الضرورات تبيح المحظورات

الضرورات تبيح المحظورات
الأقوال والأمثال العربية بحاجة إلى تدقيق وتمحيص
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

في‏ ‬المخزون اللغوي‏ ‬العربي‏ ‬الكثير من الأقوال المأثورة والعبارات والأمثال والحِكم التي‏ ‬كثيراً‏ ‬ما تطلق وتستعمل على عواهنها دون تدقيق وتمحيص كافيين لمعانيها الدقيقة الكاملة وللمقصود منها‏. ‬من هذه الأمثلة‏ "‬الضرورات تبيح المحظورات‏" ‬التي‏ ‬كثيراً‏ ‬ما تتردد ونسمعها في‏ ‬العديد من الحالات والمناسبات الاقتصادية والاجتماعية والشخصية والسياسية‏. ‬يقال عادةً‏ ‬إن الدين الإسلاميّ‏ ‬قد ضيّق دائرة المحرّمات الدينية وشدد في‏ ‬أمر الحرام في‏ ‬الوقت ذاته فكل شيء‏ ‬يقود إلى الحرام حرام‏. ‬

ما العمل؟

والسؤال المركزي‏ ‬الذي‏ ‬لا مندوحة من طرحه وبكل قوة وجلاء هو في‏ ‬الأساس ذو شقّين‏. ‬الشقّ‏ ‬الأول ما التعريف الجامع المانع،‏ ‬إذا كان ذلك ممكناً‏ ‬للفظتين‏ "‬الضرورات والمحظورات"؟ والشقّ‏ ‬الثاني‏ ‬مَن المخوّل لإعطاء مثل هذه التعاريف والتحديدات اللغوية والشرعية الصارمة وهل هي‏ ‬شاملة،‏ ‬لا بد من تطبيقها في‏ ‬كل زمان ومكان وعلى كل انسان؟ لقد تحدّث الإسلام عن هذين الشأنين،‏ ‬فهناك كم هائل من الضرورات الحياتية بالنسبة لقطاع واسع من الناس،‏ ‬على أقلّ‏ ‬تقدير،‏ ‬ويقف الانسان العادي‏ ‬إزاء هذه الضرورات بلا حول ولا قوّة وعندها فما العمل؟ عند ذلك،‏ ‬إلحاح الضرورة وضغطها الكاسح لا بد للمسلم من الإقدام على المحرمات بغية درأ التهلكة‏. ‬
    ويشار إلى ذلك في‏ ‬سورة البقرة الآية ١٧٨ "‬إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر‏ ‬غير باغ‏ ‬ولا عاد فلا اثم عليه إن الله‏ ‬غفور رحيم‏". ‬ومعنى ذلك ان الله حرّم على المسلم هذه الخبائث والفواحش كلحم الخنزير والميتة والدم وتلك الذبائح التي‏ ‬نحرت باسم آلهة الأوثان كاللات والعزى،‏ ‬لا باسم الله‏. ‬هذه هي‏ ‬القاعدة في‏ ‬التحريم‏. ‬ولكن عند الضرورة‏ ‬يمكن للمسلم تناول هذه المحرمات‏ "‬غير باغ‏ ‬ولا عاد‏" ‬أي‏ ‬أنه لم‏ ‬يكن ساعيا بنفسه إلى فساد وطالباً‏ ‬للذة ولا متجاوزاً‏ ‬حدّ‏ ‬الضرورة والحاجة‏. ‬الله‏ ‬غفور رحيم وقد أباح المحرّمات وقت الضرورة والحاجة‏. ‬وهذه معلمة من معالم اليسر لا العُسر في‏ ‬الشريعة الإسلامية ولكن هذا لا‏ ‬يعني‏ ‬الاستسلام والارتماء في‏ ‬أحضان المحظورات لاستمراء ذلك والإمعان في‏ ‬طلبه ومزاولته حيناً‏ ‬بعد حين‏. ‬
    
وقد ورد في‏ ‬سورة البقرة أيضاً‏ "‬يريد الله بكم اليسر ولا‏ ‬يريد بكم العسر‏" (‬الآية ‏١٨٥) ‬والسياق هنا هو صيام شهر رمضان وهو من أهم الأركان في‏ ‬الإسلام وخير من الفطر والفدية لما فيه من أجر عظيم،‏ ‬والصيام شرعاً‏ ‬الانقطاع عن الطعام والشراب والجماع نهاراً‏ ‬مع النية،‏ ‬والتسهيل بخصوص الصيام للمسافر والمريض والمسن واضح لا‏ ‬يحتاج إلى تلميح أو تصريح‏. ‬

التطهير من الرجس

وفي‏ ‬إطار هذا المجال الدلالي‏ ‬والمقصود من التيسير لا التعسير تصب أيات أخرى مثل‏ "‬ما‏ ‬يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن‏ ‬يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون‏" (‬المائدة ‏٦). ‬والمقصود هنا وفق التفاسير المعروفة والمألوفة هو أن الله لا‏ ‬يبغي‏ ‬من وراء هذه الفروض من الوضوء والتيمم والغسل الخ‏. ‬إحراج المسلم ومضايقته وتنغيص مجرى حياته بل،‏ ‬كما تقول الآية،‏ ‬تطهير العبد من الأرجاس والذنوب واسباغ‏ ‬نعمته الجمة عليه لا سيما في‏ ‬الآخرة‏. ‬وفي‏ ‬السورة التي‏ ‬قبلها،‏ ‬سورة النساء الآية ٢٨ ‬نقرأ‏ "‬يريد الله أن‏ ‬يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا‏". ‬أي‏ ‬أن الله‏ ‬يودّ‏ ‬أن‏ ‬يسهّل أحكام الشرع على الانسان الذي‏ ‬خلق ضعيفا واهناً‏ ‬أمام شهواته وميوله الغريزية وهذا‏ ‬يتمشى مع القول السائر،‏ ‬لكي‏ ‬تطاع إسأل ما‏ ‬يُستطاع،‏ ‬أو ما جاء في‏ ‬سورة البقرة الآية ‏٢٦٨ ‬لا‏ ‬يكلّف الله نفساً‏ ‬إلا وسعها‏ … ‬ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏.‬
من الواضح أن أول هدف للزواج هو الحفاظ على الانسان على هذه البسيطة عن طريق التناسل‏. الأديان السماوية الثلاثة قد شجعت على ذلك ورأت في‏ ‬كثرة النسل بركة من عند الباري‏. ‬وفي‏ ‬الإسلام،‏ ‬عند الضرورة المعتبرة،‏ ‬يمكن نهج ما‏ ‬يُدعى في‏ ‬عصرنا باسم تنظيم النسل أو الحدّ‏ ‬من النسل والوسيلة الشائعة التي‏ ‬اتبعها المسلمون الأوائل من الصحابة في‏ ‬عهد الرسول العربي‏ ‬هي‏ ‬العزل،‏ ‬أي‏ ‬قذف النطفة خارج عضو المرأة التناسلي‏. ‬وروي‏ ‬في‏ ‬الصحيحين عن جابر‏ "‬كنا نعزل على عهد رسول الله‏ (‬صلعم‏) ‬والقرآن‏ ‬ينزل‏" ‬وفي‏ ‬صحيح مسلم جاء‏ "‬كنا نعزل على عهد رسول الله فبلغ‏ ‬ذلك رسول الله‏ (‬صلعم‏) ‬فلم‏ ‬ينهنا‏". ‬ولا بد من الإشارة إلى أن لفظة الصعلوك مثلاً‏ ‬تعني‏ ‬المعدم الفقير ومن ثم اللص وذلك لأن الفقر‏ ‬يؤدي‏ ‬إلى الاختلاس والسرقة‏. ‬وكما ورد في‏ ‬المثل‏ "‬الخلة تدعو إلى السلة‏" ‬بمعنى أن الفقر لا مناص‏ ‬يقود إلى السرقة والتسلل‏. ‬ومن الصعاليك المشهورين في‏ ‬العصر الجاهلي‏ ‬عمرو بن برّاق والشنفرى وتأبط شرّا‏.‬
لا بدّ‏ ‬من تحديد معاني‏ ‬ما نستعمله من الألفاظ بكل موضوعية وعمق وشمولية ودقة قبل الولوج في‏ ‬أي‏ ‬جدال أو حوار وإلا كان حوارنا‏ "‬حوار الطرشان‏". ‬

قد يهمك أيضاً

تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

تابعنا

الأحدث