الرئيسية » تقارير » “وطن” في المدينة العتيقة بسوسة.. سيّاح غائبون وتجّار ساخطون وألف عائلة مهدّدة

“وطن” في المدينة العتيقة بسوسة.. سيّاح غائبون وتجّار ساخطون وألف عائلة مهدّدة

 

“خاص- وطن”- كتب شمس الدين النقاز- تفضّل تفضّل “أعمل طلّة شوف وانساعدك”، كانت هذه كلمات الترحيب الكلاسيكيّة المعروفة في المدينة العتيقة بمحافظة سوسة التونسية الساحليّة لمن دخلها، سيّاحا كانوا أم تونسيين.

 

ففي مثل هذه الشهور من السنوات الّتي خلت، كانت مدينة سوسة الساحليّة ممتلئة بالسياح الوافدين عليها من كلّ حدب وصوب، للتمتّع لما حبى الله هذه المدينة الّتي يطلق عليها التونسيون “جوهرة الساحل”، من جمال خلّاب وطقس جذّاب وبحر ساحر للألباب.

 

محافظة سوسة كانت ولا زالت مقصدا لكلّ من اختار أن يقضّي عطلته الأسبوعيّة أو الموسميّة، تونسيّا كان أم أجنبيّا، وكانت “المدينة العربي” و”الرْبَعْ” كما يسمّيهما أهل المنطقة، ملاذا لكلّ الزائرين المتعطّشين لزيارة الأماكن التاريخيّة والظفر بالهدايا الرمزية الّتي يصعب على داخل محلّات الصناعات التقليديّة أن يخرج بدون شراء أيّ هديّة خفّ حملها أو ثقل.

 

في وسط مدينة سوسة، غير بعيد عن البحر وعن شاطئ “بوجعفر”، وعلى يمين قاصد ميناء سوسة، يوجد أحد أقدم الأماكن التاريخيّة في الجمهورية التونسية، إنّها “المدينة العتيقة” أو كما يسميّها التونسيون “المْدينة العرْبي” والّتي يقول البعض إنّها أسسها الفينيقيون في الألف الأولى قبل الميلاد (سنة 1101 ق.م.)

حركة هادئة على غير المعتاد، عشرات الزائرين ومحلّات متنوّعة لبيع التحف والهدايا على اليمين وعلى الشمال بالإضافة إلى عدد من المطاعم والمقاهي وحوانيت بيع المرطّبات والحلويّات شبه الفارغة، وذلك بسبب غياب السيّاح منذ قرابة العام مثلما صرّح لنا الباعة وأصحاب المحلّات.

 

في الساحة الكبيرة للمدينة العتيقة، تلتصق محلّات بيع التحف والصناعات التقليديّة ببعضها البعض، وكلّ محلّ يتميّز عن الآخر بعدد من المنتجات المتنوّعة، كالتحف والملابس والأحذية الجلديّة والصحون الفضّية والنحاسية الّتي ينقش عليها الحرفيون ما يطلبه الحريف كالأسماء والألقاب والكنى وغيرها.

 

“علي”، “كمال” وبكير ينتظرون الزائرين

في أحد المحلّات يجلس “علي” الرجل الستيني ذو الشعر الأبيض واللحية البيضاء رفقة “كمال” و”بكير” صاحب المحلّ، ينتظرون الزائرين الداخلين، علّهم يشترون ما يعرضه عليهم “علي” داخل المحلّ وخارجه من تحف وهدايا ومجوهرات غير ثمينة.

 

يقول “علي” لـ”وطن” إنّ “ركود القطاع السياحي أثّر علينا سلبا، فالعاملون تعبوا تماما، فمنذ قرابة العام أغلقت عديد المحلّات وترك العشرات العمل وكلّ ذلك بسبب ركود السياحة وهو ما أّثّر علينا سلبا وها نحن ننتظر أن يرزقنا اللّه.”

ويضيف “علي” صاحب القميص الأبيض والحزن باد عليه مجيبا على سؤال “وطن” حول مدى إقبال التونسي على هذه المحلاّت الموجّهة أساسا للسيّاح وإمكانيّة أن يساهم ذلك في تقليل الخسائر “المواطن التونسي حتى عندما يشتري فنحن لا يمكننا أن نقوم بتعويض خسائرنا، بل إنّ مهما اشترى فيبقى ذلك قليلا وغير كافي بل إنّه إذا تواصلت هذه الوضعية على ما هي عليه الآن فستحلّ الكارثة علينا نحن المشتغلون في هذا القطاع.”

 

تحف وصناعات تقليديّة ومجوهرات غير ثمينة، وبعض الأطباق النحاسيّة والفضيّة الّتي كانت تدرّ على صاحب المحلّ “بكير” “الخير والبركة” مثلما يقول، أصبحت الآن عالة عليه بسبب غياب السيّاح والمشترين بصفة عامّة.

 

وهنا يتدخّل “بكير” الرجل الأربعيني صاحب المحلّ قائلا “الإقبال في بداية الثورة مختلف على ما هو عليه الآن، صحيح أن المبيعات قد قلّت طيلة ثلاثة أشهر بعد الثورة لكن الوضع مختلف تماما الآن، فالركود الكبير الذي نعيشه قد قارب السنة لكن قبل ذلك كانت الأوضاع مستورة والحمد لله وأفضل من لا شيء.”

 

ويضيف “بكير” وهو واقف حذو الطاولة الّتي ينقش عليها كمال ما يطلب منه الحريف نقشه على الصحون النحاسية “الآن رغم أن محلي مفتوح إلا أنّني أعمل من دون أن أجني أيّة مرابح فالمدفوعات أكثر من المداخيل، زد على ذلك الخدمات التي ندفعها من ماء وكهرباء وضرائب وهو ما يدفعنا إلى القول إنّنا مهدّدون بفقدان موارد رزقنا ومواطن شغلنا حتّى أنّ الحرفيين والصّنّاع فُقدوا من السوق وتوجّهوا للبحث عن مواطن شغل أخرى في المصانع وذلك علّهم يظفرون بعمل قارّ.”

ويتابع “بكير” الرجل المستاءُ من الأوضاع ولكن رغم ذلك لم تفارق وجهه الإبتسامة طوال حديثه، قائلا “الحرفيون والصنّاع هربوا لأنّهم لا يتحصّلون على راتب مستقر وإنّما أجرتهم يتمّ احتسابها عن طريق المبيعات الّتي يبيعونها يوميا، فإذا ما باعوا تحصّلوا على راتب وإذا لم يبيعوا لا يتحصّلون على أيّ شيء وهذا ما لا يتناسب معهم حتّى أنّ بعض العمال في بعض الأحيان يبقون أسبوعا كاملا بدون أن يتحصلوا على أي راتب.”

 

وهنا يعود “علي” الرجل الستيني للحديث قائلا “لقد نقصت المبيعات 80% لكي لا أبالغ وأقول 100%، فليس هناك مشترون، لكن في بعض الأحيان يزورنا بعض التونسيين أو الجزائريين، ولكن ورغم ذلك فإنّ التونسي حتى عند الشراء لا يكفي ذلك لتعويض خسائرنا لأنّه في أغلب الأحيان لا تتجاوز مشتريات التونسي 10 دنانير (5 دولار)، ولهذه الأسباب وغيرها هناك العديد من أصحاب المحلّات أغلقوا محلاتهم ولو تتجوّل في “البلاد العربي” وفي “الرّبَعْ” فسترى عديد المحلّات المغلقة الّتي عجز أصحابها عن دفع ثمن كرائها المرتفع الّذي يصل في أغلب الأحيان إلى 1500 دينار (حوالي 760 دولار) و2000 دينار في الشهر.”

 

وعند سؤاله عن الرسالة الّتي يرغب في توجيهها إلى الجهات المعنية قال “علي” “الجهات المعنية نائمة، نحن نريد أي سوق سياحي يدخل إلى تونس لكي نرتزق من ذلك، ولو كان هذا السوق الجديد نصف ما كان عليه قبل وأنا قد شاب شعري من العمل في هذه المهنة وعندي في رصيدي 40 سنة ولم أر مثل هذه الأزمة الّتي أعقبت هجوم فندق “الإمبريال” في سوسة العام الماضي.. الأوضاع سيئة للغاية وهناك تجار عليهم ديون كبيرة وقروض وإذا ما تواصل الأمر على ما هو عليه فنصف التجار سيكون مصيرهم السجن.”

 

1000 عائلة ترتزق من هذه المحلّات

ويقول بعض الحرفيين والتجار في المدينة العتيقة في سوسة، إنّ هذا القطاع ترتزق منه أكثر من 1000 عائلة وإنّ هناك العديد من المحلات الّتي أغلقت وعُرضت للبيع بأرخص الأسعار، حيث وصل سعر بعض محلّات الأصل التجاري إلى 120 ألف دينار (حوالي 63 ألف دولار) في حين كان ثمنها العادي كأصل تجاري في السنوات الماضية 300 و400 ألف دينار.

 

كما أكّد التجار في المدينة العتيقة أنّ الصامدين أمام هذه الأزمة هم كبار التجار الذين يتخذون من محلاتهم مصدر دخل ثانويي ليس إلا، مشيرين في الوقت نفسه إلى أنّ السوق المغاربية أعادت الأمل لهم في الموسم السياحي الصيفي الفارط لكنّ ذلك يبقى حلّا وقتيّا لأنّ هؤلاء الزائرين موسميّون ولا يأتون إلّا في فصل الصيف.

 

وأوضح تجار المدينة العتيقة لـ”وطن” أنّ هناك فوضى كبيرة تمنع السائحين من القدوم إلى تونس، لأنّ وكالات الأسفار العالميّة وخاصة منها الروسية تشترط لجلب رعاياها أن تكون نظافة البلد أولويّة في حين لا يوجد ذلك في مدينة سوسة حسب قولهم.

 

كما اشتكى التجّار من حالة التسيّب والفوضى في “البلاد العربي” في سوسة، بسبب تواجد المعاكسين “البزناسة” والّذين يصفونهم بقطاع الأرزاق.

 

ويقول “كمال” الكهل الستيني وهو أحد العاملين في محلّ “بكير” وفي رصيده 40 سنة من الخبرة في هذا المجال لـ”وطن” “فور نزول السائح من سيارات الأجرة إلا ويتم تغيير وجهتهم الشرائية من قبل هؤلاء “البزناسة” الّذين يبدؤون بقطع الأرزاق وتحذير السائح من المحلات بدعوى أن أسعارها مرتفعة، في حين أنّهم يصطحبونهم إلى محلات أصدقائهم وللمحلات التي يتعاملون معها وذلك لكي يبيعوا السائح المنتوجات بأثمان مرتفعة وليأخذوا مكافأتهم على ذلك من صاحب المحل ومن السائح في نفس الوقت.”

 

ويضيف “كمال” “نحن من نتحدث معك عندنا 40 سنة خبرة في العمل في هذا القطاع، وأنا وظيفتي النقش، وكان من المفروض أن أقوم بالنقش الآن إذا ما كانت الأوضاع جيدة وهذه حرفتي وصناعتي.. ها أنت ترى الأوساخ منتشرة في كلّ مكان وتلك الخصّة (النافورة) المتوقفة عن العمل والتي كان من المفروض أن تقوم بعملها ويدور الماء في وسطها.”

وأردف “كمال” مستاءً “قبل سنوات كان يتم تنظيفه هذا المكان بالمياه من قبل عمال النظافة وعبر شاحنات البلدية، كما كان عمال النظافة بالليل والنهار يقومون بوظائفهم ولكن الآن كلّ شيء تغيّر.”

 

كما أكّد “كمال” أنّ المسؤولين والجهات المعنيّة لم يزوروا المتضرّرين، وأنّ كلّ ما يقال في الإعلام هو مجرد حديث والفوضى هي نفسها.

 

عز الدّين: “هل سنسرق أم سنخطف”

وغير بعيد عن محل “بكير” الّذي يعمل فيه “كمال” و”علي”، يجلس “عز الدين” أمام محله رفقة صديقين له يرحّبون بالمارّين علّهم يظفرون بزبون جديد يشتري منهم بعض الملابس والأحذية الرياضية الجديدة.

 

ويقول عز الدين لـ”وطن” إنّ “الأوضاع تحت الصفر، ليس هناك لا سياحة ولا شيء وذلك منذ هجوم “الإمبريال”، وها نحن ننتظر الفرج منذ قرابة العام وذلك لأنّ محلّنا يتعامل مع السياح وشغلنا مرتبط فقط بالسياح الأجانب لا العرب.”

 

ويضيف الشاب الثلاثيني غاضبا “الدولة لم تساعدنا وكذلك هؤلاء المافيا “البزناسة” أضروا بنا وبالقطاع غير المنظم.”

وتابع عز الدين حديثه لـ”وطن” بتوجيه رسالة إلى الجهات المعنيّة قائلا “مطالبي ورسالتي للجهات المسؤولة اجلبوا لنا السياح فمصاريفنا أكثر من مداخيلنا بسبب غيابهم، فهل سنسرق أم سنخطف.”

 

وختم عز الدين حديثه متشائما “توقعاتي للموسم السياحي في فصل الصيف أن يكون صفرا في حين أنّ الجهات الرسمية دائما ما تعدنا بأن هناك سيّاح سيأتون إلى تونس.”

 

وفي 21 من شهر مارس الماضي، أعلنت وزيرة السياحة التونسية، سلمى اللومي، أن السياح الروس سيبدؤون بالتوافد إلى تونس مع نهاية مارس، كما شتشهد البلاد عودة الرحلات السياحية التي كانت علّقت العام الفائت بسبب الهجمات الإرهابية.

وشهدت تونس، العام الماضي، هجمات إرهابية على معالم سياحية بارزة في البلاد، أدت إلى عزوف السياح الأجانب عن زيارة هذا البلد العربي، الذي يمثل فيه قطاع السياحة نحو 7% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.

 

وفي ختام جولتنا في المدينة العتيقة بمدينة سوسة الساحلية و”الرْبَعْ” بقيت كلمة “تفضّل تفضّل” الّتي يردّدها أغلب الباعة عالقة في أذهاننا، وذلك لأنّه رغم الظروف الصعبة التي تمرّ بها أغلب المحلّات، إلّا أنّ أصحابها لم يتركوا هذه الإبتسامة والكلام الطيّب رغم ترك السوّاح لتونس في الأشهر الأخيرة.

 

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.