الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة

الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة

(12)

علاقة الجيش بالدولة الشمولية البوليسية

شمولية الدولة تتحقق بتمركز سلطاتها في شخص واحد يقتنع غالبية الناس بأنه الوحيد القادر على إدارة وتفعيل تلك السلطات ، فالزعيم القائد هو مصدر التشريع الذي يوحي به أو يوجه أو يرشد السلطة التشريعية الشكلية لتصيغة في شكل تشريعات وقوانين وأنظمة وتنظيمات ، والزعيم القائد هو الذي يقود التنفيذ في كل دوائر الدولة ، فهو ملهم المشرعين ومحفز ورقيب ومعاقب المنفذين ، والزعيم القائد هو المؤشر الذي يقود ضمير العدالة في عملية الفرز بين الحق والباطل .

وبوليسية الدولة تنشأ عندما تنتفي الحريات ، ولا يستطيع أي فرد التعقيب أو التعليق على قوانين وسياسات وخطط وأحكام الزعيم القائد ، التي تصدر شكلاً عن مؤسسات الدولة ، ويصبح الجيش والأمن رقيبان على المواطن في كل أقواله وأفعاله ، لأنهما أذنا الزعيم التي يسمع بهما ، وعيناه التي يرى بهما ، ويداه التي يبطش بهما .

الفرع الأول : الجيش هو واضع أسس الدولة الشمولية :

لقد وضع الجيش المصري الذي تم تأسيسه وتشكيله بعد انقلاب 23 يوليو 1952م ممثلاً في مجلس قيادة الثورة الذي هو نفس تنظيم الضباط السري الذي نشأ في الجيش وقام بقلب نظام الحكم ، أسس الدولة الشمولية البوليسية التي أوضحنا وفصّلنا خصائصها وواقعها أعلاه .

لقد كان “جمال عبد الناصر” رئيس مجلس قيادة الثورة هو الزعيم القائد صانع الدولة الشمولية ، الذي يتحكم في مفاصلها وسلطاتها ، لدرجة أن “عبد الناصر” أصبح هو نفسه الدولة ، ولم يعد من السهل على المحلل مهما كانت براعته أن يفصل أو يحدد معالم الدولة المصرية بعيداً عن صلاحيات الزعيم القائد “جمال عبد الناصر” التي امتدت إلى كل مفاصلها وسلطاتها واختلطت الدولة المصرية بشخصية الزعيم القائد .

لم يكن من المنطقي أو من السهل استخلاص الدولة المصرية الناشئة من بين مخالب الجيش الناشئ الذي يبحث عن شرعية أو مشروعية تمكنه من ترسيخ أركانه وتضمن له مصالحه  وتكفل لقياداته ميزاتهم في السلطة والنفوذ والاقتصاد ، فكان عليه أن ينشئ دولة وفق رؤيته ، ولم يذهب الجيش الناشئ الطموح بعيداً ، بل انصب تفكيره المباشر على الدولة الشمولية التي تذوب فيها سلطاتها في سلطات وصلاحيات الزعيم القائد “جمال عبد الناصر” .

هذه الدولة بسمتها الشمولية لكي تقوم وتفرض نفسها لا بد لها من سمة أخرى ترسخ أركانها وهي سمة البوليسية ، حتى يقر الجميع برأي ورؤية وإلهام القائد الملهم ، ويدعمه ويؤيده ، ولعل الجيش والأمن وهما أداتي القمع والكبت هما اللتان يستطيعان القيام بمهمة التجييش والتعبئة والسوق وراء الزعيم القائد ، ويستطيعان في ذات الوقت اصطياد من يتخلف عن الركب أو يعارض أو يعقب .

الفرع الثاني : الجيش يصنع الزعيم القائد الذي بيده كل مفاصل الدولة ويحميه :

مثلما أرسى الجيش المصري الناشئ قواعد وأسس الدولة الشمولية البوليسية ، صنع الزعيم القائد الذي بيده كل مفاصل الدولة ، وتحكمت صلاحياته في سلطاتها ، وظل هذا هو حال الدولة المصرية متقلبة بين أربع حالات تبدلت وتغيرت فيها شخصيات الزعيم القائد ، إلا أن أساس سمتي الشمولية والبوليسية للدولة المصرية لم يتغير وهو الجيش والأمن ، فقد حافظا متعاونين على شمولية وبوليسية الدولة ، من خلال ما يقومان به من صنع الزعيم القائد وحمايته وفرض طاعته والولاء له وليس للدولة أو للوطن ، ومن ثم كانت دائماً الدولة المصرية في خلف الصورة ولا تكاد تظهر .

فقد سهلت شخصية الزعيم القائد “جمال عبد الناصر” على الجيش والأمن مهمة صياغة الدولة الشمولية البوليسية ، انبعاثاً من الشخصية الطاغية لـ “عبد الناصر” ، التي كانت كافية ، بل وقادرة على أن تتغلغل في مفاصل الدولة ، وتبهر كافة طبقات وشرائح الشعب بالذوبان فيها والانصياع لها ، حتى ولو كانت الدولة في لحظة من اللحظات على وشك الانهيار والضياع ، عندما أراد الزعيم أن يتنحى بعد الهزيمة الساحقة للجيش في 5 و 6 يونيه من عام 1967م.

إن تأسيس وترسيخ وتطوير الدولة الشمولية البوليسية على يدي الجيش في عهد “عبد الناصر” كان فعلاً سهلاً وميسوراً حيث توافرت وتناغمت المنظومة اللازمة من العناصر لقيام تلك الدولة وفي مقدمتها شخصية الزعيم القائد ، ومعنى ذلك ان الدولة الشمولية تتمثل أول عناصرها في الزعيم القائد الذي يجمع كافة السلطات في يده ، وقد أفلح الجيش في ذلك من خلف “عبد الناصر” .

أما في عهد “السادات” فقد اختلفت شخصية الزعيم القائد المؤهل للقبض على مفاصل الدولة ، فلم يكن “السادات” الذي خلف “عبد الناصر” صاحب شخصية قيادية جذّابة ومؤثرة ، ومن ثم لم يجد تأييداً من كافة رموز النظام السياسي الذي خلّفه “عبد الناصر” ، حيث لم يقتنع الكثيرون بشخصية الرجل ، ما جعلهم يناصبونه العداء ، وما حدا به لأن يعصف بكل معارضيه في واقعة أطلق عليها “ثورة التصحيح” في 15 مايو 1970م ، وكان “السادات” مستبداً بطبعه مهما أخفى ذلك وراء مشاهد الفلاّح البسيط الودود المتحبب إلى المواطنين ، ولكن “محكمة القيم” و”كبير العائلة” و”الديمقراطية ذات الأنياب” جلّت الفكر والسلوك الاستبدادي العنيف للرجل .

بالرغم مما تقدم لم يجد الجيش بداً من التمترس خلف “السادات” الذي رسّخ لشرعيته من خلال حتمية تحرير سيناء ومحو آثار العدوان ، ذلك الهدف الذي لا يستطيع أي شخصية أو جماعة أو تنظيم في مصر والعالم العربي حتى مجرد مناقشتها ، وكان ذلك الهدف جديراً بأن يدمر كل قواعد الديمقراطية ويئد كل تفكير في الرأي الآخر أو المعارضة مهما كانت توجهاتها الفكرية والأيديولوجية ، وكفلت هذه المعطيات صناعة القائد الزعيم المؤمن الذي حافظ بكل قوة على الدولة الشمولية التي قبض على مفاصلها في إطار دعم مطلق من الجيش ، أما البوليسية فقد استمرت على حالها منذ فترة “عبد الناصر” .

وفي عهد “مبارك” رئيس الصدفة كانت المهمة أصعب أمام الجيش لصناعة الزعيم القائد ، فمؤهلات ومقدرات الرئيس لم تكن من القوة بما يدفع به لأن يحمل هذا اللفب المثير والمؤثر مهما كان قائد الضربة الجوية الأولى وأحد أهم أسباب نصر أكتوبر .

وبالرغم من المظاهر الشكلية التمثيلية للديمقراطية عبر مؤسسات هيكلية لا دور لها ، لم يكن من الصعوبة بمكان جمع كافة مفاصل الدولة في يد “مبارك” وأعوانه وبطانته ، أما الجيش فقد حزم أمره منذ معاهدة السلام مع إسرائيل ، واستقل بنفسه عبر ميثاق غليظ مع النظام السياسي ، وتضمن العقد نصاً مقدساً قوامه أن يحمي الجيش النظام الذي ركز كافة صلاحيات الدولة في يد “مبارك” ، وأن يحافظ النظام بقيادة “مبارك” على مصالح وميزات الجيش ، الذي أصبح دولة مستقلة وذات سيادة داخل دولة مصر ، وسوف نزيد تفصيل ذلك بعد قليل .

أما في أيام “السيسي” الجندي المجهول ، فدور الجيش في صناعة الزعيم القائد لا يخفى على أحد ، ودعمه حتى يئد التجربة الديمقراطية في النظام وليد الثورة ، ثم حمايته وفرضه على سدة الحكم بادي للعيان ، أما استمرار الجيش في هذا الدور فهو مرهون بمتغيرات ومستجدات يملك الشعب المصري لأول مرة في تاريخه محفزاتها ومحركاتها .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.