الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية

الجيوش الوطنية والثورات العربية

دراسة منهجية تجريبية موثقة ننشرها على صفحات هذه الصحيفة 

(28)

حركة “خليفة حفتر”والرغبة في استنساخ الحالة المصرية

كان “خليفة حفتر” الذي ينتمي إلى قبيلة “الفرجان” التي كانت تستشعر الغبن في زمن “القذافي” هو قائد الجيش الليبي في تشاد ، وقد نسب إليه “القذافي” أسباب الهزيمة وتبديد الجيش في مجاهل ومستنقعات تلك الدولة ، ما اضطره إلى الهروب خارج البلاد ، وعندما تفجرت ثورة 17 فبراير علم 2011م رجع إلى البلاد وانضم إلى الثورة ، وكان على خلاف مستمر مع قيادات الثورة بسبب مواقفه المتقلبة والمثيرة للجدل ، وتولى قيادة كتائب الثوار لبعض الوقت أو هكذا قيل ، كما أُعلن أنه تولى بعض المراكز في الجيش الوطني ، ولم يستمر بسبب طموحاته في القيادة والانفراد بالرأي .

كان خروج وانشقاق “خليفة حفتر” عن جسم الثورة الليبية إبان اشتعالها وبعد نجاحها في الإطاحة برموز نظام “القذافي” متوقعاً لطبيعة تكوين الرجل ، ورغبته الجامحة في لعب دور القيادة وشغفه بالأعمال البطولية ، وربما يرجع سبب تأخره في تنفيذ ذلك الانشقاق إلى انتظاره للفرصة المناسبة التي واتته في ظل ظروف الانقسام والتشتت والاقتتال بين فصائل الثورة الليبية ، ثم بين أزلام وحثالات نظام “القذافي” من ناحية ، وبين فصائل الثورة والجيش الوطني من ناحية أخرى .

سعى “حفتر” إلى تأسيس تحالف بينه وبين بعض الفصائل الثورية الناقمة على الأوضاع المتردية والفصائل المسلحة من أزلام نظام “القذافي” ، وقد استغرق إقناع تلك الفصائل وقتاً طويلاً لأن ما سيقدمون على فعله أمر في منتهى الخطورة .

منذ الانقلاب العسكري في مصر و”حفتر” لم يخف اعجابه بـ”السيسي” ورغبته في محاكاة الحالة المصرية ، ومن ثم لم ينقطع التواصل بينه وبين قادة الانقلاب في مصر إما بشكل مباشر أو عن طريق وسطاء من الخليج العربي ، وهو بصدد الإعداد لعملية “الكرامة” والانقلاب على الشرعية في ليبيا .

تحت دعوى التصدي للإرهاب ورغبة في القضاء على الجماعات المسلحة في ليبيا تلقى “حفتر” الدعم المادي والمعنوي من الإمارات والسعودية والبحرين والأردن ، ولم يخف الإعلام على المستويين العربي والعالمي هذا الدعم .

كذلك تعتبر الولايات المتحدة أول وأسوأ من عانى من الأوضاع المتردية في ليبيا ، إذ فقدت سفيرها في قنصليتها ببنغازي ، وناصبتها فصائل عديدة من الثوار ومن أزلام “القذافي” العداء ، وتوعدها الكثيرون بالثأر نتيجة قيامها بخطف أكثر من مواطن ليبي وإرسالهم للمحاكمة على أراضيها نتيجة ارتكابهم لأعمال إرهابية في الماضي ، ومن أجل ذلك قدمت الدعم الصريح المعنوي والمادي ـ حسب إعلامها الرسمي ـ لـ”خليفة حفتر” كما أمرت “السيسي” بمساعدته للسيطرة على الأوضاع في ليبيا ، وفرض الاستقرار كما حدث في مصر ، وهذا ما يفسر استمرار انشقاق “حفتر” لفترة أطول مما كان متوقعا .

لقد أصبح الوضع في ليبيا مرهوناً بالتوافق بين عدة أطراف ، وأصبحت الثورة على نظام من أعتى النظم الشمولية الدكتاتورية في العالم في مهب الريح ، وأصبح الشعب الليبي معرضاً مرة أخرى لأن يهان ويستذل ، أما عن الأطراف فهي :

الفرع الأول : على المستوى الداخلي :

هناك ثوار 17 فبراير ، الذين يجاهدون من أجل إنجاح الثورة ، ولا يتمنون أبداً أن يرونها تُغتال بعد أن نجحت في تقويض نظام القهر والجور .

وهناك القوى السياسية التي تدير العملية السياسية ، وتريد أن تخرج بالبلاد إلى بر الأمان ، وبدون تدخل أجنبي مربك لسياق بناء الدولة والنظام السياسي .

وهناك عصابة “حفتر”، التي اخترقها المتآمرون على الثورة وعلى ليبيا من الداخل ومن الإقليم ومن العالم ، من أجل الضغط على الفاعلين السابقين وتوجيه سلوكهما ، وهذا هو ماحدث في تونس ومصر واليمن والبحرين .

الفرع الثاني : على المستوى الإقليمي :

على المستوى الإقليمي برزت قوى لها حساباتها الخاصة التي تمثل ليبيا فيها معادلة حساسة وخطيرة :

فمصر تريد لليبيا أن تحذو حذوها ، حتى لا تعيّرها في يوم ما ، كما عيّرتها تونس بأنها ارتدت للخلف لنقطة الانطلاق ونكبت عن صراط ثورة الكرامة العربية ، وهكذا تريد لكافة دول الثورات العربية ، وفي هذا السياق لا تريد للتيار الإسلامي ومنه بالذات الإخوان المسلمين أن يتنفس الصعداء في الجارة الغربية وتتحول إلى عنصر عدم استقرار ومصدر للقلاقل !

والسعودية والإمارات والبحرين ومعهم آخرون ، يشاطرون مصر نفس الشعور ويفكرون بنفس المنطق ، ولكنهم يضيفون إلى ذلك القلق والتوتر من مغبة انتقال الثورة إلى شعوبهم التي ستنتشي بانتصار الثورة في منابعها ، وتطمح إلى أن تحتسي نخبها في أوطانها ، وبصفة خاصة أن تلك الدول حبلى بالثورة منذ زمن طويل ، ولن يطول مخاضها ، ولن تلد إلا عزة وكرامة ورشداً .

الفرع الثالث : على المستوى العالمي :

من المفارقات اللافتة أن الولايات المتحدة بدأت متابعتها ومواقفها وسلوكاتها تجاه ثورات الكرامة العربية بعدم اكتراث وفعل متثاقل ، وكانت في ذلك على العكس من أوروبا التي بدأت متابعتها ومواقفها وسلوكاتها بحماس وفعل متسارع .

أما الآن فقد حدث العكس ، إذ بدت أميركا الأكثر متابعة والأشد قلقاَ والأكبر اهتماماً والأعظم إصراراً وتصميماً على احتواء وتطويع وتوجيه نتاج ثورات الكرامة العربية الوجهة التي ترى أنها تحقق مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط ، في الوقت الذي تخلت أوروبا عن موقع الصدارة وقنعت بموقع الرديف الذي اعتادته منذ زمن .

وموضوع التوافق بين الفواعل المذكورة بمستوياتها الثلاثة ، هو أن تلتزم القوى السياسية في الداخل الليبي بما يراه ويتوافق عليه الطرفان الإقليمي والعالمي ، ويحقق أمن المنطقة ويخلصها من الإرهاب والتطرف ، عندئذ ستعلن عصابة “حفتر” إنهاء انشقاقها ، وتشرع في الاندماج مع الفواعل الليبية في عملية تأسيس الدولة الجديدة ونظمها التي تستبعد التيارات الإرهابية والتي تشجع الإرهاب وهي بالطبع التيارات الإسلامية بكافة ألوان طيفها !!

لقد بدا واضحاً أن اختلاق عصابة “حفتر” من قبل القوى الإقليمية والعالمية الهدف منه الضغط على القوى الثورية في الداخل الليبي ، لاجهاض الثورة وتوجيه الدولة المزمع إنشاؤها الوجهة التي تتفق مع توجهات السعودية والإمارات ومصر وتعادي التيار الإسلامي ، وبذا تكون الثورة الليبية قد ذهبت أدراج الرياح وخلّفت نظاماً تابعاً .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.