لعل من عجائب الزمان أن تحتاج مسألة بدهية للنقاش والأخذ والرد؛ فمن طبيعة الأشياء أن الشعب المحتل علاقته بالاحتلال هي الرفض والمقاومة بمستويات مختلفة، وحتى لو كان الخيار-مرحليا- لا يسمح بممارسة القوة أو الانتفاضة الشاملة ضد الاحتلال، فإن هذا لا يعني أن الاحتلال يستفيد أو من مصلحته اندلاع انتفاضة في فلسطين المحتلة.
وقبل ثلاثين أو عشرين أو عشر سنوات لا أظن عقلا كان يتصور أننا بحاجة لمثل هذه المقالة، ولربما بدا عنوانها كاريكاتوريا، على المستوى الفلسطيني أتحدث، لأننا وجدنا من العرب وساستهم ومثقفيهم من يطرح نظرية استفادة إسرائيل من الانتفاضة والمقاومة عبر سنوات الصراع الطويلة.
والتنظير والترويج لهذه الفكرة فلسطينيا ليس نخبويا فقط، بل أصبح له في أوساط عامة الشعب بمختلف طبقاته حظ وافر؛ فتسمع حيثما كنت أن إسرائيل تخطط لجرّ الشعب الفلسطيني إلى انتفاضة، لأنها ستخرج من مأزقها…ويضاف إلى ذلك أن العرب منشغلون بإفرازات الربيع العربي ولن يلتفتوا لنا حين تستفرد إسرائيل بنا وأن إسرائيل الآن محرجة، وأن ما يـقوم به المستوطنون من عربدة وعدوان داخل المسجد الأقصى وضد القرى والبلدات الفلسطينية من شمال الضفة وحتى جنوبها، هو فقط لاستفزازنا لردات فعل تستثمرها إسرائيل.
ولأنني أرى أن هذه الطريقة في التفكير خاطئة تماما، وأنه أصلا يجب ألا نظن ولو بنسبة واحد في المليون أن انتفاضة الشعب المغتصبة أرضه والمصادرة حقوقه والمعتدى عليه في أي وقت أو مرحلة، هي مصلحة للقوة المحتلة، بل على العكس تماما، فقد أحببت أن يكون ردي ونقاشي لهذه الفكرة بنقاط وملاحظات هي:-
1) هل يوجد وقت وفرصة ذهبية للحركة الصهيونية خير من وقت الهدوء، ولو النسبي، لتستكمل مشروعها التهويدي الاستطياني؟ فالأرض تسلب جهارا نهارا، والمستوطنون انتقلوا من مرحلة الاحتماء والاستقواء بجيش الاحتلال-وهم جزء منه طبعا- إلى مرحلة الهجوم على البشر والشجر والحجر، ولم يعد أهالي كثير من القرى والبلدات يأمنون على أنفسهم وبيوتهم ومساجدهم ومزروعاتهم وممتلكاتهم، وانقلب الحال من رعب المستوطنين، وفرارهم، وزهد اليهود الصهاينة في المستوطنات، إلى تكوّن وتبلور ما يشبه الدولة الخاصة بالمستوطنين، وهذا ما حصل في ظل الهدوء…فكيف تكون الانتفاضة في صالح هذا المشروع؟ ووفق أي حسابات وهي التي ستستنفر الجيش والموازنة، وتجعل المستوطنات فارغة تـقريبا، وستقلل من معدلات الهجرة اليهودية إلى فلسطين؟
2) الفكرة التي تقول بأن الانتفاضة الأولى جلبت لنا عملية التسوية وما رافقها ونجم عنها من تداعيات مختلفة، والانتفاضة الثانية جلبت لنا الجدار الذي قضم من الأراضي ما قضم، فإن الانتفاضة الثالثة ستجلب لنا كوارث جديدة أشد وأنكى، مما يعني صحة النظرية القائلة بأن الانتفاضة مصلحة صهيونية بحتة…أقول:مشكلتنا على الدوام كانت أننا نسير في الطريق الصحيح، ثم لا نستكمله، سواء بدافع داخلي أو خارجي؛ وهذا يحدث معنا منذ الثورات ضد الانتداب البريطاني، فقد أوقفنا ثورة 1936م ثـقة بوعود بريطانيا لزعماء الدول العربية، فكان حالنا كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، أما الانتفاضة الثانية التي ربما أسهمت بعض مخرجاتها وتداعياتها بتنامي هذا الفكر، فليس فيها عيب، بقدر ما يكمن العيب في طريقة إدارتنا وارتجاليتنا، وعدم تحديد الأهداف، ولا ننسى كيف كان ما يشبه حظر التجول يعمّ المدن المحتلة في الداخل، وكيف اضطر جيش الاحتلال لإغلاق الشوارع والطرق وتحويل المستوطنات إلى ثكنات عسكرية، لأن المستوطنين قد ذاقوا كؤوس الموت من رصاصات وكمائن ثائر حماد ومهند أبو حلاوة وعاصم ريحان ونصر الدين عصيدة وغيرهم وغيرهم…لكننا كنا نقول تارة بأن هذه الانتفاضة لن تتوقف حتى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وتحرير الأراضي المحتلة سنة 1967م أي الضفة الغربية وقطاع غزة تارة أخرى، ثم نتحدث عن العودة إلى ما كان عليه الحال قبل 28 أيلول سنة 2000م وهكذا، كما أننا استهلكنا أنفسنا بسرعة لدرجة أنني أعتبر أن استمرار الانتفاضة سنوات يعتبر معجزة، فلم يكن هناك مباعدة زمنية بين العمليات، ولا دراسة للأهداف …كما أن حسني مبارك قد أراد تقديم عربون قبول أمريكي لتوريث الحكم لولده جمال عبر تحقيق التهدئة على الساحة الفلسطينية، بحيث تكون التهدئة غاية لا وسيلة…ونجح في ذلك عبر عمر سليمان لأبعد الحدود…فالمشكلة ليست في الانتفاضة والمقاومة بل في طريقة إدارتنا وتعاطينا معها.
3) هل كان العرب يهبون لنجدتنا قبل الربيع العربي؟ وهل كانت جيوشهم متأهبة لوضع حد للعدوان الصهيوني ثم انشغلت بالشأن الداخلي؟ ألم يتبين أن لقاءات القادة العرب مع الإدارة الأمريكية لم يكن لقضيتنا فيها حضور يذكر؟ فعن أي انشغال تتحدثون؟ ثم ألا نـفكر بأننا بعد أن كنا من يصنع الحدث، ويجبر العرب على التعاطي معه بتنا متأخرين، فالمنطقة تتغير ونحن مكانك سر، وما يتغير عندنا فقط هو حجم المستوطنات التي تكبر وتسمن؟ ثم من قال بأن قضيتنا ليست مركزية حاليا، حتى في ظل الانشغال المزعوم؟
4) إذا كانت الانتفاضة مصلحة إسرائيلية، فلماذا تقوم المخابرات الإسرائيلية باعتقالات متواصلة، ولا تسمح لأي ناشط بالتقاط أنفاسه؟ بعكس سياستها سابقا، حينما كانت تغض الطرف عن بعض النشاطات، أو تقوم باعتقال من أصبح ملفه ممتلئا، ما يجري الآن أن كل من يأتي بحركة يعتقل فورا، فإذا كان الاحتلال معنيا بانتفاضة فليدع النشطاء يلقطون أنفاسهم قليلا…أما الاعتداءات والاستفزازات فهي الناتج الطبيعي للضعف والهوان، وما نسميه بالتعبير البلدي «مستوطيين حيطنا!» فمن الخطأ الظن أن الهدوء من الشعب الواقع تحت الاحتلال سيقابله المحتل بالترحاب، وباحتضان هذا الشعب، ومع أنه قد يقوم بإجراءات تحت عنوان التخفيف وتسهيل الحياة، فإن العدوان والاستيطان ومحاولة الاستعباد هي طبيعة المحتل، وأما الإجراءات التخفيفية، فهي تخضع لحساباته الأمنية والمالية بالدرجة الأولى.
5) ما هو المأزق الإسرائيلي الحالي فيما يتعلق بنا؟ فالأمر مريح جدا للكيان، وهو يستفرد بمن شاء مستخدما جيشه ومخابراته وقطعان مستوطنيه، وبات مطلبه الواضح الاعتراف بما يسميه «يهودية الدولة» ولا يوجد ضغوط تذكر على الكيان بحيث يكون مخرجه منها هو مواجهة مع الشعب الفلسطيني؛ فأوباما جاء ليقدم لهم صكوك الطاعة والولاء، وزعامة القارة الغارقة في أزماتها (أوروبا ) كذلك، وحتى الصين بدأت تنفتح على الكيان، وتوقع معه اتـفاقيات اقتصادية وعلمية، وهي غير ملومة في ظل الاستخذاء العربي، فعن أي المآزق يتحدثون؟
6) الحقيقة التي نتهرب منها أننا نحن من نعيش في مأزق، وانشغل مجتمعنا بالتوافه والأمور الهامشية، والجري وراء لقمة العيش، وظهرت على السطح ظواهر اجتماعية سلبية كنتاج طبيعي لحالة الهدوء، والمناكفات بين قوانا وفصائلنا في ازدياد، وهناك حالة استقطاب، بسبب الموقف من الوضع العربي عموما، وسورية خصوصا…وكل ذي عقل يدرك أن الخلاص من هذه المشكلات المتسلسلة التي تتوالد باستمرار يكمن بالعودة إلى المقاومة الشاملة، لأن هذا سيخرج الجميع من الحالة التي وصل إليها الجميع أفرادا ومجموعات وقوى سياسية.
7) أما الخوف من الفوضى والفلتان كنتيجة لاستغلال بعض الأفراد والمجموعات حالة الانتفاضة والمقاومة فهذا ما زرعته أيدينا؛ فحزب الله-بغض النظر عن نـقاط الخلاف معه- لم يتردد سنة 1997م في ردع وتهميش ونبذ من يعتبر أمينه العام السابق «الشيخ صبحي الطفيلي» حينما أعلن عما أسماها «ثورة الجياع» وهي عبارة عن احتجاجات سكان سهل البقاع من الطائفة الشيعية على حملة أجهزة الدولة اللبنانية على زراعة المخدرات، مع أن طابع دعوة الطفيلي كان فيه بعض جوانب معقولة نتيجة تردي الوضع المعيشي والاقتصادي لعموم اللبنانيين والشيعة خصوصا، لكن كوادر وبقية قادة الحزب، أدركوا أن تضرر وبطالة فئة من طائفتهم خير من الظهور كعصابة مافيا تتحدى الدولة، تحت حجج الفقر وغيره، فيما امتنعنا نحن عن ردع منـفلتين تكاثروا نتيجة الصمت والتبرير واللامبالاة…نحن لم يكن لدينا تجارة ممنوعات، ولكن ظهر سلاح لا يستخدم إلا للاستعراضات والتشبيح، متسترا بالمقاومة، ولا نراه وقت دخول دوريات الاحتلال، مما جعل عموم الشعب يـقولون:نريد النوم بهدوء، ولا نريد مقاومة إطلاق النار في الهواء وأخذ القانون باليد…ومع ذلك فإن هذا الخوف لا يجوز أن يبقى كابحا للمقاومة والانتفاضة لأن خطر التهويد والاستيطان أكبر وأعظم وأخطر.
الحديث ذو شجون ولكن ما هو مؤكد أن إسرائيل وتحديدا في هذا الوقت ليس من مصلحتها اندلاع انتفاضة إطلاقا، وكل من يعتقد أو يظن ذلك عليه إعادة حساباته…والأهم أن شعبنا عودنا أنه حين ينطلق وينتفض يسقط كل حسابات وتنظيرات وتوقعات الأصدقاء والمراقبين…والأعداء بطبيعة الحال!
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
السبت غرة رجب -1434هـ،11/5/2013م
من قلم:سري سمور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين