دراسة منهجية تجريبية موثقة ننشرها على صفحات هذه الصحيفة
(25)
تشكيل كتائب أبناء “القذافي” الجيوش الخاصة
لقد استقر تفكير “القذافي” على أن الجيش الوطني الموحد القوي لا يُئمن جانبه ، إذ قد ينقلب عليه في أية لحظة ، ويطيح به كما فعل هو في النظام الذي انقلب عليه في الأول من سبتمبر عام 1969م ، فقرر الفصل في مسألة الجيش من خلال إجرائين متزامنين نفذّهما على النحو التالي :
الفرع الأول : الإجراء الأول : إضعاف الجيش الوطني :
لقد تحول الجيش الليبي بفعل تفكير القذافي وسلوكاته إلى مسخ إبتداءً من تكوينه ، حيث أصبح قوام عناصره كبار السن ، والمتقاعدين ، ومن يؤدون الخدمة الوطنية من الشعب الليبي لمدة شهر في العام ، وغالباً ما يتهربون من تلك الخدمة تحت اعتبارات العلاقات الشخصية والاجتماعية وأية علاقات أخرى ، وانتهى المطاف بالجيش الليبي إلى معسكرات خالية من العناصر البشرية الفعالة القادرة على القتال .
وكتتمة لهذا الإجراء اخترع “القذافي” فكرة الجيش الشعبي ، حيث يتحول الشعب الليبي بكامله حتى النساء والغلمان ـ حسب “القذافي” ـ إلى مقاتلين ، لأن الشعب الليبي أكثر حباً ووفاءً له وبالذات النساء الذين يشكلون حرسه الخاص من الجيش النظامي المحترف الذي فشل في اختبار تشاد ، والأرجح أن الفكرة مقتبسة من التجربة الإسرائيلية .
وكان الجيش الليبي كذلك هزلاً في تدريبه الذي يتولى أمره بعض المتقاعدين ممن لهم سابق خبرة في الجيش الليبي ، وأحياناً من طلاب المدارس والجامعات الذين هم أيضاً من عناصر الجيش الوطني الليبي ، الذي كان يُسعد “القذافي” أن يراه هكذا انتقاماً منه ونكاية فيه بسبب هزيمته في تشاد التي أحرجته وحطمت طموحاته .
كما كان الجيش الليبي غريباً في تسليحه ، إذ لم يقتن الجيش الليبي إلا الأسلحة الخردة و”المكهّنة” ، في الوقت الذي تغص مخازن ومعسكرات الكتائب والجيوش الخاصة بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً ، ولكنها مخصصة لكتائب أبناء “القذافي” أو ماعًرف في ليبيا بالجيوش الخاصة ، لقد كان ثمة أسلحة ثبت أثناء الثورة أن العسكريين الليبيين لم يعرفوا كيف تستخدم ولم يروها من قبل .
وأخيراً كانت العقيدة القتالية للجيش الليبي تحاكي جيوش الإقطاع في أوروبا في العصور الوسطي وبدو الصحراء العرب ، وقد اختلق “القذافي” عقيدة الجيش الليبي ، ورسخها عبر الزمن ، وهي الدفاع عن “الأخ القائد” وحمايته ، لأنه لا يمثل ليبيا فقط ، بل هو ليبيا نفسها ، وعلى ذلك أضحت ليبيا دولة بدون جيش وطني حقيقي .
وهنا لسنا بحاجة إلى شرح وتحليل العلاقة بين الجيش الليبي بشكله الموضح أعلاه وبين النظام السياسي ، فكلاهما هو “القذافي” ، فالنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحضاري هو “القذافي” ، والجيش في ذات الوقت هو من أجله.
الفرع الثاني : الإجراء الثاني : إنشاء كتائب تابعة لأبناء “القذافي” [الجيوش الخاصة] :
تزامن مع الإجراء السابق ، ولكن بشكل أكثف وأكثر جدية وصرامة ، بتدبير من “القذافي” ، وبرغبة جامحة من أبنائه وممّن التف حولهم من قبيلة “القذافي” والقبائل الموالية ، تأسيس وتشكيل كتائب وألوية تابعة لكل واحد منهم ، وأصبح في ليبيا عدة كتائب أو جيوش مسلحة ومدربة على أعلى مستوى ، حيث تم تسليحها وتدريب عناصرها على أيدي خبراء أجانب ، وهذه الجيوش تأتمر مباشرة بأمر مؤسسيها والمسيطرين عليها ، ولا تأتمر بأمر “القذافي” ، الذي ربما لا يعلم عنها إلا القليل ، ولا يستطيع توجيهها للقتال لعدم سيطرته عليها !
وقد ارتكزت العقيدة القتالية لهذه الكتائب والجيوش الخاصة على قاعدة الولاء لقائد الكتيبة أو الجيش وعلى الروابط القبلية ، التي تشكلت على تحالفات أقامها “القذافي” بنفسه ، من خلال ما قدمه من رشى لشيوخ القبائل وإقامة صداقات معهم ، وكم كانت هذه الرشى والصداقات مثار فخر واعتزاز القبائل وشيوخها ، وكانت هذه السياسة الماكرة هي السبب المباشر فيما انزلقت إليه ليبيا خلال الثورة وبعدها من اقتتال أهلي وصراعات مسلحة لا تكاد تنتهي .