الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة (10)

الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة (10)

الجيش يحابي الثورة التونسية

كما كانت الثورة التونسية هي باكورة ثورات الكرامة العربية ، كان الجيش التونسي هو أول الجيوش التي تعاطت مع تلك الباكورة ، لقد تفاجأ الجيش التونسي كما تفاجأت تونس وتفاجأ العالم أجمع بثورة الشعب التونسي على الاستبداد والطغيان والفساد ، إلا أن المفاجأة سرعان ما تحولت إلى سبق وريادة لم نشهد لهما مثيلاً في سلسلة ثورات الكرامة العربية التي توالت سريعاً ، فمن أين جاء الجيش التونسي بهاتين السمتين ، من طبيعة نشأته وتطوره ، أم من علاقة الجيش بالدولة ، أم من علاقة الجيش بالنظام السياسي ، في هذا المقال نوضح ونفصل هذه الحقائق .

أولاً : طبيعة نشأة وتطور الجيش التونسي :

بعد استقلال تونس عن السيطرة الفرنسية كان التفكير المتداول ضمن عملية بناء الدولة الحديثة ، هو تطوير الجيش ، ولكن بشكل تدريجي وغير جذري ، وكان السبب الأساس وراء هذا التفكير المتروي عدم وجود أخطار حالة وأعداء حقيقيين ، ما يستدعي خطوات سريعة ومكلفة لتأسيس أو تطوير جيش حديث ومجهز لمجابهة الأخطار والأعداء .

كذلك لم يكن الجيش التونسي من جيوش المواجهة مع إسرائيل ، أو من الجيوش التي يحتمل الاستعانة بها في حالة الصراع المسلح بعد الاعتداء الثلاثي على مصر في عام 1956م ، وشرعت الدولة التونسية وفق خطتها المعتمدة في بناء وتطوير الجيش الذي احتفظ بقواسمه الأساسية في التشكيل والتسليح والتدريب ، ولم يكن الانفاق على الجيش التونسي سخياً نظراً لموارد الدولة المحدودة .

وظل الجيش التونسي بشكله التقليدي حتى انتهاء فترة حكم “الحبيب بورقيبة” وتولي “زين العابدين بن علي” حكم تونس ، وقد أدخل بعض التعديلات على وضعية الجيش ، حيث زادت مخصصاته في الموازنة العامة للدولة ، وزاد الاهتمام بتسليحه وتدريبه ، إلا أن الجيش التونسي لم يشترك في عمليات قتالية يمكن أن تبرز مدى قدراته القتالية ومدى جاهزيته .

لم يعمد الجيش التونسي في تسليحه إلى اقتناء الأسلحة والمعدات شديدة التطور والتعقيد ، نظراً لارتفاع كلفتها ، وعدم الاحتياج إليها في جيش تقليدي لا يواجه أعداء حالِّين أو محتملين ، واعتمد الجيش التونسي في تسليحه وحتى في تدريبه على فرنسا ، وظل هذا الجيش صاحب مهمة شكلية تقتضيها مستلزمات قيام الدولة العصرية المستقلة عن الاحتلال الفرنسي ، أما قتال الأعداء فلم يدرج ضمن عقيدة قتالية حقيقية محددة الملامح للجيش التونسي .

ثانياً : علاقة الجيش التونسي بالدولة :

ربما وبشكل غير مقصود مال الجيش التونسي لأن يكون إحدى مؤسسات الدولة ، وهذا هو واقع الحال بالنسبة للجيوش في كافة أنحاء العالم ، كما أنه هو الوضع الأصولي للجيش كمؤسسة من مؤسسات الدولة حسب النظرية السياسية .

ولكن هل هذه الوضعية ناتجة عن تأثر الجيش ممثلاً في قياداته بالفكر العسكري الفرنسي ، أم أن تلك الوضعية ناتجة عن الواقع السياسي والاجتماعي للدولة التونسية المستقلة عن السيطرة الفرنسية ، إذ وجد الجيش نفسه مؤسسة من مؤسسات الدولة وتابعاً لها على شاكلة القضاء ، والأرجح أن الجيش التونسي في علاقته بالدولة قد تأثر بالأمرين في وقت واحد ، ففكره المعتقدي متأثر بالرؤية الفرنسية ، أما الواقع السياسي والاجتماعي فقد فرض على الجيش التونسي أن ينأى بنفسه عن السياسة .

بالإضافة إلى ما تقدم فقد تشير عوامل بعينها إلى أن الجيش كان على علاقة طيبة بالشعب الذي كان يكن من جانبه للجيش شعوراً غير سيئ ، وهذه العلاقة التقليدية البسيطة حددت معالم مهام الجيش ورسختها لدى الجيش نفسه ولدى الشعب ، أما النظام السياسي فقد كانت له رؤية أو قناعة أخرى ستختبرها ثورة الشعب التونسي في ديسمبر عام 2010م .

ثالثاً : علاقة الجيش التونسي بالنظام السياسي :

يبدو أن النظام السياسي التونسي لم يكن مطلعاً على حقيقة وضعية الجيش ولم يكن ملماً بقناعاته ، وربما يعود ذلك إلى العلاقة غير الوطيدة بين الجيش ورموز النظام السياسي ، أو يعود إلى عدم وضع الجيش على محك التجربة في وقائع احتكاكية مع الشعب ، أو لأن الجيش التونسي كما سبق القول لم يعتد التحرك في ترتيبات وتدابير عسكرية مع جيرانه ولم يشارك في أية حروب منذ استقلال الدولة التونسية .

ومن ثم فقد كان تفكير النظام السياسي التونسي لوضعية الجيش وعلاقته به غير صحيحة أو ربما غير دقيقة ، وتشير دلائل إلى أن التداخل والترابط بين قيادات الجيش التونسي ورموز النظام السياسي لم تكن بالشكل الذي يجعل من الجيش أداة في يد النظام السياسي ، أو أن قيادات الجيش تملك تأثيراً وضغطاً على رموز النظام السياسي .

لقد ثبت أن قيادات الجيش التونسي لم يكن لها أية امتيازات ، ولم تكن موبوءة بالفساد مثل بقية قيادلت الجيوش العربية ، كذلك لم يكن لها أية مآرب أو طموحات في مباشرة دور سياسي ، وقد ازداد عزوف الجيش التونسي عن الحياة السياسية في العقد الأخير تعويلاص على ترسخ قناعته بضرورة البعد عن الحياة السياسية ، وأن النظام السياسي ليس في حاجة للاستعانة بقوة الجيش في التعاطي مع الشعب التونسي .

رابعاً : موقف الجيش التونسي من الثورة :

تفاجأ الجيش التونسي بالثورة المفاجئة التي شبت في تونس من إحدى المحافظات النائية ، والتي سرت في جسد الدولة التونسية بسرعة شديدة ، وسريعاً استدعى النظام السياسي جهاز الأمن للتعامل مع الثوار ، ولكن يبدو أن قوة زخم الثورة وانتشارها كانت فوق طاقة جهاز الأمن ، الذي تعامل مع الثوار بعنف ووحشية كطبيعة أجهزة الأمن العربية .

لقد استفزت التعاملات الأمنية الوحشية أبناء الشعب التونسي ، ما كان له أبلغ الأثر في انتشار الثورة وزيادة حدتها ، وزكى من ذلك انتشار المظاهرات في عواصم عربية عديدة لمناصرة وتأييد الثورة التونسية التي كانت سلمية وظلت على سلميتها .

وأمام زيادة زخم الثورة وانتشارها جغرافياً ومجتمعياً لم يجد النظام بداً من استدعاء الجيش للتدخل لقمع الثورة وحسم الأمر ،وعليه فقد صدرت الأوامر الصريحة من النظام السياسي للجيش بمواجهة الثورة بشكل مباشر ، عبر صراع مسلح ، وكان رد الجيش هو الرفض ، والانحياز للثورة ، والتضامن معها .

لقدحافظ الجيش التونسي على موقفه من العمل السياسي ، وكان الصدام بين النظام السياسي والشعب هو الاختبار الحقيقي لثبات الجيش التونسي على مبدأه ، واقتناعه بذلك المبدأ ، وكانت هذه هي الحالة الوحيدة المتفردة في كافة حالات الجيوش العربية بشكل عام ، وبشكل خاص التي قامت فيها ثورات الكرامة العربية .

لقد استوعب الجيش التونسي أن الصدام بين الشعب والنظام السياسي هو مسألة سياسية بالأساس ولا دخل له فيها ، وعلى النظام السياسي أن يحسم هذه المسألة مع الشعب ، وكان ذلك كفيلاً بأن يحسم علاقة النظام السياسي التونسي بالجيش ، وأنها في ظل هذه الظروف القاهرة قد سارت في اتجاه القطيعة ، التي ستنتهي بنهاية حتمية لنظام قمع الشعب وتسلط عليه ، ويبرئ ساحة الجيش من التهم التي سبق وأضحناها في المبحث السابق ، وهي أنه جزء من منظومة النظام المستبدالفاسد ، وأنه جيش متواطئ مع النظام المستبدومستفيد منه ، وأنه جيش سلبي ولم يستفد منه الشعب وهو في أمس الحاجة إليه .

إن القطيعة التي حدثت بين الجيش التونسي والنظام السياسي نتيجة موقف الجيش من الثورة الشعبية العارمة ، يمكن تأويلها على أنها موقف مناصر ومؤيد للثورة ، بالرغم من أن الجيش لم يحارب النظام أو ينقلب عليه ، ولكنه اكتفى بتمكين الشعب من القيام بالقضاء على النظام ، وحتى لا يقدم سابقة انقلاب عسكري على النظام تشوه الموقف الموضوعي المشرّف الذي عبر عنه .

إن سابقة موقف الجيش التونسي من الثورة لعبت دوراً مهماً في توجيه الأحداث في المرحلة الانتقالية في الاتجاه الصحيح ، وكان ذلك بالفعل هو السبب الحقيقي وراء نجاح وتفرد الحالة التونسية ومضيّها قُدُماً في طريق النجاح .

لم يتدخل الجيش بعد سقوط النظام السياسي ، بالرغم من استدعاء بعض القوى السياسية له في الحياة السياسية ، ولم يستجب بل لم يشارك من قريب أو بعيد في الحوارات والمحاججات التي شهدتها تونس خلال الفترة الانتقالية ، واعتبر نفسه غير معني بمثل هذه التطورات ، لأنها لا تدخل ضمن اختصاصاته المحددة له وفق الفقه السياسي ، واكتفى بمباشرة الحدود وإحكام السيطرة عليها من أجل مواجهة إدخال السلاح والمخربين إلى الداخل التونسي ، ومطاردة من عبر الحدود والقبض عليهم .

لقد رفض الجيش التونسي محاكاة الحالة المصرية ، والقفز على السلطة وإرباك أو تدمير الحياة السياسية ، والتزم بموقعه وموقفه وسلوكه من التطورات السياسية في تونس ، التي تؤسس لدولة مدنية جديدة ، ونظام سياسي يستهدف الحكم الرشيد ، بآليات ديمقرطية يشترك من خلالها كافة ألوان طيف المجتمع ، وفق مبدأ المواطنة والسماحة وعدم الإقصاء .

وظل الجيش التونسي بعيداً عن العملية السياسية ، وظلت الساحة السياسية مقتصرة على القوى السياسية الممثلة لكافة ألوان الطيف الاجتماعي ، ولم تحاول أية قوة سياسية مهما كانت فاشلة أن تستدعي الجيش لأنه لم ولن يستجب لها ، ومن ثم فليس أمام القوى السياسية إلا الاجتهاد الفكري والعملي من أجل الحصول على ثقة الجماهير فيفوضونها لإدارة الدولة .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.