الرئيسية » تحرر الكلام » الدولة المدنية الرشيدة ثقافة وممارسة أم نظام يفرضه الدستور (4)

الدولة المدنية الرشيدة ثقافة وممارسة أم نظام يفرضه الدستور (4)

سادساً : الدولة المدنية الرشيدة ثقافة وممارسة :

لعل ما تقدم يمكننا من صياغة التكييف الحقيقي لطبيعة الدولة المدنية والمجتمع المدني ومن الفاعل الحقيقي فيهما ، ويمكن توضيح هذا التكييف على النحو التالي :

أ ـ الدولة المدنية والمجتمع المدني ثقافة : البادي من المتابعة والتحليل التاريخي لكل من الدولة المدنية والمجتمع المدني أن كلاً من الفكرتين لا بد أن يتأصلا ويتجذرا في عقلية وفكر الفرد ، ثم ينبعا وينطلقا من ذلك العقل بوصفهما رؤية وكيفية حياة وطريقة تعاطي مع شبكة تفاعلات [ متغيرات ومستجدات ] اجتماعية ، ومن ثم فعلى الفرد في المجتمع أن يدرك ويعي فكرتي الدولة المدنية والمجتمع المدني عقلاً وفكراً ، ويتشبع بهما ، ثم يبلور رغبته وإرادته في تحويلهما إلى سلوك ، وتعرف هذه العملية بالثقافة المدنية .

ب ـ الدولة المدنية والمجتمع المدني سلوكات حضارية : بعد أن تتبلور الثقافة المدنية لدي الفرد تتحول إلى أنماط سلوكية رشيدة وقويمة تضع الفكرة على أرض الواقع ، ومن ثم نجد ذلك الفرد يتعاطي مع كافة عناصر الوجود ومقومات الحياة التي يعيشها ، بما في ذلك مفردات المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه وقرنائه من بني جنسه بناء على أصول وقواعد من ثقافته التي تبلورت سلفاً .

سابعاً : الدولة المدنية الرشيدة ليست نظاماً يفرضه الدستور :

الدولة المدنية كما قلنا لا بد أن تتبلور كفكرة يدركها الفرد ويعيها ، ويتوق إلى تطبيقها على أرض الواقع ، ثم يمارس الدولة المدنية والمجتمع المدني عبر سلوكات حضارية ، ومن ثم فأهم عناصر الدولة المدنية والمجتمع المدني لا بد أن يأتي عبر الثقافة والحضارة ، وثمة ما يدعم هذه الحقيقة إذ أن الدولة المدنية والمجتمع المدني تُمارَس كثقافة وحضارة في دول كثيرة في العالم ، دون أن تتضمن دساتيرها أي نص على أن هذه الدول هي دول مدنية وأن مجتمعاتها هي مجتمعات مدنية .

بالرغم من أهمية النص الدستوري على مدنية الدولة وبصفة خاصة في الدول الجديدة التي تتشكل في أعقاب الثورات العربية ، إلا أن هذا النص ليس هو المحك النهائي والمُفعّل الرئيس لفرض الدولة المدنية والمجتمع المدني ، إذ أن تلك الدولة وذاك المجتمع لا بد أن يترسخا من خلال أفكار وعقول الناس وسلوكاتهم وتصرفاتهم ، وبأسلوب المخالفة يمكن القول أنه قد يحمل الدستور نصاً صريحاً على مدنية الدولة ، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث ، وسبب ذلك هو أن أفراد المجتمع لم يدركوا ولم يعوا قيمة هذه الدولة فكرياً ، ومن ثم لا يستطيعون ممارستها حركياً ، فهي ليست قالباً يرسمه ويفرضه الدستور ، واستخلاصاً فلا بد للدولة المدنية والمجتمع المدني أن يكونا جِماعاً لثقافة وحضارة ونص دستوري .

ثامناً : علاقة الدستور بالدولة المدنية والمجتمع المدني :

فيما سلف ناقشنا العلاقة بين الدولة المدنية والثقافة والحضارة ، ولا تزال ثمة علاقة أخرى بين الدولة المدنية وبين الدستور ، وتؤكد هذه العلاقة بداءة على أن الدولة المدنية ليست قالباً تُصب فيه أفكار وسلوكات الناس ، وتؤكد كذلك على أهمية النص الدستوري في التأسيس والتأصيل للفكرة ، وفي تفعيلها ، وفيما يلي بعض التفصيل :

أ ـ الدستور يؤسس مؤسسات الدولة المدنية والمجتمع المدني : النص على مدنية الدولة في الدستور ، هو اعتراف وإقرار من المجتمع بكامله ، حرره ووثقه في وثيقة رفيعة المستوى ، بأن الدولة التي ينظم شئونها هذا الدستور ، هي دولة مدنية ، ولا يمكن أن تكون غير ذلك ، فلا يمكن مثلاً أن يأتي رئيس أو حزب ويغير طبيعة الدولة من مدنية إلى دينية أو عسكرية .. إلخ .

ولكن هل يكفي هذا النص لتأسيس الدولة المدنية والمجتمع المدني ، الواقع أن هذا النص ليس كافياً رغم أنه لازم ، أما المهم هو أن يشرع الناس في تأسيس مؤسسات تلك الدولة ومجتمعها المدني ، ولن يُقدّر للناس ذلك إلا إذا كان لديهم ثقافة الدولة المدنية وسلوكات تلك الدولة .

ب ـ الدستور يفعّل مؤسسات الدولة المدنية والمجتمع المدني : وبعد أن يؤسس الدستور مؤسسات الدولة المدنية ويأصلها ، عليه بعد ذلك أن يفعّلها ، وتفعيل مؤسسات الدولة المدنية عن طريق الدستور ، يأتي من خلال توضيح الدستور لطريقة عملها ، ورصد النسق القيمي ومنظومة المبادئ التي تتولى ذلك التفعيل ، ثم يبين كيف يتسني لأفراد المجتمع كيف ينخرطون في تلك المؤسسات ويُسيّرون شئونها .

ج ـ الدستور يحمي مؤسسات الدولة المدنية والمجتمع المدني : بالإضافة لما تقدم ، يتولى الدستور مهمة حماية مؤسسات الدولة المدنية ، وذلك من خلال أكثر من أسلوب ، الأسلوب الأول هو حماية هذه المؤسسات من التعطيل ، والأسلوب الثاني هو حماية هذه المؤسسات من التبديل والتغيير .

وينبغي أن نلفت الإنتباه مرة أخرى إلى أن ثمة تناغماً قوياً بين الثقافة والحضارة والنص الدستوري ، ولكل ضلع في هذا الثالوث وزنه وثقله وأهميته في تفعيل مأثورة الدولة المدنية والمجتمع المدني .

[1] سورة النحل : 97 .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.