الرئيسية » تحرر الكلام » الثورات العربية وحقوق الإنسان .. علاقة حتمية وشائكة (4)

الثورات العربية وحقوق الإنسان .. علاقة حتمية وشائكة (4)

التأسيس لحقوق الإنسان في الدول الجديدة

جميعنا نرنو بطموح وحماس نحو الدولة الرشيدة ، ولعل حقوق الإنسان تمثل أحد أركان هذه الدولة ، بل إن الأركان الأخرى مرتبطة عضوياً بل وتتخلل لبناتها حقوق الإنسان ، فكيف تؤسس الدول الثورية لحقوق الإنسان ضمن أركانها محل البناء في هذه المرحلة الإنتقالية :

أ ـ حقوق الإنسان ركن من أركان الدولة الجديدة : المتأمل لأركان الدولة الرشيدة التي تطمح إلى إقامتها وترسيخها دول الثورات العربية لا يجد صعوبة في أن يكتشف أن حقوق الإنسان تتخلل لبنات تلك الأركان ، فالركن القيمي أساسه وقوامه حقوق الإنسان ، فهي أساس الثقافة السياسية وهي أساس القيم السياسية [ الحرية ، العدالة ، المساواة ] وهي أصل المبادئ السياسية [الديمقراطية ، المواطنة ، التعدد والتنوع السياسي والثقافي ، المشترك العام بين أبناء الوطن والتراب الواحد] ، كما أن حقوق الإنسان متغلغلة في الأيديولوجيا بشقيها الفكري والحركي .

ب ـ نشر وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان : ضمن الثقافة السياسية المطلوب صياغتها ونشرها وترسيخها وتفعيلها في سلوكات أبناء المجتمع ، ينبغي على الثورات العربية تضمينها حقوق الإنسان ، وهذا يحتاج إلى تكثيف الوعي وتقديم نماذج سلوكية حركية يعايشها الناس على أرض الواقع ، لأن حقوق الإنسان ليست شعارات ومفاهيم فقط ولكنها ممارسات يومية .

ت ـ فهم واستيعاب حقوق الإنسان كعنصر من عناصر الوجود ومقوم من مقومات الحياة : من المجدي والضروري معاً فهم واستيعاب وترسيخ حقوق الإنسان ببعديها الوقائي ، أي كعنصر ومقوم من مقومات الحياة الإنسانية ، والعلاجي ، أي كمعالج ومصحح لاختراق تلك العناصر والمقومات ، وذلك حتى تتكرس حقوق الإنسان وتسمو قيمتها في عقول الناس وسلوكاتهم .

ث ـ العدالة القيمة والإجراء هي أنجع الوسائل لمواجهة إنتهاكات حقوق الإنسان : تعد قيمة العدالة من أول القيم التي يغلب جانبها الإجرائي التنظيمي على محتواها الفكري ومضمونها العقلي ، وتتصل هذه القيمة بالعديد من القيم الأخرى التي ينتظمها نسق القيم السياسية ، فهي ترتبط بالمساواة ، وتتعلق بالتكافل الاجتماعي ، وتختص بعدالة توزيع الثروة أو ما يعرف بالعدالة الاجتماعية ، وتتماس مع قيم أخرى مثل البيعة والشورى والحرية بشكل فكري عقلاني ، فيبدو غير مباشر.

وفيما يتعلق بالبعد الإجرائي التنظيمي للعدالة ، نجد أنه يلعب دوراً مهماً في تنظيم وترتيب الحياة بكافة أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية والحضارية والثقافية ، وكأن العدالة هي الضابط الفعلي الأساس لوتيرة الحياة وتفاعلاتها في المجتمع المسلم ، فهي تعنى في أوسع معانيها الميزان الذي يضع كافة الأمور في نصابها الصحيح ووفق النموذج والمثال الذي وضعه الشرع الحنيف ، وسوف نتناول البعد الإجرائي التنظيمي لقيمة العدالة ، وكيف يمكن تطوير ذلك البعد بوصفه أداة من أدوات الحركة في الظاهرة السياسية من أجل تطبيق حقوق الإنسان ، وذلك من خلال بسط الأفكار التالية :

1 ـ العمل بالأحكام وإقامة الحدود الشرعية : إن أول خطوات الجانب الإجرائي للعدالة كقيمة إسلامية تكمن في ضرورة تفعيل ذلك الجانب ، ويتم التفعيل عبر العمل بالأحكام وإقامة الحدود الشرعية ، ومعلوم أن العمل بالأحكام وإقامة الحدود من لزوميات الإيمان وأركانه الأساسية ، وقد يمثل ذلك التفعيل مؤشراً قوياً على التزام المجتمع المسلم بقواعد الإسلام وشريعته .

واستقراء التاريخ الإسلامي ومتابعة التفاعلات الاجتماعية في المجتمعات المسلمة في الوقت الراهن ، يوصلان إلى خلاصة مفادها أن ثمة فترات عبر التاريخ الإسلامي شهدت تعطيلاً للعمل ببعض الأحكام والعديد من الحدود الشرعية ، وأن ثمة مجتمعات مسلمة عاشت حالات تم فيها تعطيل بعض الأحكام والحدود  الشرعية .

وما من شك في أن تعطيل بعض الحدود والأحكام الشرعية يعد إشكالاً حساساً وخطيراً يعرض الشعوب والحكومات الإسلامية للمساءلة ، والأهم أن هذا الإشكال يؤرق أبناء الأمة ويتطلب منهم البحث في سبل الخروج من هذا المأزق ، ناهيك عن البحث في أسبابه ونتائجه ، التي يمكن أن تصيب المجتمع بالعديد من الموبقات والمثالب .

2 ـ الاهتمام بالجانب المؤسسي التنظيمي [أماكن إقامة العدالة] : بالإضافة إلى ما سبق وقدمنا من ضرورة تفعيل العمل بالأحكام وإقامة الحدود الشرعية يأتي كذلك الاهتمام بالجانب المؤسسي التنظيمي للعدالة ، وتطوير ذلك الجانب يعتبر نهوضاً بتلك القيمة وبالذات في جانبها الإجرائي ، ولكن ماذا يعنى الاهتمام بالجانب المؤسسي التنظيمي لقيمة العدالة ؟ .

لعل أول مفردات الجانب المؤسسي التنظيمي لقيمة العدالة ، يتمثل في أماكن إقامة العدالة ، وهي دواوين المظالم ومقار المحاكم ودور العدالة وما يرتبط بها ، ومن الأهمية بمكان الاهتمام بهذه الأماكن ليس باعتبارها مظهراً وشكلاً ، ولكن باعتبارها أداة ووسيلة لنقل القيمة من طورها الفكري النظري إلى طورها العملي التطبيقي .

ثم يأتي بعد ذلك ما هو أهم ، وهو ما يتعلق بالأشخاص القائمين على تطبيق العدالة بكافة مستوياتهم وعلى رأسهم القضاة ، والاهتمام بهؤلاء ينصرف إلى اختيارهم وتدريبهم ، وتهيئة الأجواء والظروف التي يعملون فيها مادياً ومعنوياً ، وتنزيههم بتوقيهم الشبهات والضغوط الناتجة عن العوامل والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية .

أما فيما يتعلق بإجراءات تنفيذ الأحكام والحدود ، فينبغي أن تتم تلك الإجراءات وفق ما ورد في المرجعيات الإسلامية من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، حيث أن تلك الإجراءات تقيم حالة من التواؤم بين أسلوب المعاملة وطبيعة الحكم أو الحد  فمن الأحكام والحدود ما يعتمد على الإيلام أو العقاب المادي ، ومنها ما يعتمد على الإيلام والعقاب النفسي والمعنوي ، ومنها ما يجمع بين النوعين .

وفي الأخير يأتي ما يتعلق بأماكن تنفيذ الأحكام والحدود ، وبصفة خاصة عقوبة السجن ، فينبغي أن تكون هذه الأماكن أداة ووسيلة تمكّن المذنب من التكفير عن ذنبه ، والاستعداد لحياة ما بعد التوبة ، بل وتساهم في رسم معالم تلك الحياة  الجديدة .

3 ـ وسم الجانب الإجرائي بالحيادية والموضوعية : إن تطوير الجانب الإجرائي لقيمة العدالة في نسق القيم الإسلامية يستوجب وسم ذلك الجانب بسمتي الحيادية والموضوعية ، إضافة إلى التماس مع قيمة المساواة ، ومن شأن هاتين السمتين أن يساهما في إبراز قيمة العدالة في شكلها الإسلامي الصحيح ، ويضيفا إليها ما يسمها بالفعالية في نسق القيم الإسلامية .

4 ـ الإسراع في رد المظالم [تفعيل وتنشيط مرفق العدالة] : العدالة في شقها الإجرائي ، أو ما يمكن أن نطلق عليه مرفق العدالة تحتاج بالإضافة لما تقدم إلى عملية تفعيل وتنشيط دائمة ودفع مستمر في اتجاه رد المظالم ، وذلك قد يتضمن عملية مراجعة وتقويم شاملة لذلك المرفق ، تبدأ بالبحث في ضرورة العمل بالأحكام وإقامة الحدود الشرعية ، ثم بتطوير الجانب المؤسسي التنظيمي ، ثم بتوخي الموضوعية والحيادية في كافة إجراءات ذلك المرفق ، ثم أخيراً بتسريع العمل والإجراء من أجل رد المظالم على اعتبار أن الإبطاء في رد المظالم هو نوع من الظلم .

5 ـ العمل بجدية وحزم على ضبط الإجراء التنفيذي الذي يسبق الجانب الإجرائي في إقامة العدالة ، أي مرحلة القبض على المشتبه فيه وتوقيفه ، وهذه المرحلة هي التي يقاسي ويعاني فيها الإنسان معاناة تنتهك آدميته وتدمر إنسانيته من أجل استنطاقه وانتزاع اعترافاته باقتراف الجرم ، وتتحول هذه المرحلة إلى مرحلة عقاب مدمر للإنسان ، وينبغي أن يخفض زمن هذه المرحلة قدر المستطاع ، ولا يتم التعرض فيها للمشتبه فيه ، حتي يعرض على قاضي التحقيق ، والأخير هو الذي يتولى التحقيق ، ويوجه الاتهام ، ويكيّف الجرم ، وعليه فلا دخل لوزارة الداخلية بأجهزتها المختلفة بهذه المرحلة بعد إلقاء القبض على المشتبه فيه وتوقيفه لتقديمه إلى قاضي التحقيق  .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.