الرئيسية » غير مصنف » الجريمة المزدوجة والمشهد الفلسطينى الراهن

الجريمة المزدوجة والمشهد الفلسطينى الراهن

 فى تعليقه على قرار مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة الخاص بتشكيل لجنة دولية لها صفة عاجلة للتحقيق بشأن كل الانتهاكات المرتكبة فى الهجوم الإسرائيلى على قطاع غزة، اعتبر عوفير جندلمان المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو أن التحقيق يفترض أن يفتح مع حماس كونها وفقا لهترتكب جريمة حرب مزدوجة من خلال إطلاق الصواريخ على المدنيين الإسرائيليين والاختباء وراء ظهور المدنيين الفلسطينيين. وبتلك الكلمات السهلة الاستخدام فى الإعلام الداخلى والخارجى، والقادرة على إيجاد مساحة تأييد لها، كما يحدث عادة، وضعت إسرائيل عبر المتحدث الرسمى لرئيس الوزراء المسئوولية كاملة على حماس، كما قدمت فرصة أخرى لمن ينتقد الحركة وفصائل المقاومة فى النطاق الداخلى والإقليمى ليضيف مبررا جديدا إلى قائمة مبرراته القاضية بتحميل حماس والمقاومة المسئوولية على التصعيد القائم وعلى الدماء.

ولم يمر المتحدث الرسمى على هذا الموضوع دون أن يقدم تفسيره الضمنى لسبب اتساع عدد القتلى من الفلسطينيين وتنوع المناطق المستهدفة للهجمات، حيث أشار إلى أنها مسئوولية حماس التى تقوم بتحويل المستشفيات إلى قواعد عسكرية، والمدارس إلى مخازن أسلحة، وتقوم بنصب منصات إطلاق الصواريخ قرب الملاعب والمنازل والمساجد. وهو الأمر الذى يصل به إلى رفض القرار وإدانته، والمطالبة بتوجيه الجهود ضد حماس وكل التنظيمات الإرهابية التى تستخدم المدنيين كدروع بشرية فى إسقاط على تعريفه لفكرة الجريمة المزدوجة ومسئوولية حماس والمقاومة.

ويوضح تصريح المتحدث الإسرائيلى ضمنا أن التركيز على حماس فى الخطاب الإسرائيلى هو إطار واسع يستهدف فى النهاية فصائل المقاومة، وفكرة المقاومة نفسها لأن الربط بين ما تقوم به حماس وما تستخدمه من آليات ووسائل وما تقوم به غيرها من فصائل المقاومة من عمليات أمر يسهل تحقيقه فى الممارسة بما يجعل التجاوز عن الإشارة لكل الفصائل مسألة عملية. كما  أن التركيز على حماس فقط يحولها وممارساتها إلى عدو يسهل استهدافه فى الخطاب الإعلامى وفى رسم الصورة الذهنية المطلوبة للكيانات الإرهابية كالقاعدةوهو ما يسمح بدوره بالتركيز على الفصائل والممارسات بدلا من النقاش حول فكرة المقاومة ذاتها فى محاولة لاستبعاد الربط بين ما يحدث وواقع الاحتلال. فالمقاومة كفكرة تحتوى على جانبها الموضوعى والإيجابى المتمثل فى وجود الحق فى الأرض وحالة الظلم على عكس مفاهيم الإرهاب والتنظيمات الإرهابية المستخدمة بما تحمله من معانى سلبية مهددة للحياة وللأمن. وهو ما يساعد إسرائيل فى خطابها القائم على وصف تحركاتها بالدفاع عن النفس فى مواجهة الممارسات الإرهابيةبدلا من أن تكون فى مواجهة فكرة المقاومةوالفارق كبير للغاية.

وبالمجمل، فتلك التصريحات التى أطلقها المتحدث الإسرائيلى ليست جديدة فى السياق الكلى للتعامل الإسرائيلي مع المقاومة أو الوضع الفلسطينى. وتعيد إلى الواجهة موقف إسرائيل بعد أحداث ١١ سبتمبر حين وضعت بن لادن وياسر عرفات والشيخ ياسين فى جملة واحدة من خلال التأكيد على أن كل طرف لديه بن لادن الخاص به، والتأكيد على أن لديها عرفات والشيخ أحمد ياسين. هذا التشبيه الذى جعل حرب إسرائيل على الفصائل جزء من الحرب الأمريكية على الإرهاب من خلال إتباع نفس المفهوم والمقاربة كان شديد الوضوح فى تلك الفترة وظهرت نتائجه فى تعامل الولايات المتحدة مع التحركات الإسرائيلية التالية. ولكن ما يهم فيه أنه لم يتوقف عند وضع فصائل المقاومة أو شخصيات رمزية مهمة فى سياق المقاومة مثل الشيخ ياسين فقط فى هذا التصنيف، ولكنها وضعت عرفات نفسه شريكها التفاوضى ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية لأنه، وفقا لقراءتها فى هذا الوقت، لم يكن شريكا تفاوضيا أو شريكا قادرا على تحقيق السلام وفقا لرؤية محددة للسلام.

وفى اللحظة الحالية، تظهر مرة أخرى تلك المقاربات التى تكتفى بأن تضع أفعال المقاومة فى إطار الإرهاب متجاوزة عن واقع الاحتلال، وعن أن ما يحدث ليس حرب بمفهوم الحرب بين الدول والجيوش النظامية، ولكنه حرب بين دولة احتلال وفصائل مقاومة من أجل إنهاء الاحتلال. هى مواجهة بين جيش نظامى لديه أحدث الأسلحة وفصائل مقاومة تقوم فى جزء كبير بالاعتماد على إنهاك إسرائيل بنوع ما من أنواع حرب العصابات التى تختلف باختلاف اللحظة ونوع الأسلحة عن فترات سابقة من عمر القضية مثل الانتفاضة الأولى وما قبلها. إلى جانب ما يقوم عليه خطاب إسرائيل من محاولة وضع ما يحدث خارج سياق حالة الاحتلال نفسها، وتقديمه فى صورة  أقرب لخطاب الدول الغربية الديمقراطية وهى ترى معركتها مع عدو ظلامى كاره لأسلوب الحياة الحر. مع تجاوز حقيقة عدم إقامة السلام العادل الدائم الذى مثل الاختيار الفلسطينى الرسمى منذ أوسلو بكل ما شهده من عقبات.

ومن أجل إكمال المشهد، وتحسين صورة إسرائيل كطرف انسانى فى حالة الحرب يصبح من المطلوب إيجاد معادلة ما من شأنها أن تفسر الضحايا من المدنيين دون تقليص التشبيه القائم بين إسرائيل والغرب فى حربهم ضد الإرهاب فيتم تبنى فكرة أقرب لفكرة الضحايا بالضرورة والخسائر الجانبية للمعركة. ويصبح هم إسرائيل هو تركيز الخطاب على الممارسات التى تتم ضدها وتكثيف صورة الإرهابى الفلسطينى. ويتم تحميل المسئوولية على الفصائل نفسها التى وضعت السكان فى المواجهة بتحويل منازلهم ومساجدهم ومدارسهم وساحة ألعاب أطفالهم ضمن الأهداف المطلوبة كما ورد فى خطاب المتحدث الإسرائيلى ويرد فى غيرها من الكتابات والتصريحات.

وبهذا لا يتم الحديث طويلا عن مواقع الضرب التى تتجاوز ما قدم من مبررات لإطالة المعركة من خلال استهداف الأنفاق مثلا، ولا يتم التركيز على أسباب استهداف أحياء كاملة بالضرب المباشر فكل غزة هدف محتمل ولا مساحة للتعامل مع البشر والحجر إلا فى إطار أنها خسائر جانبية لا يمكن تجاوز حدوثها. خطاب يضاف له الحديث عن انسانية التعامل مع المدنيين وهو الأمر الذى أشاد به الطرف الأمريكى باعتبار أن الاتصال الهاتفى والرسائل التى يتم إلقاؤها على المدنيين فى غزة هى محاولة واضحة من إسرائيل لعدم استهداف المدنيين وحمايتهم. وهى مقولات لا يمكن أن تصمد أمام الحقائق على الأرض سواء من حيث مساحة القطاع، أو عدد سكانه وحقيقة أنه من أكثر المناطق من حيث الكثافة السكانية، إلى جانب حقيقة عدم وجود نطاق محدد للضرب أو بديل أخر لسكان قطاع محاصر منذ سنوات. فما الذى يفترض أن يفعله من يتلقى الاتصال أو الصاروخ التحذيرى أو أى وسيلة تفصل بين الموت القادم واللحظة؟! ما هى قيمة الانسانية فى اتصال يبلغ بالموت قبله بلحظات وغياب الاتصال أن كانت النتيحة واحدة؟ وان كان الضرب بكل تلك الكثافة والإصرار على التدمير فكيف يتصور أن يكون الاتصال دليل إنسانية أو تحييد للمدنيين فى الحرب القائمة؟ وأن كان كل هذا فكيف يمكن تفسيره فى استهداف مستشفى أو ملعب أطفال؟

ورغم أن كل تلك الاعتبارات قد تبدو لضمير انسانى غير مبررة وغير كافية ولا ترد على تساؤلات أساسية حول طبيعة المشكلة وأسباب التصعيد والاستمرار فيه وحجم الخسائر على الأرض، فهناك تعاطف لا يمكن إنكاره من البعض مع الجانب الإسرائيلى، لدرجة أن نجد تعليقات على أخبار موت ودمار على طريقة أن حماس مسئوولة والشعب مسئوول لأنه انتخبها من البداية، أو أن حماس هى التى أوجدت الحرب واستغلت الشعب الفلسطينى من أجل تحسين وضعها الداخلى فى قضايا صراع السلطة الفلسطينية. أن تصل نسبة تأييد إسرائيل إلى ٥٠٪ تقريبا فى الولايات المتحدة وفقا لبعض الاحصاءات المنشورة مع نسب تاييد مختلفة هنا وهناك ترى فى الخطاب الإسرائيلى حديث قريب لهم ومبرر لأنه يضع العدو فى صورة عدوهم المعروف لهم بما لديهم من قابلية لمحاربته.

تجد كلمات التأييد فى أطر مختلفة ومن مناطق أقليمية متعددة لم تعد قاصرة على الغرب الذى نتصور أحيانا أنه لا يدرك أبعاد القضية أو لديه أسباب أخرى لاختلاف قراءته عنا، بل تجدها داخلنا وبيننا ومن أصوات ترى أن فلسطين ليست إلا شأن فلسطينى وأن الدور العربى ليس إلا دور صاحب الفضل الذى يساعد عندما يرغب ويستطيع. ولأن جرح القريب أو من نتصوره قريب أكثر إيلاما بالمجمل، فالصورة لا تتغير هنا خاصة وأن أصوات إسرائيلية وغربية تعيد استخدام تلك المقولات العربية التى تدين الجانب الفلسطينى لتأكيد مشروعية الموقف الإسرائيلى وتحميل المسئولية كاملة على الجانب الفلسطينى كشعب وفصائل، أو فصائل فقط. فى حين تلجأ أصوات وكتابات عربية أخرى ومواقع فلسطينية مختلفة للإشارة إلى تحركات تضامنية أكثر وضوحا وعمقا وانسانية من دول ومناطق خارج المنطقة العربية بما يوضح حجم التشابك فى اللحظة الراهنة والتعقد فى التعامل معها ومع ما تفرضه من تحديات أو تقدمه من فرص أن وجدت.

تقف القضية الفلسطينية فى مواجهة تحدى الوجود وهى تواجه برؤي وتحليلات وأفكار إسرائيلية تؤكد على ضرورة توسيع نطاق سيطرة إسرائيل على قطاع غزة، ما بين خطاب يؤكد على ضرورة فرض سيطرتها على كامل القطاع مرة أخرى أو على جزء منه، مع شن حرب داخله ضد المقاومة والأنفاق لسنوات قادمة وهو ما يعنى بالضرورة التصعيد وليس السلام لسنوات أخرى قادمة. ويعنى أننا لازلنا فى أطر دائرية الطابع لا تقودنا إلى تحقيق الحلم بقدر ما تعود بنا من لحظة وأخرى لواقع الكابوس المعاش والحلم المنتظر والذي كلما مر الوقت أبتعد.

تبدو الأوضاع فى المشهد الفلسطينى مركبة ومعقدة، ولكنها الآن وفى اللحظة العربية الضبابية المحيطة بنا، تبدو أكثر اضطرابا بحكم اختلاط المواقف وعدم تحديد المطلوب من الثورات العربية لدى النظم والشعوب العربية. وان كانت العديد من الأطراف العربية نفسها عاجزة عن تحديد ما تريده داخليا وكيف تتجاوز لحظتها الخاصة، فإن حالة التخبط تلك تظهر واضحة فى مواقفها الخارجية وهى تحاول أن تحافظ على بقايا دور وصورة وتاريخ. وعلى الأرض يبدو التحدى شديد الخطورة لأنه يتيح لإسرائيل أن تحقق الكثير من خلال الضبابية العربية التى تقدم لها صكوك شرعية وهى تخاطب الآخر وتحاول الحفاظ على جانب إنسانى وسط الدم، وما تصريحات الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز خلال زيارته لعدد من الجنود الإسرائيليين الجرحى عن إنتهاء ما يسمى بالعالم العربى المعاد لإسرائيل إلا تأكيد على تلك الصورة، فلم نعد فى واقع عربى يشكك فى المقاومة أو الجانب الفلسطينى وشرعية قضيته فقط، ولكننا تجاوزنا هذا إلى درجة التجاوز عن الاعتداءات الإسرائيلية وبشاعة التعامل مع البشر والتجاوز عن صور الدم والتدمير وحتى عن الأرقام التى تصل إلى قتيل كل نصف ساعة تقريبا منذ بداية العدوان بحساب المدة والعددنتجاوز عن كل هذا وكأنه أقل من مسلسل رعب نشاهده على شاشة بدون عواطف أو أحاسيس.

جاء تعبير المتحدث الإسرائيلى الخاص بالجريمة المزدوجة ليطرح نفسه وبقوة فى المشهد الحالى ولكن ليس فى ما يخص الفصائل كما طرح، ولكن في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ككل والتى تقف فى مواجهة جريمة مزدوجة ما بين محتل ورافض، عدو وصديق، داخل وخارج، راغب فى حل وباحث عن دور، وما بين انسانية مطلوبة وعدالة غائبة.

بالطبع يدفع البشر الثمن دوما، وعندما نكون أمام سؤال الوطن والأرض فإن الأرض تدفع الثمن أيضا فى الحاضر والمستقبل. ويظل السؤال مطروحا ان كان الحاضر غيمة وأكثر فهل يكون القادم مطرا حقا؟!

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.