الرئيسية » تحرر الكلام » سقوط بغداد .. إشكالية العلاقة بين الحاكم و المحكوم في البلاد العربية

سقوط بغداد .. إشكالية العلاقة بين الحاكم و المحكوم في البلاد العربية

لا غرابة في أن العلاقة بين الشعوب والحكام تتقلب و لا تهدأ على حال ، لكن  الغريب أن تتسم تلك العلاقة بالميل التلقائي و المستمر نحو العدائية و التضاد كما في البـلاد العربية و التـي تردّت أوضـاعها للحـد الـذي انفصـل فيه الأمن القومي للشعوب و الأوطان عن أمن الأنظمة و الحكام :

فما الذي يجعل الجموع تتوانى عن نصــرة حـكامها عند حاجتهم إليها ؟ و لِمَ لا يجـد البعض سبباَ لتخلـي الجمـوع غير الجُبن و التخوين و الخضوع للغزاة ؟

طويلة هي سيرة الإنسان مع الظلم و الطغيان من عصر هابيل و قابيل إلى اجتياح مغول العولمة لعاصمة الرشيد و تدمير غزة و منازل بني عاملة في الضاحية و تبنيين ، و الحَيطة من الخذلان كالانتصارات العظيمة لا تأتي بغير الجموع ، تلك التي لا تأتي  ذليلة مهانة و لن تقف شامخة في غير معاركها فهي كما تجيد الانتصار و صناعة الأمجاد تجيد بإتقان شديد أساليب التشفي و الانتقام بالتّخلي و الخِذلان.

  

حقيقة لم يخطئ  جيفارا حين علل بها إخفاقه الأول و الأخير في أحراش بوليفيا و استوحى منها قرب النهاية ، فالبوليفاري الذي دأب على تحريك المياه الراكدة في أمريكا اللاتينية فشل و رفاقه في استقطاب الجموع القروية لمعركته المعيبة التي أوقعته أسيرا ثم قتيلا ، و بــذات العلة – مع الاعتذار الشديد لـ(جيفارا) على حشره في هذه السلة من جبابرة التاريخ – سقــط لويــس السادس عشر و موســوليني و باتيسته و تشاوشيسكو و النميري و سقط شاه إيران رجل أمريكا القوي عندما قررت الجموع الإيرانية الانحياز لآيات (قم) و أن يكون الخميني حاملا اللواء ، و الجموع ذاتها من رسمت بغيابها مصير صدام حسين حين تركته وحيداً في مواجهة مغول العصر و لم يشفع له كـــل ما قيل عن وطنيته و نظافة الذمـــة من أمـــوال العراق ، بل حتى استبساله الأخيـــر و نجليــه و مصطفى حفيده الوحيد في مواجهة الموت بتلك الشجاعة التي عز نظيرها و وقف عاجزا في غيبتها عن جعل أولئك المرتزقة ينتحرون على أسوار بغداد  كما كان يبغي و يريد.

  

لقد كذب العرافون  و تنصّل الشعراء ، و الطبالون ، و كتَمَتْ الحقائق و الوُشاة ـ الذين كانوا هم أهل الرأي و المشورة و أصحاب القصاصات ـ و كذا حذت حذوهم جحافل الأحلاف القبلية و الجهوية ، و شيوخ العشــائر ، و المتنفذون ، و ضباط المخابرات و الأمن و الحرس الجمهوري ، و بعض من أبناء العمومة ، و السواد الأعظم من كوادر و شبيبة الحزب الذين جاء بهم الطمع أو التقية ، و كل رواد القصـور الرئاسية ، و رواد مكاتب وجهاء البعث في بغداد من وعودهـــم للرجل على موائد البيعة بالفـداء ، و خارت عزائمهم أمام هدير دبابات (ابرامز) التي كانت تحمل في بطونها طواقمُها القتالية و علــى ظهورها العملاء الذين منَّوهــا بالورود المنثورة في حــي الــدورة و شــارع أبو نواس ، و تعامتْ (العَوجَة) عن أسرة الرجل الذي ادخل اسمها الموسوعة الحرة وأطلس البلدان ، و لم يبق في ميدان فلسطين بعد تشتت الجيش و المتطوعين العرب سوى الصحاف يدير عبر الأثير معركته الافتراضية على طريقة (احمد سعيد) دون أن يحسب للخذلان حساب .. لقد غابت الجموع و أظلمت بغداد.

    

غابت الجموع .. و أستفرد بالرجل و كبرت مأساته و تعاظمت بعد أن قــرر صهاينة (الإيباك) في غيبتها أن يجعلوا منه عِظَةً لمن يتعظ و مكنهم ذلك الغياب من قطع الرأس التي تجـــرأت على مجــرد التفكير في ضرب إسرائيل ، و تعمدوا حلّ الجيش الذي نفذ أوامر تلك الرأس و تصفية العقول التي وضعت معادلات التفجير و تمكنت بمعرفة قواعد علم المقذوفات من حساب مجاهيل السرعة ، و الزمن ، و معايرة الأوزان لتقُض مضاجع الإسرائيليات بعشرات الصواريخ .. توارت الجموع رغم يقينها بعروبة الرجل و عراقية ولائه ، ترجم عراقيته في اهتمامه بالتعليم والجامعــات و البحــث العلمي و الجيش الوطني عالي الكفــاءة و التدريــب ، وأنــه الرجل  الشجاع الذي حاول و لو في بعض لحظات يأسه أن يكون الأجرأ في عيونها بعد صلاح الدين ، و ظاهر الدين بيبرس حين نجح في كسر أسطورة الأمن الإسرائيلي و اخترق (القبة الحديدية) في فلسطين.

   هذا ما حدث في العراق ..

لكن ألا يحق لنا بعد هذا أن نتساءل :

لِمَ غابت الجموع عن رجل بغداد القوي ؟ 

ألأنه نجح في بناء جيشه الذي شكل مصدر قلق على الواردات الأمريكية من النفط الممزوج بـ(تزلف) بني العمومة في جزيرة بني يعرب للمغتصبين في لندن و واشنطن و فلسطين؟

أم أن تخلي الجموع العراقية عن صدام كان عقابا منها له على تنازلاته للشاه في الجزائر و رفضه لمبدأ القتال أو التحكيم ؟

أم أن ظهور رمس فيلد يوماً ما في بغداد – يبكي بدموع التماسيح أمجاد ابن الو قاص – قد أثار حنق الجموع على الزعيم المفدى إلي ذلك الحد ؟

أم لأنه حد من طموحات إيران القومية و عطل برنامج الخميني لتصدير الثورة غربا ؟

أم أن الجموع قد تأثرت بمأساة الكويت و أزمة الديون الخليجية و الاستدراج السلس للجيش الذي صقلته مهمة السنوات العشرة ليقع فريسة سهلة في حبال (الكاوبوي) و شراك الرجعية العربية و يزول الخطر العربي الحقيقي المهدد لميمنة (إسرائيل) ؟.

   

لا شك أن ابن تكريت- و بعيدا عن كل ذلك – قد كتم حقّاً أنفاس الجموع العراقية بقبضته الحديدية وضيق عليها دروب العيــش ، و عــاش بعيدا عنها في أحضــان بِطانـــة فاســدة حفــرت بمكرهـا و جهلها و فسادها أخدود عميق بينه و بين تلك الجموع التي أخرجته من أذهانها و راهنت على لحظة السقوط ؛ لتنحاز لطوائفها و عشائرها و لثقافاتها الفئوية والجهوية الكامنة متخلية عنه و عن عِراقها الواحد العريق ؛ و الرجــل إن صــح تحليلنا هذا يكون قـــد استلَـذّ كغيره من العرب قحـط الحياة السيــاسية و الاقتصادية في العراق و راق له الاستقواء على الجموع بأذرع مؤسسته الأمنية التي شردت مظفرا و أسقطت عن ألبـــــياتي و ألجواهري جنسية العراق ؛ لتثبت فقط أن أرض(العِراك) لا تُدار إلا بحجاجٍ – يعتمرُ عمامة حمراء و الذي لا يفتأ سيفه يقطر دماً – يختزل الحزب في شخصه و بنيه و نفر من رفاقه و آل مجيد و ذلك علواً كبيراً في الأرض تمقته السماء.

  

خُذل صدام حسين و الكثيرين من قبله و ربما من بعده  في حين لم تخذل الجموع ذاتها أبابكر في حروب الردة ، و لم تتوان عن تخييط أفواه الإبل مع خالد ، و لا عن حرق مراكبها مع طارق على شواطيء الأعداء البعيدة ، و ما برحت آبار بدر و ما غادر منها أحد بلاط الشهداء ، و لم تترك ونستون تشيرشل يصد النازيين وحده عن لندن ، و لم تنكسر في البريقة 2011 و لينيين قراد ، ولم تتخل رغم الـ(نابالم) المصبوب عن (هوتشي منه) و الجنرال (جياب) في حرب فيتنام و هي ذاتها التي خضبت بالدماء شوارع سرت و بلفاست و جوهانز بيرغ و صخور الجبال الكردية وفاءاً للقذافي و لجيري آدمز و مانديلا و أوجلان ، و هي التي عانقت الثورة الجزائرية في ٍبواكيرها النقية و لم تتردد في عبورها المجيد لقناة الســويس و تدمير خط (بارليف) .. و هي ذاتها التي عاضدت بوتو و مهاتير في الخروج من الصفيح و الغابة و الولوج للذرة و معانقة السماء .. و هي التي احتضنت في هافانا رجال الثورة الكوبية و مسحت عن جباههم العرق و غبار البارود .. و لم تترك احمد الشريف يعبر الصحراء التشادية وحيداً ؛ لملاقاة الإيطــاليين في برقة و ربوع البطنان .. و هي النجوع البدوية التي لم تخذل عمر المختار و رجاله في الجبل الأخضر يوم نادى المنادي على خيل الله رغم العزلة و الترويع ، ليرمي الشيخ المجيب عصا المعلم و يقرّب الجواد و عُدّة القتال وهي من حوله لأكثر من عشرين عام تقاسمه الزاد القليل و تمده بالسلاح القادم من سيوه على أكتاف رجال يحسنون استخدامه لترسم بالدم و الرصاص حدود الكرامة  و تحفظ كبرياء أمة أبا عبيدة و المعتصم و يوسف باشا و أبن نصير.

   حقّاً .. قد ألغت ثقافة العصر – بالعولمة ، والقرار الدولي ، و التكتلات الكبرى ، و مؤسساتية الدولة المركبة ، و ثورة المعلومات – زمن المعتصم وابن تاشفين ، و النساء عواقر ، و علم الاستنساخ لا يزال وليــداً ، وعـــصر الكرامــات و الأفذاذ انتهى و خالد يا أبن الخطاب لن يولد من جديد ، و لم تجـد صرخة الطفلة (هدى غالية) فينا رجل مجيب ، والخنساء لن تبكِ منا بعد ربيع (ليفي) صخراً مهيباً ، و القــاتُ اللعين و الحلف العربي المقيت التهما حياة مساكين الله و شجرة البــن في اليمن منبع و يتيم العروبة ، و الجوع و البؤس و الحرمان في تعز و الحُدَيدة بفتك أسرابهم يزيد ، و الجامعات العربية أضناها الوهن فضنّت علينا بأمثال الماغوط و أركون و الجابري و النيهوم لتدخل ديارنا في عصور الهرطقة و الظلام ، والمعارضة العراقية و الليبية و السورية المستجلبة على ظهور دبابات الغــزاة أثبتـت أن الشمولية و الانتقامية و رفــض الآخــر ليست  ثقافـــة حِكْــرٍ على الحُكام في بلاد الضاد و ألغــتْ بطائفيتها و عشائريتها و جهويتها و بشاعة سلوكها السياسي شرعية التفكير عربيا في كيفية التداول السلمي على السلطة و ماهية الحكم الرشيد ؛ فالقهر و الخيانة سمتان راسختان في البلاد العربية منذ الأزل و إلى يوم يبعثون.

رغم كل هذا ورغم الخراب الكبير تظل الجموع تجنح بعيداً في أحلام مارثن لوثر كينج تفاخر الليبراليين بخطبة الصدَيق في المهاجرين و الأنصار ، و تُثني على ابن خلدون في ربطه بين الظلم و خراب الأوطان .. تبحث بيأس عن مانديلا عربي لا يحمل ثقافة (أنا و أهلي أو الطوفان) .. تقاوم في يأسها الزيف بالتخلي و التجهيل الممنهج بالتعليم الموازي و صقل الذات ، كما تقاوم الجوع و الحرمان والاستبداد بعبور بحارِ الموتِ سراً خلف أسراب العقول المهاجرة ،  أو ربما تمضي – مغاضبة مدفوعة محتجة – إلى مزيد من البيعة لأولئك الذين ادعوا الوصاية على الجنة و النار و لطخوا بالتكفير و الدماء وجه الإسلام و الذين لا مناص من الاعتراف لهم – رغم الشك في ارتباط منشأهم بالماسونية و الموساد – بأنهم من عطلوا من الفلـــــوجة بَلْقنة المكــان ، و قد يكونوا هم من صارعوا الأســاطيل الكبـــرى في بحــار الصومال ، و أجبروا الصهاينة علــى بناء الجــدار، و دكوا بأجســادهم معــاقل (الإيساف) المحـصنة في باقـرام ، و غزوا (مانهاتن) من تورابورا و وزيراســتان ، رغم كل هذا ورغم الخراب الكبير ، تظل الجموع إن شاءت يستجيب لها القدر و لاستسقائها يُنزل الله المطر و يجلو ليلها و القيد ينكسر ، فأيّ ثوري حكيم يستبدل عشق شعبه و الوطن و الحرية بالـ(أنا)  و (العمالة) و ( الخنوع المذل للاستكبار الدولي ) ؛ غوصاً في الشهوة ، و السلطة ، و المال ليخرج بالتمام من التاريخ و من أذهان الجموع ؟!!

قد يعجبك أيضاً

رأي واحد حول “سقوط بغداد .. إشكالية العلاقة بين الحاكم و المحكوم في البلاد العربية”

  1. رائع كعادتك
    والخنساء لن تبكِ منا بعد ربيع (ليفي) صخراً مهيباً ،
    و الله مايبكي صخرنا المهيب و يعرف فداحة فقده غير قلم مثلك
    بالتوفيق

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.