الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة (11)

الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة (11)

الجيش في مواجهة الثورة المصرية

في هذا المقال ننتقل إلى دراسة الحالة التي قلبت الأمور رأساً على عقب ، وكانت سبباً مباشراً في انتكاسة ثورة الكرامة العربية ، وهي حالة مواجهة الجيش المصري للثورة ، وانطلاقاً من كون أن هذه المواجهة لم تكن وليدة اللحظة أو الصدفة بل كانت نتاجاً متراكماً لتاريخ طويل من النشأة المميزة والتطور ذي الخصوصية للجيش المصري ، ثم لوضعية ذلك الجيش داخل المجتمع وداخل الحياة السياسية منذ انقلاب 23 يوليو 1952م وحتى انقلاب 3 يوليو 2013م ، ويمكننا دراسة هذه الحالة المثيرة للجدل من خلال المطالب التالية :

المطلب الأول : نشأة وتطور الجيش المصري :

نشأ الجيش المصري بالمفهوم الحرفي والموضوعي للكلمة على يدي “محمد علي” ، لأسباب خاصة بتحقيق طموحات الوالي المتمرد الجامح على الدولة العثمانية ، في التوسع والامتداد الأرضي ، ثم للدفاع عن فضاء الدولة التي تم تأسيسها ، وأخيراً من أجل القضاء على الخصوم السياسيين في الداخل ، وكان من شأن هذه النشأة أن تطبع تطور هذا الجيش بطابع خاص في تكوينه وعقيدته وسلوكاته .

وقد مر الجيش في مصر بمرحلتين أساسيتين ، الأولى مرحلة الجيش الذي أسسه الحاكم ليكون له ولأولاده من بعده ، يحقق أهدافهم في التوسع والسيطرة على فضاء واسع من الأرض ثم الدفاع عن ذلك الفضاء ، وأهدافهم في القضاء على خصومهم في الداخل وحماية حكمهم من المعارضين ، واستمرت هذه المرحلة التي لم يملك خلالها الجيش زمام أمره الفترة من 1803م حتى 1952م .

المرحلة الثانية مرحلة الجيش الذي أسس نظاماً سياسياً شمولياً بوليسياً بعد انقلابه العسكري على نظام ملكي فاسد ، كيف واجه الجيش المصري ثورة الكرامة العربية ، وكيف كان نقطة فارقة بالنسبة لثورة الكرامة العربية ، يمكن توضيح ذلك من خلال الفروع الثلاثة التالية :   

الفرع الأول : نشأة الجيش المكلّف بالدفاع عن منطقة جغرافية محددة :

كان مؤتمر لندن الذي عقد في 1840م بمثابة المؤشر النهائي لصعود نجم الجيش المصري ، وبداية مرحلة النكوص والانحدار ، وتحول الجيش المصري بعد ذلك من قوة ذات طموحات إقليمية بل وعالمية إلى قوة محدودة بالحدود الجغرافية التي سيّجته بها القوى الأوروبية في مصر والسودان، ولم يعد يُخشى من مصر على جيرانها في الشام أو في الغرب الأفريقي .

لقد تعرض الجيش المصري لنفس ما تعرضت له الدولة من تطورات وتغييرات كانت جميعها في اتجاه التخلف والتدهور ، حيث لم يكن خلفاء “محمد علي” يتمتعون بنفس حنكة ودهاء سلفهم الذي استغل كافة المواقف والتطورات الداخلية والإقليمية والعالمية لصالحه ولمصلحة نفوذه وطموحاته الشخصية ، ولم يكن يعلم أن نفس هذه الظروف والمواقف ستعيده تارة أخرى من حيث بدأ .

منذ منتصف القرن التاسع عشر لم يعد الجيش المصري جيشاً طموحـاً وحيوياً ، بل انحصر داخل حدود دولته ، وانتهت مهامه الخارجية التي كانت قد جعلت منه قوة عالمية مرهوبة الجانب ، هزمت الأتراك في معركتين متتاليتين ، وأرهبت فرنسا وإنجلترا المتربصتين ، واللتين بذلتا ما في وسعهما من أجل تثبيط ذلك الجيش وتقليم أظافره خلال العقود الأربعة من القرن التاسع عشر من 1840 وحتى 1880 ، حيث عاثتا في السياسية المصرية فساداً خلال تلك الفترة التي انتهت بالاحتلال العسكري في عام 1882 م .

بالفعل كانت العقود الأربعة التي أعقبت مؤتمر لندن فترة تحول محورية في تاريخ الجيش المصري الحديث الذي أنشأه “محمد علي” ، فقد عمدت إنجلترا وفرنسا من خلال نفوذهما المتزايد في السياسة المصرية إلى إضعاف الجيش المصري من خلال التدخل المباشر في شئونه، وجعلتا منه مسخاً هزيلاً في عدده وعدته وحتى في   هيئته وفي عقيدته .

والمتأمل للسياسة الإنجليزية والفرنسية ومعها بقية الدول الأوروبية مثل الروسية والإيطالية يلحظ أنها عمدت إلى إضعاف قوة الجيشين التركي والمصري في آن واحد ، فاستخدمت مع الأول سياسة المحاور والتحالفات والحروب والمؤامرات ، ومع الثاني سياسة التدخل المباشر عن طريق خلفاء “محمد على” مرة ، وعن طريق الحيل والألاعيب السياسية مرة أخرى .

الفرع الثاني : الجيش أداة الحاكم للتوسع الخارجي :

نشأ الجيش المصري لتحقيق هدف محدد لـ “محمد علي” الحاكم الذي أنشأه ، وهو تحقيق أغراضه الشخصية التي تحددت في الانتصار على تركيا وتأكيد استقلاله عنها ، ثم التوسع منطلقاَ من مصر للسيطرة على السودان العمق الاسترتيجي لمصر ، ثم السيطرة على إقليم الحجاز في الشرق ، والسيطرة على فضاء أرضي في الغرب من الصحراء الليبية .

وهكذا حقق جيش “محمد علي” هذه الأهداف منذ نشأته وحتى رحيله ، وواصل الحفاظ على الفضاء الجغرافي للدولة الناشئة بقيادة ولديه إبراهيم ومراد ، ويرتبط عضوياً بذلك أن الجيش المصري لم يكن جيش دولة مصر بل كان جيش حكام مصر ، وهذا هو الوضع الذي اعترض عليه المصريون الشرفاء ومثّلهم في ذلك “أحمد عرابي” بعد أربعة عقود ، إلا أن الجيش في مصر ظل في قبضة الحكام ، وظل يمثل آليتهم من أجل تحقيق أغراضهم في الحفاظ على ممتلكاتهم التي تتمثل في أرض مصر ومن عليها من بشر وأصول ومنقولات .

الفرع الثالث : القضاء على الخصوم في الداخل:

في المراحل الأولى من تأسيس الجيش المصري على يدي “محمد علي” ، كان من ضمن مهام الجيش في مصر القضاء على الخصوم في الداخل ، ومطاردتهم وتشتيتهم ، ومن ثم لعب جيش “محمد علي” بقيادة ولديه في مطاردة وتشتيت خصومهم والذين لم يكونوا على وفاق معهم .

لقد كان الجيش في مصر من حيث تأسيسه وتشكيله وتسليحه وتدريبه وقيادته وعقيدته جيشاً خاصاً بالحاكم وأولاده وأحفاده من بعده ، وظل هكذا بمثابة أجراء يقاتلون لحساب الحكام حتى انقلابه عن طريق التنظيم السري لصغار الضباط بقيادة “محمد نجيب” على الأسرة المالكة ، وبعد ذلك تأسس جيش جديد على طريقة وبأسلوب الدولة الشمولية البوليسية التي أسسها وقادها صغار ضباط الجيش . 

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.