الرئيسية » أرشيف - فضاء واسع » رسالة من السجن

رسالة من السجن

 

كل الصباحات الجميلة سرّ روعتها الحب وأنتِ، وكل الأيام السوداء التي مرت، والتي قد تمر، ما كانت محتملة لولا الأمل بأننا سنعود لنكون معاً. قد يتقصف العمر على دروب الحرية، وفي «أقبية الأمن» قبل العودة ثانية إلى المرفأ الآمن، إلا أن الأمل يكبر مع كل محاولة جديدة.
 
بعيدة هي المرافىء عن البحار في الليالي العاصفة، قد تكون الحرية على بعد أمتار منه ومن سفينته، إلا أن الرياح العاتية تبعده عن شاطىء الأمان، لكن قدر البحار ألا يستسلم لغضب الطبيعة الآني، وعليه أن يقاوم، فهو الذي يعرف أن الريح، لا بد، خاضعة في النهاية لقوة إيمانه وزنديه، وصلابة ومتانة أشرعة مركبه، وكذلك هو قلبي.
 
الحبيبة مها…..
في الذكرى الخامسة لزواجنا، والتي تقع هذا اليوم ١٧-٢-١٩٨٩، أجد نفسي جالساً في زاوية مظلمة من هذا السجن لأكتب إليك، متأملاً حياتنا الماضية، وكيف مشيناها خطوة خطوة منذ تعارفنا في بيروت، حيث كنت قد وجدت مأوى وعملاً بعد أن طردني بلدي، وحيث كنتِ هناك تبحثين عن العلم في جامعتها العربية، وحتى الآن. كم كانت جميلة، ناعمة ودافئة رغم بعض حالات الصخب فيها. وأجد الذاكرة تقسرني على العودة للوراء سنوات فأتذكر أن ما كان يعذبني، أكثر من غيره، في المرة الأولى التي سُجنت فيها، أي منذ ثلاثة عشر عاماً، هو أنني كنت وحيداً. صحيح أنه كان لي صداقات متعددة، لكنها لم تكن تروي ظمأي، فالحب هو الذي يروي ظمأ الإنسان، وهذا ما كنت أفتقده، أما الآن فالأمر مختلف تماماً، الحب يغمر قلبي ويتغلغل في كياني، فهناك مها وعمرو، بالإضافة إلى الصداقات التي كانت تميز حياتي عن حياة الاخرين ولا تزال. وكلما أمعنت النظر في حيوات البشر العاقلين الذين أعرفهم أزداد اقتناعاً بأن أهم ما في حياة الإنسان العاقل هو علاقته بالإنسان الآخر، حبيباً كان أم صديقاً أم جاراً. أن المكاسب الأخرى، على أهميتها، لا تعادل صداقة حقيقية واحدة.
 
هل تعتقدين أنني أبالغ؟
 
قد يكون جوابك: …نعم، أنت تبالغ.
 
وفعلاً، ربما أبالغ، ولكن على مستوى التعبير والتعميم فقط. أنت تعرفين أن الإنسان محكوم دائماً، وبشكل من الأشكال، بظروفه. إلا أن حقيقة تجاربنا أثبتت أن لا حب بين رجل وامرأة إذا كانا عاجزين عن بناء صداقات حقيقية وصادقة مع آخرين.
 
دعيني أشرح وجهة نظري ببعض الأمثلة:إن الأناني مثلاً لا يستطيع أن يحب إلا ذاته فقط، والآخرون يكتشفون ذلك سريعاً، فتبقى حدود علاقتهم به حذرة، متيقظة، غير عميقة، وآنية. وهو عندما يدّعي الحب والهيام بامرأة ما، يكون كاذباً، لأنه إنما يحب ذاته، ويحب المرأة على أنها شيء من ممتلكاته الشخصية، وأول من يكتشف ذلك هي المرأة ذاتها التي يدعي الهيام بها وحبها، فلا حب إذاً ولا صداقة، وإنما تبادل منافع.
 
قد تسألين مرة أخرى: ولكن من منا لا يحب ذاته ؟
بالتأكيد، إن الإنسان لا يستطيع أن يحب غيره إذا كان لا يحب ذاته، ولكن الفرق كبير بين الأناني الذي لا يرى إلا ذاته، ويعتقد أن الكون بأسره إنما خُلق ليكون له، وبين الإنسان الذي يكتشف أن حبه لذاته إنما هو مدخل لحب الآخرين كذوات منفصلة عنه، لها استقلاليتها ومصائرها الخاصة. 
وهنا أريد أن أصل إلى النقطة المحورية التالية في هذه الفكرة، وهي موجهة إلى ابننا عمرو قبل غيره:إن الأب الذي لا يستطيع أن يزرع الحب في قلب أولاده، سيكون هو أول ضحية من ضحاياهم. والحب ليس كلمة تقال مرة وتحفظ في الذاكرة، ولا هو ثياب تشرى، ولا هدايا في المناسبات. إن الحب هو سلوك يومي، دائم ومستمر. إنه سلوك يومي ما بين الأب والأم، وما بينهما وبين الأولاد، وما بين الأسرة ككل والعالم الخارجي، فالحياة وحدة مكونة من مجموع أجزاء الحياة اليومية، وأي محاولة لإبعاد جزء منها هو تشويه لا بد أن يظهر في حياتنا، في لحظة من لحظاتها، مهما طال الزمن. إن الأب أو الأم التي أو الذي يكذب كل دقيقة، لا يستطيع أن يعلم أولاده الصدق. وأن اللص الذي لا يطاله القانون، ويظن نفسه فهلوياً وذكياً، ينسى أن ابنه أو ابنته سيعرفان في لحظة ما أن أباهم لص، وبعد قليل سيدفع الأب الثمن إما بنفسه أو بابنه أو بعائلته.
 
الحبيبة الغالية
 
لقد أطلت في الكلام، كعادتي، في شأن آخر، وإن لم يكن بعيداً عن المناسبة، إنما أنا مشتاق إليك كاشتياق العصافير إلى الطيران، مشتاق للنوم في حضنك كاشتياق الرضيع إلى صدر أمه، مشتاق إليك كاشتياق الضفتين إلى النهر.
 
إن صباحات الحنان مع فنجان القهوة والسيكارة ونحن معاً لا تفارق ذاكرتي. إن كل يوم وكل دقيقة تمر علي وأنا بين هذه الجدران السوداء المليئة بالقهر والكراهية تجعلني أكتشف كم كنت بعيداً عن الشاعرية والرومانسية والأحلام معك…. كم ظلمتك بواقعية كنت أتصورها الحقيقة، الآن فقط أعرف أن حلم الحرية يجب يبقى مرفرفاً في حياتنا، وفوق سماء بلدنا لأنها هي الضمانة الوحيدة لحب الإنسان، ولا قيمة لأحد في غياب هذه الحرية.
 
أما أنتِ، سيدتي، فأنت الجمال والحب، وكل عام وزواجنا بخير
 
زوجك ميخائيل سعد 
كتبت هذا الرسالة في قبو فرع فلسطين وعلى أوراق أغلفة باكيتات الحمراء في ١٧-٢-١٩٨٩
ميخائيل سعد

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.