الرئيسية » غير مصنف » الثورات العربية وراء بروز أنماط جديدة في العلاقات الدولية وإعادة تشكيل النظام الدولي (4)

الثورات العربية وراء بروز أنماط جديدة في العلاقات الدولية وإعادة تشكيل النظام الدولي (4)

رابعاً : نظام دولي غريب يتشكل :

هل عادت الحرب الباردة ؟ يتساءل البعض مستذكرين أحداث وتطورات ما بعد الحرب العالمية الثانية ، قد يقول البعض تبسيطاً واستسهالاً أن العالم قد عاد ثانية إلى الحرب الباردة ، ولكن الواقع ينطق بأن ثمة حقبة جديدة بقسمات متميزة من تاريخ العالم ترتسم الآن ، ربما تعود به إلى حقبة ما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية ، حيث الصراع بين تكتلات مرتكزة على مصالح استراتيجية أو اقتصادية عابرة ، مع اختفاء التحزب الأيديولوجي الصارم ، وغياب الصراع البتار الذي يمكن أن ينذر بحرب حقيقية .

إنها حقبة تتميز بالتنافس بين كتلتين رئيستين : الأولى تشمل دولاً استبدادية لا وجود فيها لما يسمى بحقوق الإنسان ، تدعم النظم الدكتاتورية بجرأة تصل إلى حد الوقاحة ، وهي روسيا القيصرية المتعسفة ، والصين الماوية في عبوسها الصارم ،  وفي ركاب هذين الكبيرين ، يسير كوريا الشمالية ذات القيادة المتصابية ، وكوبا العتيقة المتهالكة ، وإيران اللاهثة نحو المشاكل تحت الولاية الحديدية للفقيه ، وغيرهم كثير من دول العالم المتخلف .

والكتلة الثانية تشمل دولاً نرجسية تهتم بشعوبها ، وتستميت من أجل الترفيه عنها ،  ولكن على حساب بقية شعوب الأرض ، لا تمل الثرثرة من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وهي نفسها تيقن أنها منافقة ، وهي دول أوروبا وأمريكا ، ومن يسير في ركابها من دول العالم المتخلف .

ألا تحتاج هذه الدراما الهزلية إلى الإقتراب منها وتحليلها بمنهج علمي ، وبعقلية غير مؤدلجة ، وبمنطق واقعية السياسة الدولية قمة العلاقات الدولية ، وبصفة خاصة بعد الثورات العربية الحدث الأهم والأشهر في القرن الواحد والعشرين ، قلة من المحللين هم الذين ينجحون في تجريد تحليلاتهم من التحيز للذات أو لعاطفة الحب والكره ، ومن ثم تكتسب تلك التحليلات ثقة متابعيها ، فهل يقدّر لنا القيام بشيئ شبيه ، لنرى !

 

إذا يممنا شطر التفاعلات والقضايا العالمية بين الحلف والعصبة ، فسنجد أن الحقبة التي تبدأ منذ مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة ، تحمل الكثير من السمات ، والحساس الخطير من القضايا ، وكلها يحتاج إلى وقفة تأمل .

أ ـ المطالبة الأمريكية لأوروبا بتحمل دورها السياسي والاقتصادي في السياسة الدولية :

مطلب قديم تبث عبره أمريكا لوعتها من ثقل الأعباء الاقتصادية الذي تتحمله لقاء الدفاع عن أمن ومصالح العصبة في كافة أرجاء العالم ، ولا يقتصر العبء على الكلفة الاقتصادية فقط ، بل هناك الكلفة البشرية ، وهناك الكلفة السياسية الداخلية ، بل وهناك كذلك كلفة المقت والاستهجان الدولي ، عندما تصعّر أمريكا خدها وتريق ماء وجهها في مناطق العالم المختلفة ، لقاء تقدمها لكتيبة الدفاع عن الأمن والمصالح الغربية في تلك المناطق .

ولكن هل تضطر أمريكا للقيام بهذه المهمة إضطراراً ، ولماذا ؟ إن أمريكا تعلم ومعها أوروبا أنه من الصعوبة بمكان أن تتخلى أمريكا عن هذه المهمة لأوروبا ، فجرأة الفعل والإقدام عليه لا يتوافر إلا لأمريكا وحدها ، وهذا معلوم ، فهي القطب الأوحد ، كذلك فإن أمريكا تجني ثمار هذه الأعباء وهذه القيادة بشكل جزيل ووفير ، فهي تضمن أن تدين لها أوروبا بالولاء وفاءً واعترافاً بالجميل ، يضاف إلى ما تقدم الهيبة الدولية التي تترسخ لأمريكا بالرغم من الكراهية والاستهجان لتصرفاتها في كل المناطق ، كذلك فإن أمريكا تضمن الدفاع عن أمنها ومصالحها بنفسها ، ذلك الأمن وتلك المصالح التي لا يمكن لأمريكا أن تأمن أحداً عليهما ، حتى ولو كان أوروبا الحليف التاريخي والوفي لها .    

لم يكن بوسع أمريكا أن تلح في مطلبها السابق بعد الحرب العالمية الثانية ، فأوروبا خرجت لتوها من الحرب في حالة إعياء شديد ، ولا يزال مشروع مارشال لم يؤت أكله بعد ، وواقعياً لم تستطع أوروبا القيام بمهمة مشاركة أمريكا في حماية أمن ومصالح الشراكة ، لأن قوة أوروبا لا تمكنها من القيام بهذه المهمة .

حتى في عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم ، كفت أمريكا عن مطلب التفعيل المادي للشراكة الأوربية ، فالمظلة النووية الأمريكية عبر الانتشار النووي في عموم أوروبا الغربية ، حتمية تفرضها الحرب الباردة والخطر الشيوعي الداهم ، كما أن الوجود الأمريكي فوق الأراضي الأوروبية ضرورة ملحة ، بوصفه خط الدفاع المتقدم عن الأراضي الأمركية ذاتها ، وأوروبا في وضعية انقسام وتفسخ بين غرب مع أمريكا وشرق مع الاتحاد السوفياتي ، وكل منهما يتربص بالآخر .

إلاّ أن وحدة أوروبا التي خرجت إلى الوجود مع منتصف التسعينيات من القرن العشرين ، والتي رافقت انتهاء الحرب الباردة بين القطبين ، واستئثار أمريكا بزعامة النظام الدولي وتجسيد قطبه الأوحد وقيادة العالم ، كانت السند والمبرر لأمريكا لكي تجدد مطلبها القديم لأوروبا للمشاركة المادية في تحمل تبعات أعباء الدفاع عن الأمن والمصالح الغربية في مناطق العالم المختلفة ، ليس هذا فقط ، بل برر لها الإلحاح في الطلب ، الاقتصادات الأوربية التي نمت بوتائر سريعة ومعدلات مرتفعة ، وما ترتب على ذلك من تراكم ملحوظ في الاستثمارات قفزت بالاقتصاد الأوروبي إلى المرتبة الثانية بعد الاقتصاد الأمريكي ، ومن ثم بات التوزيع العادل لكلفة ونفقات الشراكة يمثل أهم أسس استمرارها والحفاظ عليها  وتطويرها. 

ب ـ الخروج الأمريكي من أوروبا دون تضرر الشراكة عبر الأطلنطي : 

الواضح أن ثمة إتفاقاً بامتياز وارتياح لأن تغادر أمريكا القارة العجوز ، لا لكي تتركها تلاقي مصيرها بمفردها ، ولكن لأنها بلغت سن الرشد ، وبات لها من الأهلية ما يمكنها من المشاركة في صناعة الفعل في العلاقات الدولية ، وكذا في توجيهه ، أو تلافي مضاره ، فلم يعد باستطاعة أمريكا أن تغامر بمفردها مثلما فعلت في فيتنام ، ولكن أصبحت لا تفارق الجماعة ، كما حدث في إخراج العراق من الكويت ، والحملة العسكرية على العراق ، ونظيرتها على أفغانستان ، وآخرها نصرة الشعب الليبي .

وأمريكا لم تخرج من أوروبا عبثاً وارتجالاً ، فهي تريد أن تشكل العالم حسبما ترى ، وحسبما يتفق مع هذه الحقبة من استراتيجيتها العالمية ، وللحفاظ كذلك على تلك الاستراتيجية الكوكبية ، ولإحساسها المرهف بأن ثمة من يحاول العبث بالواقع المستقر ، كالصين مثلاً التي تبالغ في بناء قوة عسكرية تقلق أمريكا وتتوجس منها خيفة ، وكروسيا التي تنوي هي الأخرى بناء قوة عسكرية تدفع بها من جديد لأن تعيد مجد الإمبراطورية السوفياتية ، كقطب دولي يملك استراتيجية كوكبية ، ولكن بشكل متسق قومياً وسياسياً واقتصادياً .

ت ـ الإفصاح الأمريكي عن دور جديد ووجود فعال في شرق أسيا والمحيط الهادي : 

لم تخف أبداً أمريكا نواياها في الذهاب والتمركز في مناطق تعتبرها مهمة ، وتعتبر وجودها فيها غير كاف وغير فعال ، ولعل أهم هذه المناطق هي منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي ، ففي هذه المنطقة مصالح أمريكية استراتيجية واقتصادية ، وحلفاء وأصدقاء في حاجة إلى دعم وحماية ، ناهيك عن المستقبل الاقتصادي المتوقع لهذه المنطقة ، ومدى تأثيرها في الاقتصاد العالمي .

يرتبط بما تقدم ، أن ثمة رؤية أمريكية ثاقبة ومتنامية ، ترصد تحركات مريبة ومشبوهة ، لكل من روسيا والصين تجاه تلك المنطقة ، في مقابل ارتباك وتوعك ياباني نجم عنهما انحسار للدور الياباني ، ومن ثم يصبح من الخطأ الاستراتيجي ترك الحليف الياباني بمفرده في تلك الأجواء .

وهذا التخطيط الاستراتيجي أعرب عنه الرئيس الأمريكي صراحة في أكثر من خطاب له عن حالة الاتحاد ، وكذا في مناسبات أخرى .  

ث ـ التوجس الأمريكي من التقدم العسكري والتسليحي الصيني وتوقع صراع لا يمكن إخفاؤه : 

وهذه تمثل حلقة مهمة في سلسلة الاستراتيجية العالمية الأمريكية ، ترتبط مباشرة بضرورة كبح جماح التنين الصيني ، الذي يبدو أنه يفرط في تطوير أسلحته ، ليس لبيعها للمتقاتلين في بقاع المعمورة فقط ، ولكن لتقوية ترسانته العسكرية التي لا تريح حلفاء أمريكا في آسيا مثل اليابان والهند وغيرهم ، وإن كانت تمثل هاجساً مشتركاً لروسيا وأمريكا معاً .

علاقة الصين بإيران والباكستان وأفغانستان وغيرها من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق تقلق أمريكا والغرب ، ومن الخطأ الاستراتيجي أن تُترك الصين طليقة ، تسرح وتمرح في ذلك الفضاء الفسيح ، وبصفة خاصة مع خروج جيش رعاة البقر من أفغانستان مقفلاً إلى بلاده ، على غرار ما حدث في العراق .

إن ذلك الخروج المخزي للجيش الأمريكي من موقعين مهمين في آسيا ، من شأنه أن يدفع الصين للحركة بحرية في سهوب وسط آسيا الفسيحة ، من أجل دفع إيران للسير قدماً في طريق تحدي الغرب ، حتى ولو أوهمتنا من آن لآخر بأنها تعظ إيران ، وتنصحها بالتفاهم حول ملفها النووي المثير للجدل والذي تم تسويته بشكل مرض لإيران ، كما تنظر الصين بعين الرضا إلى مطاردة إيران للوجود الأمريكي في آسيا الوسطى ، والتي نتج عنها إغلاق القاعدة العسكرية الأمريكية في قرغيزستان ، توقياً للصواريخ الإيرانية في حال نشوب القتال بين الغرب وإيران في مضيق هرمز والخليج العربي ، وذلك قبل الاتفاق النووي الإيراني الغربي .

ومن شأن ذلك الفراغ أيضاً أن يقرّب الصين أكثر من الباكستان ، اللذان يلتقيان حول كراهية الهند العدو التقليدي للإثنين ، ويزيد في ذات الوقت من توسيع الهوة بين الباكستان وبين أمريكا ، تلك الهوة التي تزداد اتساعاً ، وتأبى على التجسير ، بعد اختراق المخابرات الأمريكية للسيادة الباكستانية وقتل بن لادن ، والتخبط الميداني العملياتي للجيش الأمريكي في أفغانستان ، ما جعل الوجود العسكري الأمريكي في الأخيرة والتعاون الباكستاني معه ، بمثابة كابوس يهدد وحدة وسيادة واستقرار الدولة الباكستانية .   

كذلك يُتوقع للصين دور في أفغانستان بعد الخروج الأمريكي ، في قيادة جوقة من إيران والباكستان وجمهوريات أخرى في وسط آسيا ، وإن كانت طبيعة ذلك الدور وقسماته لم تتحدد بعد بشكل قاطع ، إلاّ أن المؤكد أنه سيكون موجهاً ضد الوجود الأمريكي والغربي بكافة أشكاله ، وربما تتأهب الصين لذلك الدور من الآن ، حيث يسهل استطلاع قسمات الإستبشار على مواقفها وبياناتها وهي تستقبل أنباء الشروع الأمريكي في مغادرة الأراضي الأفغانية .  

كما استشرى نزال مخابراتي إيراني إسرائيلي فوق أراضي كلٍ من جورجيا وأذربيجان ، التي عشعش فيهما الموساد ، والذي تتهمه إيران بالضلوع في اغتيال علمائها الذريين ، وتورط الجورجيين والأذريين في ذلك ، ولا يُتوقع أن يقتصر الدور الصيني على المراقبة عن كثب ، وقد تهدأ هذه الأوضاع ويتم تنميطها بعد الاتفاق النووي .    

إزاء ما تقدم كيف يمكن تصور شكل الصراع المتوقع بين أمريكا والصين ، هل سيكون صراعاً بالوكالة عبر مفوضين تجندهم أمريكا لمناكفة الصين في مجالها الحيوي ، فمَنْ إذاً وكيل أمريكا للقيام بهذا الدور ، أم سيكون صراعاً اقتصادي الفعل سياسي النتائج ، وهو صراع ليس لأمريكا فيه ميزة الترجيح نظراً لوضعها الاقتصادي الذي لا تحسد عليه ، أم سيكون صراعاً مسلحاً مباشراً وصريحاً ، وليس لأحد أن يتوقع ذلك ، أم سيكون صراعاً سياسياً دبلوماسياً إعلامياً عبر تعبئة المجتمع الدولي في مواجهة الواقع السياسي في الصين ، والتكثيف الإعلامي في زخات دعائية تكشف عن خلو القاموس السياسي الصيني من مفردات الديموقراطية وحقوق الإنسان والتنوع والتعدد السياسي والثقافي والحضاري ، ويصحب الاحتمال الأخير كشف الجهود الصينية الحثيثة نحو التسلح ، وإتخام الترسانة الصينية بالحديث والمتطور ، وذلك لتخويف الجيران وزعزعة الثقة وإحداث القلاقل .

ج ـ المطالبة الأمريكية لألمانيا بأن تكون رأس رمح أوروبا لمشاركة أمريكا في الصراع العالمي : 

تأتي هذ المطالبة في إطار المطالبة الكبرى لأوربا ، وعقب تمكن أمريكا من اصطحاب بريطانيا وفرنسا في معظم المغامرات الكوكبية ، والآن جاء الدور على ألمانيا القوة الأوروبية الأكثر جلداً والأوفر حظاً في مواجهة السقوط الاقتصادي الذي اجتاح أوروبا .

ولم تأت الرسالة الأمريكية إلى ألمانيا في هذا الصدد مضمرة أو مغلفة ، بل جاءت صريحة وواضحة ، ولكن هل تحمل هذه الرسالة في ثناياها استحضار واستدعاء لنزعة القيادة ووازع السيادة إلى الشعب الألماني بما يثير مخاوف الأوروبيين ، أم هي دعوة إلى تعدد الأقطاب في أوروبا بدل القطبين ، ووجود تنافس دائم بين الأقطاب الثلاثة ، ألا يُخشى من العسكرية الألمانية ، وما يمكن أن تقود إليه ، أم أن عسكرة ألمانيا إضافة مهمة إلى قوة أوروبا وأمريكا بالتالي ، وذلك في مواجهة روسيا متنامية القوة والطامحة في القطبية العالمية ، ومع الاعتبار للافتراض الأخير ، إلاّ أنه يمكن القول بأن أوروبا قد بلغت من النضج ما يجعلها أكبر من التفكير في المغامرات الصبيانية التي أفرزتها الأفكار الشوفينية النازية والفاسستية ، وأضحت قانعة بضرورة الحركة الجماعية في إطار الهوية الثقافية والذات الحضارية الأوروبية في عالم استبدل الثقافة باتساعها وعمقها بالأيديولوجيا بضيقها وضحالتها ، ولعل هذا ما يفسر الإصرار الأوروبي على ضرورة إنقاذ كافة الدول الأوروبية وإقالة عثرتها المالية مهما كلف ذلك من ثمن .     

ح ـ عزم ألمانيا بناء جيش قوي وحديث لحماية مصالح ألمانيا وأمنها في مناطق العالم المختلفة : 

تلقت ألمانيا الرسالة وكأنها كانت تنتظرها ، وجاء الرد سريعاً على لسان الرئيس الألماني نفسه ومباركة المستشارة ، فقد أعلن الرئيس أن على ألمانيا أن تعمد نحو بناء جيش قوي ، تدعمه صناعة وآلة عسكرية قوية ، وذلك من أجل حماية الأمن القومي الألماني والمصالح الألمانية في كافة أرجاء العالم !!

جاء ذلك التصريح الرصين المتأني وسط صمت القوى العالمية ، التي لم تصدر عنها ردود أفعال حتى الآن ، فأمريكا شريك وآمرة ، وأوروبا أيضاً شريك وراضية ، وروسيا مترقبة ، والصين ترقب عن بعد .

ولكن الأمر الجدير بالتساؤل هو المقصود بالأمن القومي الألماني ، وهل تجاوز ذلك الأمن حدود القارة الأوربية ، وأين تجسيدات وتجليات ذلك الأمن ، وهل تناثرت المصالح الألمانية على امتداد المعمورة ، الواقع أن كل ما تقدم لا يجاوز الافتراض ، فلا أمناً ألمانياً خارج أوروبا ، ولا مصالح ألمانية في أرجاء العالم وأصقاعه .

إذاً ماذا يحدث ! إن ما يحدث هو تجهيز وتهيئة لاستراتيجية عالمية ، أو لدور شبيه دوري بريطانيا وفرنسا ، والاحتمال الثاني هو الأرجح ، إذاً فلنستعد لمتابعة الدور الألماني خارج أوربا ، إما بصحبة الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي ، أو منفرداً يزاحم على مناطق النفوذ في أرجاء البسيطة .

خ ـ فرنسا الأنشط عسكرياً خارج القارة العجوز :

بالرغم من الإبراقات الأمريكية لألمانيا صاحبة الاقتصاد الأول على مستوى أوروبا بتقمص دور عالمي يساعد أمريكا ، إلا أن الذي تحرك في اتجاه تفعيل تلك الإيماءات كان هو فرنسا ، التي انبرت فعلياُ للدور الذي بدأته بإسقاط القذافي ، ثم محاربة المتشددين الإسلاميين في مالي دون هوادة ، ثم ضبط الأوضاع في تشاد ، وإقامة قاعدة عسكرية متقدمة في الإمارات المتحدة والمشاركة الفعالة في أحداث المنطقة .      

د ـ شروع أمريكا في بناء قوة إستراتيجية عائمة تمكنها من التدخل السريع وبالثقل المطلوب في مناطق العالم الساخنة : 

البديل الاستراتيجي المعاصر ، والمطروح بشدة وإلحاح ، هو قوة التحرك السريع العائمة ، التي تذكرنا بمبدأ نيكسون ـ كيسنجر ، ومبدأ كارتر ، للتدخل السريع في القضايا الساخنة في العالم.

وتشير التقارير المبدئية الراصدة لعملية تشكيل وتفعيل هذه القوة أنها قافلة عملاقة من تشكيل متوازن ومتكامل من القوات ذات القدرات القتالية الفائقة ، عقيدتها القتالية هي التنسيق والتكامل في الأداء بما يجعلها تبدو جيشاً مستقلاً ، وهذه القوة دائمة الحركة تجوب البحار والمحيطات ، وتتوقف على مقربة من الأحداث التي ترى أمريكا أنها تهدد أمنها القومي ، أو تكدر صفو مزاجها ، وترقب منتظرة أوامر القيادة المركزية في واشنطن بالتحرك المطلوب .

والراجح أن هذه القوات هي أمريكية خالصة ، لا يساهم في تشكيلها أو تفعيلها حلف الأطلنطي ، ولكن يمكن أن يحدث إئتلاف بينها وبين قوات أطلنطية من أجل إنجاز مهمة قتالية مشتركة ، في إطار أهداف التحالف الغربي ، وخدمة للاستراتيجية العالمية الأمريكية ، ويدخل في التشكيل الأساسي لهذه القوات أكثر من حاملة طائرات ، وقطع حربية مقاتلة [فرقاطات ومدمرات] ، وحراسة مشددة من غواصات ذرية ، ويسند هذه القافلة المهيبة دعم لوجستي متقدم ، ويمكن لهذا الجيش دائم الحركة ، أن يشن الحرب في أية لحظة ، أنطلاقاً من جاهزيته القتالية ، وتأهبه الميداني ، وخبرته العملياتية ، فهو في ميدان المعركة بشكل دائم .

ولعل نظرة عابرة على هذا المشروع الاستراتيجي المبتكر ، لتوحي بأن ثمة إعلاناً صريحاً وتأكيداً صارماً على أن أمريكا هي شرطي العالم وعينه الساهرة ، والدليل على ذلك أنها لا تمل الحراسة والعَسِّ على مدار الساعة ، وتتجشم مشاق بذل الوقت والجهد والمال ، ولكن في سبيل الهيبة و[البرستيج] يهون كل شيئ !!

وما لاشك فيه أن هذا المشروع سيشيع جواً من الأمن والأمان والاطمئنان في نفوس حلفاء أمريكا وأصدقائها والمشمولين بحمايتها ورعايتها ، ولكن هذه الخدمة الفاخرة مدفوعة بل عالية الكلفة ، وكلفتها تصل إلى حد فقدان الإرادة والتبعية .

وفي ذات الوقت فإن هذا المشروع لن يمر على الأعداء التاريخيين والمعاصرين والمناوئين لأمريكا مروراً عابراً عارضاً ، فالراجح أنه سيؤرق هؤلاء جميعاً ، ففريق سيتذمر ، وفريق سيستهجن ويسترسل في السباب واللعان ، وفريق سيتجاوز كل ذلك ، ويشرع هو الآخر في مشروع مضاد من جنس المشروع الأمريكي ، وتصبح أعالي البحار ساحة للمعارك بين الجيوش العائمة !!  

ذ ـ روسيا تستعد للعودة إلى قطبية النظام الدولي ، وتخطط لاستراتيجية عالمية من جديد :

تعهد قطعه فلاديمير بوتين على نفسه لتعزيز مكانته ، وهو يوهم الروس بأنه ينافس على رئاسة روسيا ، مفاد هذا التعهد أنه سيعمل بقوة من أجل بناء روسيا قوية تشارك بفعالية في القضايا الدولية ، ومن أجل ذلك فلا بد من ، اقتصاد قوي ، وجيش قوي ، وصناعة سلاح قوية ، أما النظام السياسي الروسي والشعب الروسي ، فهما اللذان لم تشملهما القوة بعد !!

فلنتصور مشهد السلام الساخن ، أمريكا القوة العاتية ، تستحث أوروبا على الخروج للمزيد من المغامرات العسكرية ، في ذيلها بريطانيا وفرنسا ، وفي أعقابهم ألمانيا ، تلتحق بسباق التسلح ، والبحث عن النفوذ خارج القارة العجوز ، وروسيا تشرع في بناء القوة المؤهلة للقطبية العالمية والدور العالمي ، والصين في الشرق حزمت أمرها ، وبدأت في تدجيج وتحديث ترسانتها ، ياللهول لقد بدأ الكبار الأقوياء مع منتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة يتسابقون إلى عسكرة العالم !!     

ر ـ الدرع الصاروخية في أوروبا ومستقبل العلاقات الغربية الروسية : 

هل الدرع الصاروخية مسألة ثانوية في مفردات الصراع بين الغرب بقيادة أمريكا ، وبين روسيا ، معلقة لحين فراغ إيران من تطوير صواريخها بعيدة المدى عابرة القارات ، وعندها تُختبر صدقية الحجة الأمريكية في كون الدرع موجهة للحماية من تلك الصواريخ وليست ضد روسيا؟

أم أن الحديث عن الدرع الصاروخية هو من قبيل التنطع ، حيث يتحول إلى مادة جدال عندما تخلو ساحات المعارك الكلامية من القضايا المثيرة ، فهل من المنطقي الافتراض أو حتى التخيل أن الصراع بين الأخوة الأعداء سيتطور فجأة ، ويحتكم ،  وينتهي إلى مناوشات بالصواريخ الذرية عابرة القارات متعددة الرؤوس ، الذي باستطاعة خمسة منها على الأكثر أن تحيل مدناً مثل موسكو أو برلين أو لندن أو باريس إلى أثر بعد عين ، وذلك قبل أن تعبر الأطلنطي لتؤدي نفس المهمة المدمرة في حواضر أمريكا الزاهرة !!

الملاحظ فعلاً هو أنه كان ثمة توجس حقيقي من جدية إيران في تطوير سلاحها التقليدي وغير التقليدي ، والدليل على ذلك هو الارتباط العضوي بين الاستمتاع الإيراني باستعراض مقتنيات إيران سليلة الفرس من آلة الحرب المهلكة التي تعيد إلى الأذهان أمجاد الماضي التليد ، وبين مخاوف أمريكا على طفلها المدلل الذي لا يفصله عن إيران مسافات طويلة ، وأوروبا التوأم الطبيعي والتاريخي الذي لا بد من أن تطاله صواريخ إيران ، ناهيك عن خوف أمريكا على بترول الخليج ، وليس على عرب الخليج !! ولكن كل ذلك سيتغير بعد توقيع الاتفاق الميمون بين الغرب وإيران !! 

إذاً لماذا تهتم روسيا وتغتم لأمر الدرع الصاروخية ، وتريد أن توهم السذج من أمثالنا أن الأمر جلل ! إن روسيا لن تحارب أمريكا والغرب ، والأخيرون كذلك لن يحاربوا روسيا ، لقد اتفق الطرفان على قواعد لعبة السلام الساخن ، تلك اللعبة التي أجادوا أداء أدوارها على خشبة مسرح مجلس الأمن بملاهي الأمم المتحدة ، أي من الطرفين على استعداد لأن يفكر مجرد تفكير في أن يهلك الحضارة التي وصلوا إليها والمدنية التي عمروها !!

إن الكبار في حلف الشيطان وعصبة الإفك على إستعداد لأن يحاربوا ، ولكن بعيداً عن حضارتهم ومدنيتهم التي يفاخرون بهما ، يحاربون على أرض غيرهم ، فيحيلون مدنهم الخربة الشبيهة بمدن العصور الوسطى إلى قرى ما قبل التاريخ ،  وعلى استعداد كذلك لأن يرسلوا أحدث أسلحتهم لتأجيج نيران الصراعات فتلتهم من سواهم ، وتستخدم من قبل أنظمة القهر والطغيان في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسوريا وغيرها ، ضد شعوب بريئة تأمل في أن تحي يوماً حياة آدمية .

لقد احترفت روسيا وريثة الاتحاد الرهيب لعبة التذرع بقضايا معينة للوصول إلى أهداف محددة ، فالدرع الصاروخية مادة لابتزاز الغرب ، وترنو روسيا عبرها من طرف خفي إلى إيران ، التي شرعت تستوعب أنها معنية بتلك الدرع ، فابتزاز الأولى وراءه الكثير من الفوائد ، والامتنان على الثانية على روسيا أن تحدد أرباحه كما تشاء ، هذا إذا عُلم أن الوجود الروسي في المياه الدافئة طموح قديم توشك الثورة السورية العظيمة أن تسربه ، ويمكن اعتبار إيران احتياطاً استراتيجياً ذا دلالة في هذا الخصوص ، ولكن الاتفاق النووي الإيراني الغربي ربما يلغي تلك الدلالة ويجعلها غير ذات معنى !!        

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.