الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة

الجيوش الوطنية والثورات العربية ـ دراسة منهجية تجريبية موثقة

(15)

الدولة والنظام يبحثان عن مهمة جديدة للجيش المصري

إن البحث عن مهمة جديدة لجيش لم يمر على آخر حرب خاضها مع إسرائيل أكثر من خمس سنوات لهو إشكال معقد وذو شجون ، إلا أن هذا الإشكال طرح نفسه على الدولة وعلى النظام السياسي وعلى الجيش ، وكان لكل طرف سلوكه الخاص الذي ينتهي إلى الاتفاق على المهمة الجديدة .

الفرع الأول : الدولة الشمولية البوليسية تريد جيشاً تابعاً لها :

الدولة المصرية ذات الصبغة الشمولية البوليسية التي أرسى قواعدها الانقلاب العسكري الذي وقع في 23/7/1952م ، بمؤسساتها المختلفة تتوق إلى جيش يصطبغ بنفس صبغتها حتى ولو كان بدون عدو حقيقي واقعي ، وبالفعل ساهمت مؤسسات الدولة الشمولية في صياغة جيش بالمواصفات التي أرادت والتي سنأتي على سماته بعد قليل .

إن الدولة الشمولية البوليسية التي وضع أسسها الجيش نفسه تأبى إلا أن يكون الجيش وفق مواصفاتها ، حتى يتأقلم مع مؤسساتها ، ويشكّل الجميع منظومة متناغمة يتحكم فيها شخص الحاكم ويحركها كيف يشاء ، وكان ذلك شأن “السادات” الذي لم يدع فرصة لفرد أو جماعة أو قوة سياسية أو مؤسسة مهما كانت لكي تعبر عن رأيها ، ومن ثم كان تفكير الدولة الشمولية البوليسية في الجيش الذي يُراد إعادة هيكلته تكويناً وتشكيلاً وتدريباً وتسليحاً وعقيدة ، وفق أوضاع مصر الجديدة بعد توقيع إتفاق السلام مع إسرائيل ، ودخول المنطقة إلى مرحلة جديدة من التفاعلات الإقليمية والعالمية .

وبالفعل طرحت المرحلة الجديدة سؤالاً محورياً مفاده هل سيكون الجيش في مصر إحدى مؤسسات الدولة الشمولية أم تابعاً للنظام السياسي أم مستقلاً وفق مصالحه ؟

الفرع الثاني : النظام السياسي يبحث عن دور للجيش المصري :

لقد أبدى “السادات” وهو على قمة النظام السياسي ، وقد اشتدت سطوته بعد حرب أكتوبر وتوقيع اتفاق السلام مع إسرائيل ، إصراراً لا يقاوَم على أن الجيش ليس تابعاً للنظام السياسي فقط بل هو جزء مهم من ذلك النظام ، وهذه هي طبيعة الأمور وحتمية العلاقة بين الجيش والنظام السياسي وفق رؤية “السادات” في دولة شمولية بوليسية منذ نشأتها .

ولم تبعد الأمور كثيراً عن رؤية “السادات” ، وواصل الجيش توطيد وضعه داخل النظام السياسي وهو في ثوبه الجديد ، وشرع النظام السياسي معيناً في “السادات” وبعض المقربين منه في التفكير في وضعية الجيش بعد توقيع اتفاق السلام مع إسرائيل ، وكان السؤال المطروح : كيف يمكن استيعاب جيش لم يعد له عدو حقيقي ، ولم يكن له أعداء محتملين ، واستقر التفكير على رأي مفاده أنه ينبغي التخفيف من دور الجيش ومهمته كقوة قتالية بالتوازي مع انخراط الجيش تدريجياً في الحياة المدنية ، ومن ثم ظهر مفهوما “المديَنة”و”المأسسة” .

وهذان المفهومان ويضاف إليهما مفهوم ثالث هو “العسكرة” ترتبط جميعها بخصوصية تطور الجيش المصري بعد توقيع اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل ، وقد قام الجيش بهذه العمليات بالتوافق والتفاعل مع شريكيه الدولة المصرية والنظام السياسي ، فالدولة ومعها النظام السياسي ابتدعا عمليتي المديَنة والمأسسة لإضافة مهمة ودور جديد للجيش ، أما الأخير فقد فرض العسكرة تطبيقاً وتنفيذاً للعمليتين .

الفرع الثالث : الجيش يحدد دوره الذي يحقق مصالح قياداته :

إن قيادة الجيش في ذلك الوقت كانت تابعة لـ”لسادات” ، بل وصناعته الخاصة ، بعد استبعاد الفريق “سعد الدين الشاذلي” الذي كان على خلاف مستمر استراتيجياً وتكتيكياً ولوجستياً مع الرئيس الرافض للمعارضة والرأي الآخر ، ومن ثم لم يكن من الصعب على “السادات” إقناع قيادات الجيش برؤيته في الدور الجديد للجيش .

وقد لا يعنينا في هذا الموضع أن “السادات” كان مدعوماً في هذه الرؤية من الأميركيين الشركاء والحلفاء الجدد بل ومن إسرائيل نفسها بشكل غير مباشر ، ولم يُقدَّر لـ”لسادات” أن يرى النتائج الحقيقية الواقعية لتخطيطه ، إذ عاجله الجيش نفسه بالموت في حادثة المنصة الشهيرة .

ولم يكن نائب “السادات” الذي تم تعيينه خلفاً له على استعداد لأن يغير من الاستراتيجية التي وضعها سلفه بالتنسيق مع قيادات الجيش شيئاً ، لاقتناعه بتلك الاستراتيجية ، وعدم قدرته وهو لا يزال في بداية عهده بإدارة الدولة المصرية الشمولية البوليسية على أن ينزلق إلى مساجلات مع الجيش وهو في حاجة ماسة إليه ، ولم يملك “مبارك”إلا أن يبارك الاستراتيجية الجديدة ويرعاها بكل عناية وحرص ، إلى أن أصبح معنياً بها ومستفيداً رئيساً من مردوداتها ، ومضى الجيش المصري قدماً نحو عمليتي المديَنة والمأسسة اللتين بدأتا بشكل جدي وفعلي مع بداية ثمانينيات القرن العشرين ، وكان لقيادات الجيش باع طويل في عملية التحول التي شهدها الجيش المصري ، إذ تحولوا إلى رجال أعمال الاقتصاد العسكري وإلى سماسرة سلاح .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.