الرئيسية » تحرر الكلام » مصر ونهاية الامبراطوريات

مصر ونهاية الامبراطوريات

في عام 1913 ورثت الامبراطورية البريطانية منطقة "الشرق الأوسط" من الامبراطورية العثمانية، وعقب ذلك التوسع الجديد أصبحت الامبراطورية، التي لم تغب عنها الشمس، تسيطر على ربع مساحة الكرة الأرضية وربع سكان العالم.

 

        صحيح أن الامبراطوريات لا تسقط دفعة واحدة، بل بفعل مجموعة من العوامل المتراكمة، ولكن المؤرخين غالبا ما يشيرون إلى حدث فاصل يحدد تاريخ سقوطها. وكانت مصر مسرح الحدث الفاصل الذي أعلن أفول الامبراطورية البريطانية وهو العدوان الثلاثي على مصر (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل)، أو حرب السويس، في عام 1956.

 

       شكل الحدث نفسه إعلانا لبدء هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية التي ورثت المنطقة من الامبراطورية البريطانية. ولإحكام سيطرتها، كان لا بد للولايات المتحدة أن تتعامل مع مصر على أنها المحور الرئيسي الذي بدون التحكم به لا يمكن أن تستقر الهيمنة على المنطقة، وذلك لأسباب من أهمها:

 

أولا، قناة السويس تجعل من مصر أهم ممر مائي عالمي ورافعة أساسية للتجارة العالمية. للدلالة على ذلك، تكفي الإشارة إلى تحول الصين إلى مصنع العالم، وبدون مرور البضائع القادمة من آسيا إلى أوروبا وأمريكيا في قناة السويس، سيرتفع سعر تلك البضائع إلى مستوى غير محتمل في الأسواق الغربية بسبب تكاليف النقل الباهظة.

 

ثانيا، موارد الطاقة في المنطقة التي تمثل شريان الحياة للاقتصاد الغربي خاصة، والاقتصاد العالمي عامة. ويكفي أن نشير إلى أن ما يزيد على مليوني برميل نفط تمر يوميا إلى أوروبا والولايات المتحدة إما عبر قناة السويس أو عبر الأنابيب الموجودة في أرض مصر. كما أن كمية الغاز الطبيعي المسال التي تمر عبر قناة السويس إلى الأسواق الغربية تضاعفت ثماني مرات منذ عام 2008. وربما الأهم من ذلك أن الجيش المصري يوفر مظلة أمنية لمنطقة الخليج العربي، أهم مصدر لموارد الطاقة في العالم. أضف إلى ذلك أن مصر هي الجسر الموصل إلى القارة الأفريقية، الغنية بالموارد والفقيرة بالتنمية.

 

ثالثا، الهيمنة على مصر تمثل العامل الرئيسي في حماية أمن إسرائيل، وكانت ضرورية لاحتواء الاتحاد السوفييتي ومنع تمدد نفوذه في هذه المنطقة الحساسة.

 

رابعا، الهيمنة الاستعمارية على مصر تمثل أهم عقبة أمام نهوض إطار قومي يجمع القوى المبعثرة في المنطقة تحت خيمة الهوية العربية. فهذا الإطار الجامع لو نشأ سيشكل خطرا على أي هيمنة خارجية. فمن حقائق الجغرافية السياسية والتاريخ السياسي الأساسية، التي لا يمكن تجاهلها، أن ما يجري في مصر يؤثر على كل بلد آخر في العالم العربي.

 

        وهذا ما يفسر الجهود الضخمة التي وظفت في محاربة مصر الناصرية في كل المجالات وعلى جميع المستويات، بما في ذلك عزل مصر عن محيطها العربي، وتقليص الأيدي العاملة والمهارات العربية في الخليج العربي إلى الحد الأدنى واستبدالها بأيدي عاملة غير عربية، وإقامة ودعم أنظمة قُطرية وكيلة تحارب بكل الوسائل فكرة العروبة، وتسيطر على شبكة واسعة من وسائط الإعلام وعلى مليشيا فكرية من الصحفيين والكتاب الأجراء لشن حرب شعواء على الفكر القومي العربي، إلى حد التهكم والتقريع ضد كل من يتلفظ بمصطلح العروبة من ناحية، ومصطلح الإمبريالية من ناحية أخرى.

 

        وبموازاة ذلك، وظفت جهود كبيرة في دعم مشاريع بديلة للهوية القومية تتمثل في التيارات الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين في مصر.

 

       إن التيارات الإسلامية، بدلا من أن تضع المنطقة في إطار جامع، تفعل العكس تماما، أي أنها تدفعها إلى التفكك في إمارات متناحرة، وبدلا من جعل التعددية الدينية والمذهبية عنصر قوة داخلية في المنطقة، فإنها تحولها إلى آلية دائمة لإنتاج التناقضات والتدمير الذاتي الذي يفتح الباب أمام قتل النزعة الوطنية واللجوء إلى التدخلات الخارجية. أنظر كيف يتم استثمار جماعة الإخوان لخلق واستدامة الانقسام في مصر  وفي فلسطين، وانظر كيف يتم استثمار الدين والمذهب في تمزيق العراق وسوريه ولبنان.

 

        ولا بد أن نذكر في هذا السياق اعتراف مستشار الأمن القومي الأمريكي، زبينغيو برجينسكي، لصحيفة فرنسية في عام 1998، أن دعم الولايات المتحدة للمجاهدين في أفغانستان لم يبدأ عقب اجتياح الاتحاد السوفييتي للبلد في عام 1979، بل أن ذلك الدعم بدأ وتواصل سرا قبل الاجتياح بأعوام بهدف جر الروس إلى التدخل في أفغانستان.

 

       عندما سئل بريجينسكي هل كان نادما على أن الولايات المتحدة هي المسؤولة عن نشوء حركة طالبان، أجاب مستهجنا: وهل المهم هو ظهور طالبان أم سقوط الاتحاد السوفياتي و"تحرير" أوروبا الشرقية؟! وطمأن بريجينسكي الصحيفة الفرنسية بقوله أنه لا يوجد إسلام عالمي تماما مثلما لا توجد مسيحية عالمية. وتساءل كيف يمكن التوحيد بين الأصوليين السعوديين والليبراليين المغاربة؟ أي أن الاستراتيجية الأمريكية سعت إلى استخدام التيارات الإسلامية كعامل تفريق بدون أي خوف من تحولها إلى عامل توحيد، وكبديل لعامل التوحيد الطبيعي والمنطقي المتمثل في الهوية القومية. ألم تحوّل تلك الاستراتيجية الأمريكية أفغانستان إلى أرض خصبة لظهور الجهاديين والتكفيريين ليس في أفغانستان فحسب، بل في دول أخرى عربية وإسلامية؟ ألم تستخدم تلك الجماعات ذريعة لشن الحروب الاستعمارية على بلدان عربية وإسلامية أخرى؟

 

       الواضح إذا أن الويلات التي ابتلي بها الشعب الأفغاني على مدى ثلاثة عقود ونيف، وامتدت آثارها لتصيب بلدان أخرى في المنطقة، لم تؤرق ضمير الامبراطورية الأمريكية، بل كان ظهور طالبان نموذجا تعتز به وترى وجوب تطبيقه في مصر وغيرها في نسخة جديدة بعنوان لإخوان المسلمين. فهل ستنجح تجربة أفغانستان في مصر؟

 

       مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن مشروع الإخوان في مصر بسهولة بعد كل ما استثمرته في هذا المشروع على مدى عقود، بما في ذلك تدريب مليشيات إخوانية سرا في الولايات المتحدة. و يبدو هذا واضحا في تواتر زيارات المبعوثين الغربيين وعمليات الضغط والابتزاز المحمومة ضد الحكومة المصرية المؤقتة.

 

       إن خروج الشعب المصري في 30 حزيران/يونية ضد حكم الإخوان شكل منعطفا خطيرا لأنه يطرح سؤالا جوهريا ستقرر الإجابة عليه مستقبل المنطقة: من سيكون المنتصر في النهاية، القوى السياسية الوطنية الديمقراطية، التي تتطلع إلى مستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية على أساس المساواة في المواطنة واعتبار المواطن أهم مورد اقتصادي، والتي تعتز بتراثها الحضاري وثقافتها العربية الإسلامية في إطار وطني تعددي جامع، أم سيكون المنتصر هو القوى الأيديولوجية غير الوطنية المرتبطة بالمصالح الاستعمارية، والتي تنظر إلى الشعب كمطية مستضعفة ومستغلة لخدمة أهدافها الضيقة، وتنظر إلى المستقبل على أنه العودة إلى الماضي؟

 

       ومما يزيد من خطورة الأمر بالنسبة للغرب أن الشعب المصري كشف التيارات الإسلامية كمشروع استعماري مناهض لأهداف الربيع العربي وكبديل للهوية الوطنية ليس في مصر وحدها بل في المنطقة برمتها، مما حول الربيع العربي من مجال للمد الإسلامي السياسي إلى ساحة جزر واندحار لهذا المشروع المتحالف مع الغرب.

 

       المهم في الأمر أن الشعب المصري الواعي لم يقص الإخوان، بل أعطاهم فرصة تاريخية ففشلوا في الاختبار، وانكشفوا على حقيقتهم في مصر وخارجها، فقال الشعب كلمته فيهم مستعينا بالجيش المصري الوطني. إن هذه الوحدة الوطنية بين الشعب والجيش قادرة، إذا أرادت، على كتابة صفحة جديدة في سجل أفول الامبراطوريات الاستعمارية على أرض الكنانة.

 

       في عام 2011 عوّلت الامبراطورية المعاصرة على جماعة الإخوان في مصر لكي تكون بديلا للحكم الدكتاتوري السابق من ناحية، ولإجهاض أهداف ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 من ناحية أخرى. وفي عام 2013 أسقط الشعب المصري رهان الولايات المتحدة في مصر المتمثل في الإخوان المسلمين. ويختلف هذا العام عن عام 1956 في أنه لا توجد حاليا أي دولة غربية مرشحة أو قادرة على وراثة مصر والمنطقة من الامبراطورية الأمريكية. فهل يرث الأرض ومواردها أصحابها الشرعيون في هذه المرة؟

 

يوسف حمدان – نيويورك

 

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.