البشير بن سلامة لـ”وطن”: محاولة توريث السبسي للحكم لم تكن في الحسبان وإدريس قيقة هو الذي عرّب التعليم
اجرى اللقاء عبدالحليم الجريري- ولد البشير بن سلامة بمدينة باردو بالعاصمة تونس في 14 أكتوبر 1934، زاول تعليمه الإبتدائي والثانوي بالمدرسة الصّادقية، وتابع تعليمه العالي بمعهد الدراسات العليا ودار المعلمين، ومنها أحرز إجازة في اللغة والآداب العربية.
باشر التدريس لسنوات بمعاهد تونس العاصمة، ورَأَسَ سنة 1955 تحرير مجلة الفكر بدعم ومساندة من الوزير الأوّل السابق المرحوم محمّد مزالي، كما تحمل عدة مسؤوليات حزبية وإدارية وانتُخب بمجلس النواب في حكم بورقيبة وشغل بين سنة 1981 إلى 1986 خطة وزير للشؤون الثقافية .
كتب المقالة الصّحفية والقصّة القصيرة والرواية، وله دراسات وأبحاث متنوعة في اللّغة والتاريخ، كما ترجم عديد الآثار الهامّة من الفرنسية إلى العربية..
صحيفة “وطن” التقت الوزير بشير بن سلامة في حوار صحافيّ هو عبارة عن وثيقة تاريخيّة هامّة وشهادة ثابتة على العصر، قال لها فيه إنّ الرجال الذين كانوا حول بورقيبة وتحت إمرة محمد مزالي من سياسيين ووزراء خرّبوا الدّولة التونسيّة وأهمّهم كان رشيد صفر الذي وصل به الحد إلى منع استيراد قطع الغيار وأوقف عجلة الإقتصاد بالنسبة للشركات عنوّة للإطاحة بالحكومة محمد مزالي حينها.
وأضاف أنّه كان مع تنحية بورقيبة عن الحكم ولكنّه كان يرفض طريقة بن علي في ذلك، كما أكّد أنّه مع البيان الذي أعقب تنحيته كغيره من التّونسيّين في ذلك الحين.
وعرّج بن سلامة على موضوع الإخوان قائلا إنهم يخلطون الدّين بالسياسة وهذا خطأ، كما أنّهم يريدون الرجوع بنا إلى الخلافة العثمانية مع أننا تخلّصنا منها بشق الأنفس حسب توصيفه، وشدّد على أنه انتخب السبسي ودعا الجميع لانتخابه لكنّ أمله خاب فيه -السبسي- اليوم لأنه تحالف مع حركة النهضة كما صار يعمل على تعزيز عقليّة التوريث في تونس رغم أنه يؤكّد تبنيه للفكر البورقيبي، وبورقيبة أبعد ابنه عن السلطة بجعله سفيرا في الخارج، أي أن تصرفات السبسي اليوم تتناقض مع المدرسة التي يدّعي الإنتماء لها حسب تعبيره، محاور عديدة أخرى تكلّم فيها السيد بشير بن سلامة تتعرفون عليها في هذا الحوار كاملا:
–كنت وزيرا من المثقفين الكبار لدى بورقيبة، ماذا بقي لك من تلك الحقبة في ثنايا ذاكرتك؟ وماهي الذكريات التي ظلت واقرة في ذهنك لم تنسها ولم يتم ذكرها من قبل سواء كان في ما يخص مجال الإعلام أو أشياء عن بورقيبة كانت تشدك فيه؟ أو مواقف بينك وبينه؟
-المشكل مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أنه كان ينصت إلى الأكاذيب والكذّابين، ويتخذ قرارات بناء عليها، فعلى سبيل المثال إلتقيته قبل خمسة عشر يوما من فصلي عن الوزارة بتاريخ 12 ماي 1986 وأعلمته أنه لي اتفاق مع الإتحاد السّوفياتي سابقا لبناء المسرح الوطني والمعهد العالي للمسرح وأنه يتوجّب عليّ الذّهاب إلى الإتحاد السوفياتي في 02 جوان 1986، كما أعلمته أنني سأحضر معه احتفالات عيد النصر غرّة جوان وأسافر في اليوم الذي يليه، كان ذلك في أوائل ماي 1986، وأعلمته بإحدى بنود الإتفاق الذي بيننا وبين الإتحاد السّوفياتي، وهو أن نائب وزير الثّقافة السّوفياتي الذي وقّعت معه هذا الإتفاق أعلمني أنه سيتم تقديم هدية لتونس إلى جانب اتفاق إحداث المسرح الوطني والمعهد العالي تتمثّل في تجهيزات كاملة للمباني، وقد وافقني عليها حينئذ، المشكل أنّ الرّئيس والولايات المتحدة الأمريكية لا تريدنا التواصل مع الاتحاد السوفياتي سابقا.
–تقصد العداء التقليدي بين القوّتين العالميّتين؟
-منذ زمن استقلالنا عن فرنسا، صرنا متلاقين ثقافيا مع البلدان الإشتراكية التابعة للاتحاد السوفياتي، وكان لنا اتفاقيات مع تشيكوسلوفاكيا وكل مجموعة الدّول الإشتراكية الأخرى، وكانت الاتفاقيات الثقافية جارية دون مشاكل، كما كانت هنالك زيارات متبادلة بيننا وبينهم، ودعوات لحضور المهرجانات الخاصة بهم، وعلى سبيل المثال “الباليه الروسي” الشهير الذي أقام عديد الحفلات في تونس في الوقت الذي تقلّدت فيه منصب وزير الثّقافة.
–في إطار تمازج الثقافات وتزاوجها؟ أردت إرساء حوار بين الحضارات سيدي الوزير؟
-ثمّة حوار ثقافيّ متواصل بيننا، لكن ما راعني إلا والرّئيس الراحل يقيلني في 12 ماي 1986.
–ماهو السبب وراء هذه الإقالة حسب رأيك؟
-في سنة 1985، ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية والتقيت نائب وزير الخارجية وتحادثنا بإسهاب، وقد اكتشفت أن الأمريكيين غاضبون، والسّبب أنه في ذلك الوقت كنّا نعيش تحت وطأة التضييق الاقتصادي من قبل أوروبا وأمريكا فقام الوزير الأول محمد مزالي بفتح الباب على المعاملات الإقتصادية مع الصين والخليج العربي والإتحاد السوفياتي وقرّر أن يرسل كاتب الدّولة للخارجية الرّاحل محمود المستيري إلى الإتحاد السوفياتي، عندئذ قدّم سفير الولايات المتحدة الأمريكية احتجاجا رسميا وكان ذلك في مقر رئاسة الوزراء، واستبان إن كانت تونس قد تحالفت مع الإتحاد السوفياتي أم مازالت على تحالفها مع أمريكا وأوروبا الغربية؟
فكانت الإجابة بنفي تكوين أي تحالف جديد خاصّة أنه لا يوجد أي نوع من الإنفتاح الاقتصادي على هذه البلدان الإشتراكية، لكنّني أدركت حينها، في أوت 1985 أنّ علاقتنا بالولايات المتحدة الأمريكية لن تكون مثل السّابق.
–أمريكا لن تدعمكم مستقبلا ولن تكون في صفكم؟؟
-لا، أقصد أن الولايات المتحدة أصبحت تسعى للتأثير على بورقيبة لتنحية الوزير الأوّل محمّد مزالي وعزله بسبب انفتاحه على الصّين والخليج العربي، وقد كنّا ندرك حينها أنّ المستقبل الإقتصادي سيكون بالانفتاح على الصين وبلدان الخليج وهو ما نشهده اليوم.
أكثر من هذا، في شهر أوت 1985، زارني مدير المقابر الألمانية، وأنا بصدد قضاء العطلة بمدينة “سلقطة” التابعة لمحافظة المهديّة، وقد تحادثنا طويلا قبل أن يختم بالقول باللغة الفرنسية إن “أمر الوزير الأول محمد مزالي قد انتهى وسيعقبه جنرال من الجيش جاهل وفاسد”، وقد بحثت في أمر هذا المدير المزعوم فوجدت أنّه مدير مكافحة التجسّس في حوض البحر المتوسط، أي أنه حليف للأمريكان، قدم لي هذا الشخص المعلومة التي بدوري أخبرت بها الوزير الأول محمد مزالي، وقد كان هذا الأخير على أهبة لمغادرة منصبه، ولم يكن يعتقد أن الرئيس بورقيبة سيلتف حوله البعض وانه سيحاكم من أجل ما فعله أثناء فترة توليه منصب رئاسة الوزراء، مشكل حكومة محمد مزالي الوحيد هو أنها أرادت الإنفتاح على غيرها.
-أرادت حكومته الإنفتاح على المعسكر المعادي للمعسكر الغربي الرأسمالي، مشروعان متصارعان سيدي الوزير.
–ليس هناك عداء بين المعسكرين، والدليل أن أمريكا عقدت تحالفات اقتصادية مع الصين.
-الصين أقرضت أمريكا وأوروبا أموالا كثيرة، ما علينا، المهم الآن أن نعرف هل أنّ الرئيس بورقيبة عزلك من منصبك لهذا السبب؟
–بورقيبة قرّر بتعليمات أو عبر التأثير عليه أن محمد مزالي لم يعد نافعا بالنسبة له، وشخص آخر سيخلفه وسيكون أفضل منه، فبدأ بعزل الوزراء الذين وافقوا سياسة محمد مزالي الجديدة على الإنفتاح.
-وأنت شاركت مزالي في العمل في مجلة “الفكر” لمدّة سنوات طويلة وكنت الأقرب إليه؟
–أنا ومحمد مزالي أصدقاء منذ 1955، وتوطّدت علاقتنا على مدى تلك السّنوات، وقد حملت هذه الصداقة بين طياتها إتفاقا في المفهوم السياسي والثقافي لتونس.
-كل ما يتعلق بالهوية التونسية؟؟
— كل شيء، مجلة “الفكر” هي تصوّر وامتداد للنهضة التونسية التي بدأت مع خيرالدين باشا.
-سنخصّص حديثا كاملا عن مجلة الفكر ولكن أريد أن أسألك، هل تمّت إقالة محمد مزالي لهذا السبب أم أنه هنالك أسباب أخرى مثل قراره تعريب التعليم وبورقيبة كان مع فرنسته؟
— هو لم يعرّب التعليم ولكن “إدريس قيقة” من كان سببا في ذلك، وزير التربية السابق، ولم يكن مهادنا لحكومة محمد مزالي.
-قبل ذلك تقصد؟ في السبعينات؟؟
— نعم في السّبعينات، إدريس قيقة هو من عرّب الفلسفة وسافر إلى سوريا ومكث هناك خمسة عشر يوما، وتابع التجربة السورية في التعريب وخاصة في مادة الرياضيات، والتقى ببورقيبة وأقنعه بأنه من اللازم أن يتم تعريب الفلسفة، وقد أطلعه على كراسات لطلبة وتلامذة مبرزا له عدم فهمهم للغة الفرنسية، كما أطلعه على نماذج من امتحان مناظرة السادسة إبتدائي ليبيّن له أن التلميذ لم يعد يستطيع حل مسائل الحساب والسبب يعود إلى اللغة الفرنسية وليس لمادة الحساب، ولهذا أذن الرئيس الراحل بتعريب مادة الحساب في سنوات الإبتدائي، محمد مزالي ليست له أية علاقة بمسألة التعريب وهذا ما لم يصرح به الوزير السابق إدريس قيقة، محمد مزالي كان مع وجود اللغة الفرنسية، وأكثر من ذلك أن حوّل معهد أريانة إلى معهد لدراسة اللغة الإنقليزية، وقد تم إلغاء ذلك في عهد الرئيس زين العابدين بن علي، مزالي كان متفتحا على كل اللغات وليست العربيّة والفرنسيّة فقط.
-لكنّ سيّدي الوزير يقال إنه في آخر لقاء حصل بين مزالي وبورقيبة بعد قرار إقالته، قال بورقيبة للوزير الأوّل المُقال إنه قام بسياسة تعريب واسعة وهذا مشكله معه.
–قلت لك إنّ إدريس قيقة هو الذي قام بسياسة التعريب وتحمل مسؤولية ذلك محمد مزالي، هذه أكذوبة كبيرة.
-طيّب نعود إلى مجلة “الفكر”، رأست المجلّة لأكثر من ثلاثين سنة، لماذا إنتهت وماهي الصعوبات التي اعترضتكم للمواصلة؟
— إنتهت المجلة بنهايتنا السياسيّة، لم يكن في إمكاننا بيع الإشتراكات أو الكتابة فيها، كان ذلك على يد يورقيبة، ولكن في واقع الأمر على يد الأمريكان، والأداة والآلة هي زين العابدين بن علي منذ أن وقعت تسميته مديرا للأمن الوطني وبعد ذلك كاتب دولة للأمن الوطني، إذ أصبح يزور بورقيبة وتجاوز صلاحيات رئيسه الأول محمد مزالي، كان كل وزير أو مدير أمن وطني في حكومة مزالي يفعل ما يريد، فعلى سبيل المثال حادثة حمام الشط التي قصف فيها اللإسرائليّون مقر منظّمة التّحرير الفلسطينية، كان بن علي حينها يأخذ التعليمات من محمد مزالي وبعد ذلك “يتبجح” بأنه هو من فعل كل ما يتعلق بالأمر وأنه هو الذي أثّر على مجلس الأمن، محمّد مزالي كانت له الإمكانية والسّلطة والتّأثير على مثل هؤلاء الناس الذين يسعون لإزاحته من منصبه، كان كل مسؤول ليس مع حكومة مزالي يعمل على تخريب حكومته لأن بورقيبة أقر في ذلك الوقت أمرا غير مسؤول وهو أنه في حالة مرضه أو موته يخلفه الوزير الأوّل، ولذلك كان الكل يتكالبون على منصب الوزير الأول، خاصّة وأن الرئيس كان في آخر أيامه متعبا ومريضا.
-فاحتدم الصّراع حول هذا المنصب وناله في الأخير زين العابدين بن علي، أريد أن أسألك في هذا المقام، ماهو الدور الذي لعبه رجل الأعمال المعروف كمال اللطيف في تعيين بن علي وزيرا أولّ؟
–كمال اللطيف هو الذي كان يأتمر دائما بأوامر الأمريكيين ومازال على علاقة بهم إلى يومنا هذا وهو المتدخّل في تعيين بن علي وزيرا أوّل.
-ماذا تتذكر من الفترة التي كان فيها رئيسنا الحالي الباجي قائد السبسي وزيرا للخارجيّة؟ كيف كان يؤدي عمله؟
–هو كان وزيرا للداخلية، من أوائل الإستقلال كان مسؤولا، بمعنى أن كفاءته من حيث المعرفة بالدولة ومعرفته ببورقيبة ومعرفته بمشاكل الدولة لا نقاش فيها ومع هذا فقد كان من معارضي بورقيبة.
-من معارضي بورقيبة، على أيّ مستوى؟؟
–الشقّ الذي يرأسه أحمد المستيري هو الشق الذي كان يدعو بورقيبة إلى ديمقرطة الحياة أكثر، لأن بورقيبة كان..
-كان قويا ومتشددا؟؟
–كانوا يعتبرون أنّ بورقيبة متماه في قراراته مع مصالح سكان منطقة السّاحل أي “السواحلية”، ولكن هذا غير صحيح، فبورقيبة ليس جهويّا وتستوي أمامه كلّ مناطق الجمهورية، ” شق أحمد المستيري” يرغب في أن تكون مقاليد الحكم بيده، والجهويات سيّدي هي ما يصطلح عليه اليوم بالـ”البلدية” الذين سمّاهم السيد السبسي اليوم في المناصب العليا للبلاد.
ليس صحيحا ما كان يروّج عن بورقيبة من أنه جهويّ منحاز لمحافظته المنستير، فأحمد التليلي مثلا كان ذا قوة في الحزب والدّولة مع أنّه أصيل محافظة قفصة، لكن هذا المعدن -معدن الجهويات- موجود في السبسي اليوم.
-يعني تعتبر أنّ السبسي كان في ذلك الوقت قادرا على الإلمام بشؤون الدولة كما تعتبر أنّه كان في صراع مع بورقيبة حول الديمقراطية؟
–كان المشكل بالنسبة لهؤلاء كلهم بما في ذلك الباجي قايد السبسي هو رغبة كل واحد منهم في احتلال منصب الوزير الأول لخلافة بورقيبة.
-الرئيس الحالي الباجي قايد السبسي كان له هذا المشكل وهذا الهوس بالكرسي؟
–هذا مؤكّد.
-وترى أنّ حلمه تحقّق؟؟
–كلهم حققوا أحلامهم دون استثناء، وخاصة هذا الشق من السياسيين، هناك شخص رحل عن الدنيا ولذلك لن أذكر إسمه، كان أحد أعضاء الحزب، وأمام عينيّ في سنة 1970، حين ما قام بورقيبة بتحوير وزاري صرح بأنّه صبر على بورقيبة أكثر من خمسة وعشرين سنة دون أن يأتي صبره بأي محصول، هؤلاء أناس لم يتصوّرا أن رئاسة الدولة تكون في يد شخص لا ينتمي لشقهم السياسي، ثمّة عنصرية جهوية أو نعرة جهوية لنقل.
-مسقط رأسك منطقة باردو وسط تونس العاصمة يعني أنّك “ولد بلاد”، أي من التونسيين “البلديّة”؟
–في البداية خالني البعض “بلدي” يعني أصيل تونس العاصمة، درست في الصادقية، ولكن أصلي من الساحل (محافظات سوسة والمنستير والمهدية وغيرها من مدن الشّريط السّاحلي)، منطقة قصور الساف التابعة للمهدية، ثم بعد ذلك تم تعييني نائبا على المهدية، ولهذا فإنّي لا أر فرقا، ولكن بالعكس أنا عشت بالساحل وتونس العاصمة
وقبل كل شيء وطني هو تونس.
-محمّد مزالي ماذا تتذكر له من مواقف؟ عملت معه ثلث عمرك.
–محمد مزالي إنسان عملي، وفي كل المناصب التي تقلدها قام بعمله، هو الذي أسّس دور الشباب، كان السبب في إنشاء المركب الرّياضي، هو الذي فرض على محمود المسعدي (أديب ووزير تربية سابق) مادة الرياضة المدرسية، هو الذي كلّفه بورقيبة بتأسيس الإذاعة والتلفزة وأعطاها الصّفة والهويّة التونسية، كانت الناس تميل إلى البرامج التي يتم إنتاجها في الشرق، ونحن من فرض الثقافة والأغنية التونسية، والأغاني والبرامج التي تم تسجيلها كانت سابقة نادرة، وقد زارني قبل أيام رضا الحجّام، كانت هناك حرب إعلامية بين إذاعة صوت العرب والإذاعة التونسية يوميا وكنت حينها رئيس الديوان للرئيس المدير العام للإذاعة والتلفزة التونسية، وكنا نسعى لبيان أننا لسنا ضدهم ولكن أردنا تقديم تصورنا الإعلامي لهم، وإذ كنا ننادي بالوطنية التونسية فنحن لم نكن ضد الوحدة العربية، ورغم هذا فقد كانوا يكيلون لنا الشّتائم جزافا.
-تعتبر محمّد مزالي مربّيا فاضلا قدّم الكثير لتونس؟
–نعم قدّم الكثير لتونس، مثلا هذه البحيرة قبالة تونس العاصمة، كان أي شخص يتجه إلى العوينة أو المطار يشتم روائحا عفنة، لأن البحيرة متسخة جدّا، فقام مزالي بالإتفاق مع رجل الأعمال السعودي “صالح كامل” بإنشاء الشّركة التّونسية السعودية، وكان على تونس أن توفّر الأرض وعلى رجل الأعمال السعودي توفير السّيولة اللّازمة والتي قدّرت في ذلك الحين بـ 17 مليون دينار تونسي، وتم تنظيف البحيرة، وأذكر يوم توقيع الإتفاق الذي ستنفّذه الشّركة التّونسية السعودية الموجودة إلى حد الآن، كان منصور معلّى وزير الإقتصاد والمالية يضحك على قول محمد مزالي إن “هذا مشروع القرن”، لم يصدقوا أنه مشروع ناجح، لكن لاحظ اليوم كم أصبحت توجد من مدينة على هذه الأرض بالقرب من ضفاف البحيرة، وذلك بفضل محمد مزالي وإذا كان لهم صنع تمثال فليضعوا تمثالا لمزالي، زد على ذلك في مجال الثقافة الذي كان رائدا فيه وقد مكنني من إنجاز المشروع الثّقافي المتّفق عليه، ولولاه لما استطعت تنفيذه.
محمود المسعدي الذي كان وزير الثقافة زمن الوزير الأول الهادي نويرة لم يستطع فعل أي شيء وذلك يعود إلى عدم إتفاقه مع رئيسه المباشر، أي الوزير الأول، جميع المشاريع التي تم إنجازها زمن أن توليت منصب وزير الثقافة والتي كانت إثنا عشر مشروعا مثل المسرح الوطني والمعهد العالي للمسرح والمعهد العالي للتنشيط الثقافي وغيرها، والجوائز التي تم إقرارها في مجال الثقافة، كان لمحمد مزالي الفضل فيها.
-إقتصاديا كانت البلاد التونسيّة سنة 1986 أي أثناء حكم مزالي تعاني من نسبة تضخم وصلت إلى حدود 14 بالمائة، أي أن الدّولة لم تكن آمنة بالقدر الذي تتحدّث عنه، ما رأيك؟
–لأن الناس الذين كانوا تحت إمرة محمد مزالي بما في ذلك رشيد صفر هم الذين خرّبوا الدّولة.
-تعتبر أنّهم كانوا مخرّبين؟ كانوا حجر عثرة يعني؟
–أجل، فمثلا، وزير المالية رشيد صفر بعد أن غادر منصور معلّى المنصب في سنة 1983 بعد أحداث الخبز، وصل به الحد إلى منع استيراد قطع الغيار، عجلة الإقتصاد وقفت بالنسبة للشركات بمعنى أنّ هنالك أناسا خرّبوا الإقتصاد عنوّة للإطاحة بالحكومة الموجودة التي يقودها محمد مزالي.
-كانوا عقبة كئداء أمام أداء الحكومة من أجل إسقاطها؟
–أجل، هذا أكيد.
-ولكن هذا يدل على أنهم كانوا مطايا في يد الأمريكيين الذين يتآمرون على محمد مزالي !
–بطبيعة الحال.
-طيب، وماهو رأيك في الوضع الذي آلت إليه الأوضاع السياسية في تونس بعد إنقلاب 07 نوفمبر 1987 ؟ هل أحسست بنوع من الطمأنينة بعد إزاحة بورقيبة الذي كان مريضا؟
–أنا كنت مع تنحية بورقيبة عن الحكم ولكن ليس بتلك الطريقة، وكنت مع البيان الذي أعقب تنحيته مثلي مثل غيري من التونسيين ولكن هناك أناس أسرعت للإستيلاء على الحكم.
-لم تكن راضيا على الوضع السياسي؟
-بطبيعة الحال.
-كيف تقيّم فترة حكم بن علي؟ هل ترى أنّه حكم بالنار والحديد؟
–في فترة حكمه فسد التعليم، فسدت الثقافة، فسد الإقتصاد، خاصة بعد ظهور تلك العائلة.
-تقصد عائلة الطرابلسية؟
–الطرابلسية وغيرهم، والرشوة والفساد، كل ذلك ظهر في فترة حكم بن علي.
-فترة لا تشرّفك؟
–فترة إمتدت ثلاثة وعشرين سنة، وقد تمّت دعوتي في عدة مناسبات للإنضمام إلى نظام بن علي، وهناك من قدّم لي منصب وزير ولكني رفضت.
-لأنك كنت غير راض عن النظام، هل كنت تستطيع كتابة مقالات تنتقد فيها هذا الوضع الإقتصادي وما تفعله عائلة الطرابلسية؟
–لا لم أكن أستطيع ذلك ولهذا فإنّي آثرت السّلامة، ولكنّني أهديتك رواية “اللهو الصّفر” فيها نقد غير مباشر للوضع آنذاك، مثل صاحب الشرطة الذي أسميته “زعبَوَيه”، وهو يحيل على إسم زين العابدين بن علي، إسم فارسي، لم أستطع نشر تلك الرواية في ذلك الوقت وقد تم نشرها بعد الثّورة لأنّ ثمن نشرها كان السّجن، كما كان إسم “صفرويه” في هذه الرواية يحيل على الوزير الأول السابق رشيد صفر.
-نقد ساخر فيه نوع من التّلميح والغمز، وما رأيك في الوضع السياسي الحالي بعد الثورة؟
–وضع لا يبعث على الإطمئنان البتّة.
-ولكنّنا في مناخ ديمقراطي اليوم، وهناك حرية تعبير.
–ولكن أيضا هنالك آفات موجودة، مثل التّهريب والرّشوة واستكراش البعض على حساب البعض الآخر، ولهذا فإن الوضع في الظاهر ديمقراطية وأحزاب وغيرها ولكن في الواقع هنالك آفات متحكّمة فيه مثل الإرهاب.
-بإعتبار أن للإرهاب خلفية إسلامية أحيانا، أريد التّحدث عن الإسلاميين، لمّا وصل الإسلاميون إلى الحكم في انتخابات 2011 ، ماذا قلت في قرارة نفسك؟
–هو التيار الذي انساقت معه كل أطياف الشعب التونسي قبل تقدّم الباجي قائد السبسي للإنتخابات كمناهض له، قلنا للناس أن يدلوا بأصواتهم للسبسي، وقد صوّتنا له، ولكن للأسف بعد إستلامه منصب رئاسة الجمهورية وضع يده في يد حركة النهضة.
-سألتك ماذا قلت في قرارة نفسك حين استلم الإسلاميّون السلطة؟ ألم تسأل نفسك مثلا من أين جاؤوا؟ وكيف بعد سنوات تقليم الأظافر وقطف الرؤوس، والنّفي والسّجن، عادوا حين أصبح المناخ حرّا، عند إستلامهم الحكم ألم تقل إن هناك مصيبة قد ألمّت بالشعب التونسي؟
–نحن أناس منطقيّون، لسنا ضد النّهضة لأنها حركة النهضة فقط ولكنّنا ضدّ النّهضة لأننا نعتبر تصوّرها للإسلام خاطئا كما أنّها تخلط الدّين بالسياسة، وقد أدلينا بأصواتنا لإنسان كنّا نعتقد أن له التصوّر البورقيبي.
-يعني في إطار التدارك صوّتم للباجي قائد السّبسي؟
–نعم ولكن بعد ذلك تم خلق تحالف سياسي، ولست أعرف ماهي الأسباب التي تقف وراء ذلك.
-على ذكر الباجي قائد السبسي مرّة أخرى، كيف تقيّم حكمه؟
–مخطئ تماما، ومتناف مع ما سبق من أقواله.
-هو يقول إنّ تحالفه مع النّهضة من إكراهات السّياسة لأنّ الشّعب مقسوم بين نهضويّين ودستوريين.
–ليس صحيحا، فأخطاء السّبسي ظاهرة للعيان، والّذين أسّسوا حزب حركة نداء تونس كان هدفهم هو إقصاء النهضة من الحكم، ولكن بعد ذلك هو الذي أفسد الأمر كلّه.
-أفسد كلّ شيء بمجرّد أن تحالف مع حركة النهضة؟
–نعم بعد التّحالف مع النّهضة.
-ولكن ألا تر أنّ النّهضة أظهرت مدنيّة وابتعادا عن مربع العنف واليوم ليست حركة خطيرة؟
–هذا موضوع آخر، ولا نعلم إن كان صحيحا أم لا، وفي واقع الأمر نحن نلاحظ عدم تناغم مع كلام رئيس حركة النهضة كالتشدّد في المساجد والخطب التي كنّا نراها، ولا تنس أنه رفض الترحم على الرئيس السابق الحبيب بورقيبة قائلا إنه حكم عليه بالإعدام ولن يترحّم عليه.
-وماذا قلت عندما رأس المنصف المرزوقي تونس؟ وهل تعتبره مناضلا ناضل ضد الديكتاتورية؟
–إنسان له آراء ديمقراطية وأفكار كمثقف، ولكن لم أكن أعتقد أنه سياسي أو رجل سياسة، وعلى العموم، هو لم يكن حاكما فعليّا لتونس، لقد صعد على أكتاف النّهضة، والترويكا هي النهضة.
-وما هو رأيك في راشد الغنوشي رأسا؟ وأنت تعرفه منذ البدايات؟
–أنا شخصيا لا أعرف راشد الغنوشي.
-طيّب ماهو تقييمك له؟
كما قلت لك، أرفض التّصوّر الذي يطرحه حول كيف تكون تونس، نحن مع تونس الدّيمقراطية والسياسة البورقيبية، تعليم خال من الأفكار المتشدّدة، ومنفتح على الآخر.
-لو يدعمك راشد الغنوشي في تقلّد منصب وزير في إطار التحالف مع الباجي قايد السبسي، هل تقبل؟
–لقد طلبوا مني ذلك بعد الثورة، ليس منصب وزير، ولكن في إطار العمل مع المنظمات والجمعيات، الكثير من العروض أتتني منهم ولكنني رفضت.
-ألم يطلبوا منك تقلّد منصب وزير للثّقافة؟
نعم جاءني عرض هذا المنصب ولكنني رفضت.
-ألا تر أنّ راشد الغنوشي رجل صادق له مشروع سياسي بديل؟، قد نختلف معه في هذا المشروع ولكننا نظنّ أنّه صادق في ما يفعل، لعلّه يريد بناء تونس كما يقول.
–على العموم هو مع الإخوان وأنا ضدهم.
-لكنّه تبرّأ من الإخوان.
–تبرّأ ربّما ولكنّه يضع يده في يد إيردوغان، هذا الشخص مازال على صلة بالإخوان، تركيا هي كمال أتاتورك، هي التقدم، ولكنّ الإخوان يريدون الرجوع بنا إلى الخلافة العثمانية مع أننا تخلّصنا من الخلافة العثمانية بشق الأنفس، الدّول الإسلامية كلّها انهارت بسبب الخلافة العثمانية التي لم تكن تصوّرا حداثيّا على الإطلاق، أناس من العسكر يتداولون على الحكم، وجيوش إنكشارية حكمت تونس 150 سنة، تذبح وتقتل، ثم بعد ذلك أتت الدّولة الحسينيّة في 1705، لأن الأمير إعتبر نفسه تونسيا وتخلص تماما من الدولة العثمانية وإستقل عنها، عندما تضع يدك في يد إيردوغان، يعني أن توجهاتك إخوانية، قف انتهى.
-مسألة توريث السّلطة عادت إلى الواجهة؟
–هذه من جملة الأشياء التي لم تكن في الحسبان، وأقصد هذا الفعل الذي بدر عن الباجي قائد السبسي، ليست لي معرفة شخصية بابنه الذي يريد وراثة الحكم، ولكنّني كسياسي أعرف السياسيين لم أعرفه كرجل سياسة.
-مسألة التوريث هذه خيّبت أملك في السبسي؟
–الذي يقول إنه على النهج البورقيبي ثم بعد ذلك يفرض إبنه على عالم السياسة يخيّب أملي طبعا، بورقيبة كان ضد التوريث، والدّليل أنه أرسل ابنه سفيرا لإبعاده عن الحكم تماما.
-بلون آخر، ماهو رأيك في حال الثقافة والسينما والفن بعد الثورة؟
–هنالك مبدعون في مجالاتهم على قدر إمكانياتهم، ولا يجدون مساعدة من الحكومة لأنه ليس لها أيّ تصوّر ثقّافي، رغم أنني قدمت مشروعي الثقافي وتمنيّت أن يتبنّاه أحدهم، ليس لهم مشروع ثقافي، لهم وزير ثقافة يقوم بتسيير إداري لهياكل وزارة.
-ماهو رأيك في أداء وزير الثقافة الحالي ؟
–ليس لديه مشروع ثقافي، ولم يتبنّ مشروعي الثقافي الذي يتمثّل في إنشاء وكالة للإستثمارات للنّهوض بمجال الثقافة، رفضوا حتى إنجاز هذه الوكالة التي تفتح الآفاق أمام المبدعين وتحلّ مشاكلهم.
-بالنسبة لمجال الفن والسينما، ألا ترى أنه مجال آخذ في التقدّم، أفلام اليوم مثلا، ألا تعجبك؟
–أعمال فردية، أناس فرادى يجتهدون بالتعاون مع جهات مموّلة مثل فرنسا التي تقدم دعما كبيرا، وأنا لست ضدّ الدّور الثّقافي الفرنسي في تونس فثقافتنا عربية وفرنسية، وعن طريق المركز الثقافي الفرنسي بتونس تقدم فرنسا عونا مهمّا في هذا المجال، نظرة الفرنسيين هي النظرة الحداثية التي تتماشى مع تصوراتنا، ولهذا فإنّ المثقفين والمنتجين والمبدعين التونسيين مدعومون من فرنسا أكثر من الدّولة التونسية.
-أنت صاحب إصدارات غزيرة، ماهي آخرها وماذا ستنشر في قادم الأيام؟
–الآن أنا بصدد كتابة رواية عنوانها “الفتنة في غمرات العبور”، الحديث فيها يدور حول الفتنة الباشية الحسينية والفتنة اليوسيفية البورقيبية، رواية تتضمّن الخيال وفيها كلاب تتكلّم.
-على نسق ما كتبه نجيب محفوظ في جيله الثاني من الكتابة الذّهنيّة؟
–تصوّراتي لا تتماشى وتصورات نجيب محفوظ رغم أنّه كان روائيا كبيرا فإنّ له تصوّره الخاصّ، العقلية التونسية التي تتبلور بعد الثورة هي نتيجة لهذه الفتن التي تسردها روايتي.
-يعني أنّها دراسة لعقلية التونسي؟
–ليست دراسة عادية، هي دراسة بطريقة أدبية، كيف ساعدت هذه الفتن على تكوين عقلية التونسي، التي تحمل إيجابيات كثيرة لكنّها تحمل سلبيات أكثر، أعني السلبيات التي نشاهدها اليوم بعد الثورة، وكان لنا تصور آخر ولكن الثورة لم تأت بأي تصور إيديولوجي أو تفكيري أو فلسفي، هي الحكم من أجل الحكم، ولهذا، فإنّ سلبيّات هذه العقلية قد طغت هذه الفترة وستجعل من الشعب شعبا غير منتج، يتحيّل على الحياة ويتشبث بمجموعات خارجية، تلك العقلية التّونسية الوطنية والتي أساسها أن تونس أمّة بمواصفاتها وأمّة لها جذور عربية وإسلامية، وهي إذن دولة بإمكانياتها، سعت العقلية التونسية في فترتنا الحالية إلى تخريبها ومازالت تسعى إلى ذلك، أصبحت الإدارة اليوم أداة للتخريب.
-تكتب يوميا سيدي الوزير؟
–نعم، أنا أحيا للكتابة.