الرئيسية » تحرر الكلام » هذه النفس “2”

هذه النفس “2”

أرادك طوق نجاة، يا من توهم في قربك الدفء، وفي وصالك سريان المحبة، ومزيداً من التدفق يقوي ورقة شجر خضراء ألقتها الرياح عن مكانها، وكانت ما تزال تتطوح حالمة بالعودة لغصن شجيرتها، تأبى القبول بإنها صارت عميقة البعاد عن تكوينها، أرادك عنواناً لحنايا ما عرفتْ إلا تيّهاً وأسئلة الجنوب هنا وهناك، تيه البدايات، واسئلة البراءات في المدرسة الابتدائية: لماذا تجلس الزميلات عنا بعيدات؟ لماذا يتهامسن أحياناً؟ ويبكين في أحضان بعضهن.. رغم قلة آلام هذه المرحلة من الحياة، تيّه خطو الإعدادية كان أقل زخماً مما يليه، أكثر ألماً مما سبقه: لماذا تختبر الحياة اقوى ما فينا ولا تتركنا نعاني في صمت؟

كان الصمت سيد المرحلة، النظر في ضيق وقلة احتمال إلى وجوه المختلفين معنا، الإذاعة المدرسية، والحلقة غير المنتظمة يومياً ممن يريدون قراءة كلمات، وكتابتها غالباً للجميع، وكانت هذه كلماته اليوم كله، اللهم إلا الإجابة على سؤال معلم، وغالباً كان بالصمت إلا من اثبات الفهم، بين حنايا ذلك الصمت وُلِدتَ بتكوينه، كان يسير في فناء “الإعدادية الأميرية”،.. تردد بقوة إنها كانت ساحة تنفيذ أحكام الإنجليز، بل حدد الزملاء مكان الشنق للعصاة، وهل كانوا إلا باحثين عن سبل أفضل للحياة، بخاصة السياسيين، كان يقرأ بعمق “أشياء للذكرى”، “شجرة اللبلاب”، “الماضي لا يعود”، و”غصن الزيتون” بخاصة في نهاية المرحلة، كان يسير مع شاعر الرواية: “محمد عبد الحليم عبد الله” في طرقات المدرسة يقرأ القصص القصيرة، يعزف ناي الرواية، يتقطع القلب منه عند “الجنة العذراء” وغدر العم بمال أبناء أخيه الأيتام .. يسأل نفسه لماذا يظلم الناس بعضهم على هذا النحو فيما حبل الموت ينتظهرهم .. عبر مشنقة أو مشقة ظلم ربما كان أسوأ..؟!

في تلك الطرقات تعلم الحُلم، بعد “المغامرون الخمسة” ومحبة “تختخ” ل “نوسة” أخت عاطف، تلك التي كانت “تفاصيلها” تبدو كل حين في القرب في المغامرة، ومد اليد حين الخطر، والتجاذب الروحي لحظة بكائها بالليل، فيتصل بأبيها مستئذناً في الحديث مع “عاطف” ومنه ينفذ إليها، عبر عشرات المغامرات قرأ آيات الدفء بين الصفحات، وعلم إن من البشر مَنْ يُهونون على بعضهم البعض، لاحقاً أمتحن الثانوية العامة في نفس الفناء، بل كانت لجنته في هذه الطرقة بالتحديد، وكانت رياح الحياة عاتية لا ترحم، رأى الظلم يقضم ظهر مدينته، والمتنكرون يسطون على بلدته، واستحال الواقع آلاماً لا تطاق ..وهو يجلس بالقرب من نسمة هواء يحاول تشكيل مستقبله فلا ترحمه زحامات الحياة، في اليوم الذي انهار فيه، الصباح الذي قرأ الأسئلة فعرف إنه يعرف إجاباتها ولكن رعشة ما منعت من أن يضع سن القلم فوق الورقة، رعشة جعلت الدوامات تهب بلا رحمة على أقصى تجويف في الشعور حينها لمعتْ فكرة وجودك واقعاً يشبه الواقع وليس كالمحال!

منذ سنوات الصبا هفتْ إليك نجوم التكوين، واعتزال القساة من الزملاء والزميلات يتضاحكون لأقل الاسباب، ولا يعرفون مقدار جرحه، فقط لإنه غامر بالبعاد عن قلب كقلبك ولما يأتي موعد لقاء بعد!

هذه النفس حلمتْ بك منذ نعومة أظفارها قطعة من الجنة ترتمي بين يديها، تقبل أعتابها، تسمو بها فوق المحال، وتستحيل ماديات وشهوات البشر معها شيئاً من خبال، فما بينه وبينك شىء لا يدركه وجدان، ولم يقل به في عميق التاريخ إلا حكيم، لم يكن ينكر عليك إنك بشر من ماء وطين تحتاج ما يحتاجه الطين وتجنح إلى ما يخبو به .. وينقص أحياناً وكثيراً من ترهات .. ولكنه كان موقناً بإنه لديك سيلقى باب الحياة الأخير الذي يريحه من عناء التفكير وقلة منفذ العينين منذ صغر الصغر..

كنت لهذه النفس ألقاً علوياً من ضياء عرفه مسجد “بني مزار الثانوية” قرب الطريق المؤدي إلى القاهرة، بل أنت يا هذا لا تدري إنه طوال المرحلة الاعدادية يحلم بالنجاح في الوصول إلى الثانوية، وفي الثانوية حلم بالنجاح في الوصول إليك لما تقاصرتْ أحلامه دون كليته التي أشتهاها وتمناها .. ولكن أحلامه ما تقاصرت دونك، تمناك عالماً حقيقياً يحيي عالمه الذي يعاني الموات، ألتقاك في عابرين وعابرات طرقوا أبواب الروح والوجدان بقوة حتى إنه خاف أن يدع الدنيا ويبقى لديهم، يصادرونه، فلا يصبح هو ولا تنفعه الأحلام، وفي الجامعة دارى على شمعته أكثر، وقال له أكثر الأساتذة حذقاً بالدنيا:

ـ أنت تحب الوجود كله أكثر من نفسك، يا بني، لذلك تحاذر أن تذوب فيه، إنك “يا أبو حميد” تفني مخزون حذرك كله في مقتبل الحياة .. ماذا ستبقي لمنتصفها .. “يا سلام عليك” لما تلتقي، دون الحذرين، بِمَنْ لديهم ملكات قلة الحذر، أولئك الذين سيلقون بأنفسهم في أحضانك، يذيبون أٌنسكَ بالروح .. صدقني الهرب سيكون صعباً .. افتح النوافذ يا حبيبي من الآن فذاك أفضل ..!

كانت الكلمات قاسية عليه ..

كان يعرف إن أمد انتظارته فيك أقسى من أن يحتمله .. ولكنه صمت!

كانت الروح تريدك مركبة من ضياء تبحر بها مهما امتدت العتمة، تأخذها لتعوضها عن سنيّ فقد الأب والأهل، نسمة في برونزي لون الليل، وكم تخيله اللون السابق للفجر أو اللاحق له تماماً، وكم حلم بك مشهداً من ضياء، لا يأتي إلا بطيوره الخضراء تتألق بالدعاء .. كنت طيراً من ضياء يلمس بعصا سيدنا موسى السحرية ماضي حياته فيحيلها إلى نجيمات تلمع ويلتقيها في المساء فيكون هو صاحبها ومشاهدها معاً .. فقط تكون قمر هذه الحياة!

أيا هذا.. أنت لم تخطىء في شىء .. لكن هل تعرف ألم أن نتصور أننا أمضينا العمر في انتظار أحد ليس على قدر الحقيقة ولا الخيال، وإن انتظاراتنا فيه كانت محض خيال، يزعم إنه حل مؤخراً معضلة بلورات الحذر التي حذره منها مراراً وتكراراً أستاذه الجامعي، ولكن ألمّه أنت لن تدركه .. وهل لك بحياة كحياته؟ وقد حلم أن تكون عبقها .. فكنت جزءً من نسيج آلامها.. هذه النفس سمت بك كثيراً .. تلك هي خطيئتها!

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.