
 
وليست القلعة هي المعلم الوحيد في مطرح، فهناك تقف قلعة بيت الفلج التي بناها السيد سعيد بن سلطان في عام 1845م وهي الآن متحف لقوات السلطان المسلحة يروي للزائرين مراحل تطور العسكرية العمانية عبر العصور.
 
وفي جولتي بها لاحظت وجود العديد من المباني القديمة، ومن هذه المباني والأبواب استلهم الفنان التشكيلي عبد المجيد كاروه العديد من الأعمال الفنيّة حيث يقول «بهرتني الأبواب القديمة في مطرح التي عشت طفولتي فيها، وكذلك النوافذ، لذا استثمرت أشكالها في أعمالي التي تتكئ على الموروثات الشعبيّة وأستقي منها موضوعاتي وألواني وخطوطي».
 
وإلى جانب تلك المباني التي تتسم بجمال الهندسة المعماريّة العمانية تقف الأبراج مطلّة على البحر، عاقدة معه حوارا طويلا، لا تقطعه السفن وهي تجوب عمان مطلقة صافراتها عند الإقلاع والرسوّ، وكذلك الأسوار القديمة ومنها سور روي وسور مطرح القديم، وأسواقها الشعبية، والكورنيش الذي يعدّ من الأماكن السياحية التي تستقطب أعدادا كبيرة من السياح والزوار من داخل السلطنة وخارجها لقضاء أوقات جميلة.
 
فمطرح ليست مكانا فحسب، بل هي تاريخ مكتوب على الجدران والصخور والبيوت القديمة والشواطئ ووجوه الباعة والملابس التقليدية، وهنا تتحول «مطرح» من مكان إلى مكانة، فما من زائر مرّ بالسلطنة إلا ووجّه خطواته نحو مطرح وما من رحّالة أو كاتب أو شاعر مرّ  بمطرح إلا واحتل مساحة من مدوّنته.
 
وعندما أبلغني الناقد عبد الرضا علي المقيم في بريطانيا أنه سيأتي إلى مسقط عن طريق البحر ضمن فريق سياحي أجنبي وسيمكث ست ساعات فقط بيننا متسائلا عن الأمكنة التي يمكن أن يراها خلال تلك الساعات القليلة قلت له «سنكون أنا والشاعر سعيد الصقلاوي باستقبالك وسنصطحبك إلى مطرح، فهو يلخّص لك المكان العماني بكل عراقته وجمالياته، وما في عمان من مظاهر سياحية تجد نموذجا مصغرا منه في مطرح: القلعة والبحر والأسواق القديمة والحديثة».
 
وحين وصل أمضى جميع الساعات في مطرح، وعندما غادر كانت ذاكرة آلة تصويره قد امتلأت بصور لا تنسى لكل ما مرّ به وشاهده.
 
 
 
وإذا كانت ذاكرة الكاميرا تمتلئ عند عتبات «مطرح» فإن المخيلة الشعرية تنطلق عند «مطرح» فعندما زار الشاعر العربي أدونيس السلطنة بدعوة من بلدية مسقط للمشاركة في الفعاليات الثقافية لمهرجان مسقط قبل ثلاث سنوات تنقّل بين أماكن كثيرة لكنه توقّف عند مطرح حيث وجد به مادة شعرية محرّضة للكتابة عن الضوء في مقابل الظلام في تسمية سوق مطرح فكان نصه «سوق الظلام… سوق الضوء».
 
 يقول في المقطع الأول منه سابقاً، سُمّيت «سوق الظلام» لاحقاً، غلَب عليها اسم «سوق مطرح».
 
لماذا، لا تُسمّى، الآن، «سوق الضوء»؟/ خصوصاً أنّ للشمس فيها كُرْسيّاً عاليا:
 
بعضُ قوائمه في المرفأ، تُحيط بها تقاليد البحر، وبعضها في حركة العمل تحيط بها تقاليدُ النهار والليل/ سوقٌ – حقلٌ للتاريخ/ تتعايشُ المذاهب، القيمُ،/ الصناعات/ وتتعانقُ أنحاءُ الأرض.
 
وبذلك جلس أدونيس على الكرسي الذي جلست عليه الشمس في مرورها بسوق مطرح، سابحا في بحيرة الضوء، ضوء التاريخ والأسطورة، ضوء الماضي العريق والحاضر المشرق الذي يغمر المكان بإشراقته.
 
ولم يقف الشاعر العماني على مسافة أبعد، فمطرح بكل تفاصيله يتغلغل في الوجدان، لذا تسلل «مطرح» إلى نصوصه، فغمرها بملامحه، ورغم أن الشاعر سيف الرحبي جاب المدن في طوافه لكن «مطرح» ظل عالقا في وجدانه فخصّه بقصيدة حب نابعة من القلب الذي ظل ينبض في المكان الأول، هذه القصيدة جسّدت التصاق الشاعر بتفاصيل ذلك المكان الذي هيمن عليه وجدانيا، لذا صارت أنشودة يرددها طلاب الثانوية في المدارس العمانية حيث اختيرت القصيدة لتكون من ضمن النصوص المقررة، هذه القصيدة تحمل عنوان «قصيدة حب إلى مطرح» وفيها يقول:
 
«حين تمددت لأول مرةٍ/ كان البحر يشبه أيقونةً/ في كف عفريت/ لأنه كان بحرا حقيقياً يسرح زبده/ في هضاب نساء يحلُمن بالرحيل/ حين تمددتُ لأول مرةٍ
 
لم أكن أعرف شيئاً عدا/ ارتجافة عصفورٍ/ في خصرك الصغير/ ليلة أخرى سأنام وأترك كل شيء للريح النابحة أمام بابي».
 
وإذا كان الرحبي قد وجد شبها بين البحر والأيقونة ليصل إلى نتيجة أن البحر «كان بحرا حقيقيا» فذلك لأن مطرح أيقونة ذلك البحر وسحره وجماله.
 
كل ّ ذلك يؤكّد أن ّ مطرح أكبر من نقطة في الجغرافيا العمانية تسترخي على البحر العربي المترامي الأطراف، إنها حالة شعرية تجتمع بها كل عناصر الجمال: الماء والخضرة والعراقة والطيور والسفن، والأسواق الشعبيّة والباعة، عنده فرش الرحّالة قراطيسهم والرسامون خطوطهم ونثروا ألوانهم والشعراء مخيلتهم.  
 

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.