الرئيسية » تحرر الكلام » قبل أن تغزل الطائرة أبراجها!

قبل أن تغزل الطائرة أبراجها!

 قبل أن تغزل الطائرة أبراجها، قبل أن تمتد أضاؤوها لتترسم المسافة بين طيرانها قرب السحاب او بأعلاه وبين عنوان الهبوط، فالطائرة، أيا نسمة  بريئة مُرادة، هي التي تحدد المسار وترسمه وتعبق وتنشر عطر الأبراج، ثم يأتي السفهاء من محدودي الإبداع فيسمونها “أبراج المراقبة”، آية أبراج يا “هؤلاء” وآية مراقبة والطائرة هي التي تتعب النائمين من البشر، وتحدد لنفسها مسارها، ويقتات ساكنو الأبراج في النهاية من جراحها، إن أصابها العطب أو أوشكتْ اضطرارياً على الهبوط، أو جنحت إلى المحال في ثانية كما تمنتْ طوال عمرها!

كل الحكاية إنني ضبطتُ نفسي أتلصص عليك بين العابرين في مطار هنا او هناك، “أتاتورك” كما “القاهرة”، “هيثرو” كما “إسلام آباد”، لم يكن ثمة موعد ما بيننا، والطائرة، أيا حلوة الضمير المفترض، فرّت من جميع الأبراج، وما عاد يضنيها القرب أو البعاد، بك خاصمتْ البلدان وتمادتْ في الفصل والبعاد، وادمنتْ الانطواء بحجة نسيانك، وأن الأيام تأتي كما تشاء النفس لا كما تحبين، ألف يوم وألف نسمة وألف فرحة بمولود جديد وألف وفاة، كلها تفاصيل عادية مرتْ منذ اللقاء الأخير، كفارس عذب أسير صمم على القيد فقط ألا يرى غديره، موج شطآنه، حافة بئر مياهه يشرب منه “كلب”!

كل الحكاية إنني في بلد غير ذلك الذي عرف الحرب الأهلية واحتواني واحتوى أيام ونفحات ولفحات اللقيا فيك، غير “بيروت” و”الجزائر”، في بلد غير الذي تعارفنا فيه، وفي موعد اضطراري للذهاب إلى مطار راقبتُ برج المراقبة، عاد يا زهرة جعلك الخيال آثيرة، إلى سابق عهده تم دفن نفسه بين خيوط العنكبوت وأوراق الزكام والبرد وتيّه النفس، والاستسلام إلى خطوات السكارى تطرقه بحجة العمل وبحجة الغياب عن الحياة!

كنا نلتقي في “المنيا” و”6 أكتوبر” وب”الظاهر” وأحياناً “أمبابة” و”بين السرايات” .. فلماذا أبحث عنك في “أبين” و”الحديدية” و”صنعاء” و”ساحة الحرية” لست، يا هذه أؤمن بتناسخ الأرواح، ولكن

درساً تعلمته عنك وعبرك كان بالغ القسوة بما يكفي لأن أترنح لحال برج المراقبة، فيما أحاذر أن يراني حارسه، أرثي لحاله، أرقب قائد الطائرة، الذي أكونه، فأنا المُجافي المخاصم، وأنا الراثي في المقابل، قلبي من البرج في ناحية وعقلي خلف بنيان سابح في الفضاء، إلا فكيف تكونين في المطار وأنت على بعد آلاف الكيلومترات منه، أراك في مسافرة إلى “نيروبي” سمراء لكن لها نفس ابتسامتك، وواضعة قدم على قدم أوربية شقراء لكن لها نفس “طلتك”، وأردنية عفوية تنهر صغارها، بالغة الطول لكن لها نفس إيقاع الكلام السريع ومحاولة إعطاء نغمة لكل جملة، وإن تم نسيان النغمة أتتْ في المنتصف بها “بصمة النفس” كأنه أمر عفوي، أراك في بحرينية تمعن في التيّه ووصف المحال مثلك كلما أحببتْ الجدال والمفاصلة!

في المطار أرقب أخلاق العابرين بلا لطف لا يمهمهم إلا موضع أقدامهم، والسرعة في التبدد من المكان، فأتذكر أحاديث الثورة، وإنني إذ اشتعلت في “تونس”، “مصر”، “ليبيا”، “اليمن” كنت منك، مثلك بنفس الميادين، أيا فرحة عابرة نست فرحتها، نشعل النصر دموعاً وابتساماً، ولكنك من بعد استسلمت للثورات المضادة، هنا وفي حي الأمويين، وبلدة البوعزيزي، ومفازة فزان، وقات عدن، كنتُ أودك حبيبة أتدثر بها من المطر إذ يهل بالخير، إذ أدعو الله مع رسوله، صلى الله عليه وسلم: اللهم حوالينا لا علينا، ففوجئتْ بك السيل الذي يكاد يقتلع اعتابي بلا اسم، وكادت الشفقة أن تذهب بي وأنا أذهب عنك ..!

في المطار رأيتُك تتخفين من روحك وتأتين لمّا تنظرين إلى الطرقات يصير لمعانها أكثر، تُقبلينَ كل مسافر متأخر عن موعده، تنهرين رجال الأمن على اقتلاع الجلد والنظر أسفله لرؤية ما “قد يخبأ” العابرون، هناك عند الأسواق الحرة أخذت المنتجات بعيداً، علوت بها حتى السقف لمّت بقسوة أصحابها ومشتريها، فكما أن العالم يحمل مملوئي الجيوب المسافرين نحو المتعة والبهجة.. فإن رجالاً هنا يطيرون من مكان إلى آخر لإنهم لا يجدون لقمة عيش!

وجدك لا كأنت لكن بحس آخر.. برونق جديد، بألق محيا لم يره فيك ولا في أحد في الوجود، اختلط لديه بمعرفتك، كنتِ قمة اختلاط الماء البارد، المجمد بالماء الفائر من كثرة الغليان، يدٌ كانت في الصقيع فوجئت بها تلمس اللهب على عجل وعجب، توقف تدفق معلومات الاسترسال مع ما اعتاد أن يكون حينما لا يرى الأفق إلا نسيمًا في قلب محنة الرياح الشديدة، حاول أن يقرأ مرورك في حياته على إنه نسمة طائرة، فيما كانت رياحك تكاد تقتلع جذوره من ثنايا الوجود، برجك المهجور إذ يمر به، وطائرته تودع إذن سفرك عبرها، برجك يعرف إنه كان مهجوراً منذ آحايين كثيرة، وإن البرج تعاقب عليه مجرمون أدمنوا هزّه ورج ساكنته بلا مراعاة للبشرية فيه  وفيمن حوى، ولكن الأيام جعلتك تضبطي نفسك ومؤشرك على إيقاعه،  لمرة نادرة أصابه من الشفقة ما أخذه حتى بعيد حتى ليود أن يسترد البرج ..على ما فيه من مردة ومتطفلين ..!

تلك الدائرة لما طردها منذ ثلاث سنوات.. أدمنتْ ترك ألمّ لديه غير قوي ولا معتاد، تجرين أذيال الخيبة مقتحمة المقصورة ذليلة أمام العابرين ومحتضنيّ المقاعد واثقين من الوصول مع الحقائب، فيما حقيبتها تنتظر السكون إلى الأبد في برودة برجها، وهي تتذكر إنها لو ما كانت فرطتْ في دفء البرج من الأساس لظلتْ عالية، وإنها لو ما فرطتْ في دفء البرج لكانت غالية لا تدخل الشفقة قلبه من أجلها، ولا يتركها للصقيع ينهب حياتها أبد الدهر، وكلما تذكرتْ إن مركبتها احترقت وبرجها ترفض الطائرة مراقبته.. استأثرت أكثر بدفء العابرين من مسافريّ المواصلات المزدحمة..!

وهي تمضي لا تشيعها نظرة، ولا يهتم بعبورها ولا طردها نظر أحد .. تذكر إنه كم هي غالية “بساطة” الحياة، وإن قلب “حجر مولد طاقة” يبقى طاهراً ما عمل بوقود نظيف!

تذكرك في المطار، وما درى إلا وطائرته تدوي ومكان برجك لم يعد له موقع فيه، ولكنه رأى خيال محياك نظيفاً لدى وجوه عابرين غيرك حببوا الحياة إليه .. فأيقن إن صباحاً جديداً قادماً، وإن الطائرة تغزل أبراجها المختلفة عنك..من جديد!

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.