توطئة :
في العقدين الأخيرين تلاحق الحديث عن الدولة المدنية والمجتمع المدني ومؤسساته ، وانكب المهتمون من العرب على هذه الظاهرة ، فخصصوا لها المقررات الدراسية ، وتخصصوا في دراستها وتدريسها ، وأصيب الجميع بإبهار الدولة المدنية ومؤسساتها والمجتمع المدني ومؤسساته .
وتضاعف الإنبهار بمدنية الدولة والمجتمع إبان الثورات العربية ، واستحال الإبهار بعد نجاح الثورات إلى ضرورة حتمية ، واصبحت الدولة المدنية والمجتمع المدني هي القشة التي تعلقت بها الشعوب العربية ، وبدت وكأنها ثارت من أجل ذلك فقط .
وفي مرحلة بناء الدولة الجديدة أجمع الجميع بل تباروا في الإعلان والتصريح برغبتهم الجامحة في بناء الدولة المدنية ، وارتبط بذلك نسق قيمي ومنظومة مبادئ وأيديولوجيا ، ودستور ومؤسسات ، وبرزت بشكل موضوعي ومنهجي علاقة الدولة المدنية والمجتمع المدني بالدستور ، فماذا عن الدولة المدنية ؟ وماذا عن المجتمع المدني ؟ وماذا عن علاقة كلٍ منهما بالآخر ؟
أولاً : في ماهية ونشأة الدولة المدنية والمجتمع المدني :
أ ـ عجالة في ماهية ونشأة مفهوم المدنية : لعله من أحدث التقاليع الفكرية التي صدّرها الغرب ، بكُتّابه الملهمين إلى العالم والعالمين العربي والإسلامي بصفة خاصة ، هي تقليعة الدولة المدنية والمجتمع المدني ، التي جاءت في شكل تهويم ضبابي ، لم يعرف عنها مروجوها أنفسهم إلا القليل ، وكالمعتاد تقاطر الباحثون والدارسون على المدرك ، وشرعوا يمحصونه ، واعتبروا أن ذلك من قبيل التقدم الفكري والسبق العلمي .
ولا يزال المدرك يعاني من الكثير من القلق ، وما انفك يحتاج إلى تبرير كاف ، لكي يخوض فيه المتخصصون ، ويحددون أهدافهم من وراء تلك المفازة ، فالمجتمع تكوين بشري ، عُرف منذ بدء الخليقة ، وتطور ثقافياً وحضارياً واقتصادياً وسياسياً ، ولا يزال يواصل تطوره ، وسيستمر كذلك إلى ما شاء الله ، ومع المجتمع الإنساني أخذت الظواهر الاجتماعية تتبلور من خلال حركة الإنسان في كنف ذلك المجتمع ، ولعل الظاهرة السياسية كانت أهم تلك الظواهر ، لأنها قادت الجميع نحو التطور بجميع أشكاله واتجاهاته ، ولعلها كذلك التي أنتجت ظاهرة السلطة واحتوتها وطورتها وطورت كوابح جماحها ، وعندما تبلورت الظاهرة السياسية ، وتحددت معها ظاهرة السلطة ، تبلور نوعان من العلاقات داخل المجتمع الإنساني : النوع الأول علاقة المجتمع كأفراد وجماعات وقوى بظاهرة السلطة ومن يمثلونها ، وهو في المعتاد من اصطُلح على تسميتهم بالدولة ، النوع الثاني علاقة المجتمع كأفراد وجماعات وقوى بعضهم ببعض ، من خلال روابط معينة ، والنوع الثاني من العلاقة داخل المجتمع الإنساني هو الذي جذب انتباه كتاب الغرب ، وشرعوا في دراسته وتحليله ، ولكن الأمر الذي لا يزال غامضاً وغير مبرر ، هو سر تلك الجاذبية ، وما قابله من انجذاب أولئك الكتاب لدراسة هذه الارتباطات داخل ذلك النوع من العلاقة ، وهل درسوها داخل مجتمعاتهم ، أم صدّروا الفكرة إلى غيرهم من المجتمعات دون دراستها لديهم ؟ !
إن فكرة المجتمع المدني التي صدّرها الغرب إلى غيرهم ، تحمل لفظتين مقترنتين في صيغة نعت ومنعوت ، فالمجتمع تحدثنا عنه بما يحويه من نوعين من العلاقات ، أما ” المدني ” فإنها تنصرف إلى النوع الثاني من تلك العلاقات ، ومعنى ذلك أن المصطلح يعني المجتمع الإنساني المعروف ، ولكن في نوع معين من علاقات أفراده وجماعاته وقواه ، ولكن لماذا ” المدني ” ، ولماذا لا يكون غير الرسمي أو الأهلي أو الخاص أو غير السلطوي إلى آخره ، وهل هناك مجتمع آخر غير مدني ، وكيف يكون : عسكري ، ديني ، قروي ، بدوي ، أم ماذا ! إن الثابت أن “المدني ” إن هي إلا ابتكار باحث ، كمعظم الأسماء التي تطلق على الظواهر في كل المجالات ، وتأتينا من الغرب ، ومعظمها غير مبرر علمياً وغير مقبول منهجياً ، لأنها تسميات أفراد تميزوا علينا بأنهم من الغرب ، الذي يسودنا ثقافة وحضارة ، ولكنه لا يفضلنا على الإطلاق !
أما مفهومنا للدولة المدنية الرشيدة فهي دولة تنهض على أربعة أركان ، تكفل لها تحقيق متطلبات مجتمعها ، في وجود آمن ، وتفاعل مثمر ، وتطور نحو الأرقى ، عبر نسق قيمي ومنظومة مبادئ ومؤسسات فعالة ، تتفاعل في بيئة من التوافق والاحترام المتبادل .
ب ـ خصائص الدولة المدنية الرشيدة : تتمثل خصائص الدولة المدنية الرشيدة في الآتي :
1 ـ هي دولة متحضرة ومتقدمة : تأخذ بأسباب المدنية والتقدم العلمي والتقني وتشارك في الميراث والعطاء الحضاري الإنساني .
2 ـ هي دولة غير دينية : تقدس الدين وتحترمه وتتخذه مرجعية للتشريع ، ولكنها لا تعتمد سلطة التفويض الإلهي للحكام ، بل إن الشعب هو مصدر الشرعية ، وينتخب حكامه بمحض إرادته .
3 ـ هي دولة غير عسكرية : المؤسسة العسكرية لا علاقة لها بالسياسة والحكم ، بل تنصرف مهمتها إلى الدفاع عن البلاد وتأمين حدودها .
ت ـ أهداف الدولة المدنية الرشيدة : تتحدد أهداف الدولة المدنية الرشيدة في الآتي :
1 ـ الهدف الأول : الوجود الآمن : تستهدف الدولة المدنية الرشيدة تأمين وجودها المادي والمعنوي ، من التعدي الخارجي ، وعدم الاستقرار الداخلي .
2 ـ الهدف الثاني : التفاعل المثمر : في إطار الوجود الآمن الذي يمثل الهدف الأول للدولة المدنية الرشيدة ، يتم تفاعل مكونات تلك الدولة المادية والرمزية والمعنوية ، حيث تتبارى مكونات وفواعل الدولة المدنية في الاجتهاد والإبداع والعطاء .
3 ـ الهدف الثالث : التطور نحو الأرقى : النتاج الطبيعي للهدفين المتقدمين هو التطور نحو التقدم والرقي في الدولة المدنية الرشيدة .
ث ـ أركان الدولة المدنية الرشيدة : تنتصب الدولة المدنية الرشيدة على أربعة أركان على النحو التالي :
1 ـ الركن الفكري المعنوي للدولة المدنية : ويرتكز على القواعد التالية :
*صياغة ثقافة سياسية جديدة تتواءم مع الأنساق القيمية والأخلاقية للمجتمع .
*اعتماد القيم السياسية المتمثلة أساساً في الحرية والعدالة والمساواة .
*اعتماد المبادئ السياسية التي يتسنى لها تحقيق القيم المتوخاة .
*صياغة أيديولوجيا وفق المعطيات التي تفرزها البيئةالاجتماعية ، ويشارك فيها كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي .
2 ـ الركن الشكلي الهيكلي للدولة المدنية : ويعتمد على الآتي :
*وضع دستور ذي مهام محددة يعمل على تأسيس مؤسسات تلك الدولة وتفعيلها وحمايتها .
*تشكيل النظم السياسية والاقتصادية والإدارية والتعليمية والقضائية .
*تشكيل التنظيمات التي تفعّل النظم المذكورة مثل الأحزاب ، الانتخابات ، وسائل الإعلام المصارف ، الاستثمار ، الائتمان ، الجهاز الاداري ، الجامعات .. إلخ .
*وضع نماذج للسلوكات الحضارية في كافة مجالات الحياة .
3 ـ الركن المادي للدولة المدنية : وذلك من خلال الاتي :
*الحفاظ على الثروات الطبيعية وتنميتها للأجيال القادمة .
*الإهتمام الشديد بالثروة البشرية من خلال عمليات التعليم المتطور الذي يرتبط عضوياً بسياسات وخطط التنمية ، والتدريب الجاد للعنصر البشري ، والتأهيل الفكري والمهاري ، والتوظيف الكامل لكافة القوى البشرية القادرة على العمل .
4 ـ الوظيفة الاتصالية للدولة المدنية : والتي تقوم على الآتي :
تعني الوظيفة الاتصالية للدولة المدنية التواصل الفكري والثقافي والحضاري والتفاعل الإنساني بين تلك الدولة والعالم الخارجي ، ويحتوي هذا التعريف للوظيفة الاتصالية على مجموعة من العناصر نبرزها في الآتي :
* الوظيفة الاتصالية إحدى مهام الدولة المدنية ، وسبب من أسباب وجودها ، وهذا يعني رشادة الاندماج أو التفاعل مع العالم الخارجي .
* الوظيفة الاتصالية عملية متكاملة تفترض قيام شبكة من العلاقات والتفاعل بين الدولة المدنية والعالم الخارجي ، فهي ليست حالة وقتية أو عرض زائل ، ولكنها عملية لها طابع الدوام والاستمرارية .
* الوظيفة الاتصالية تفترض قيام تواصل فكري وحضاري وتفاعل إنساني ، وذلك يعني امتلاك الدولة المدنية القدرة على العطاء والتفاعل ، واكتساب خاصية الفرز والتمييز بين المتداول والشائع من الأفكار وانتقاء ما هو سوي صالح .
* الوظيفة الاتصالية للدولة المدنية توجه إلى دول متعددة ومتنوعة الثقافات والحضارات ، ومن شأن ذلك أن يختبر قدرة الدولة المدنية على التعاطي مع ذلك التعدد والتنوع ثم التأقلم والتكيف معه .
* الوظيفة الاتصالية للدولة المدنية تنطلق من منطلقات ثابتة واضحة ، وتهدف إلى تحقيق أهداف معروفة ومحددة سلفاً .
* الوظيفة الاتصالية للدولة المدنية توجه إلى من له علاقات معها لتزيد من اهتمامه بها وتحوله إلى صديق ، والى غير المهتم لتجعل منه مهتماً بها .