القطط السمان مصطلح تمتلئ به المجالس السياسية وطيات الصحف، قطط انتفشت وانتفخت ماليا على مخلفات الترهل القانوني وحاويات البيروقراطية الإدارية، قطط ثقيلة الحركة أصبحت عبئا كبيرا على قوت الشعب ومقدرات الدولة، قوة سطوتها وضعف الجهات الرسمية أمامها شكل أزمة ثقة شعبية تجاه النظام.
فساد لم يظهر منه إلا ما أُريد له أن يظهر، تصفية لبعض الخلافات السياسية والشخصية والاقتصادية، إذ بقي الغموض هو السمة الرئيسة التي تحيط بملفات الفساد في الأردن.
(1) تصفية حسابات:
الفساد عاش حالات "كر وفر" في الدولة الأردنية، ففي الوقت الذي كانت تفتقر فيه المملكة إلى وسائل الإعلام المستقلة التي تمارس الرقابة، وانهماك المعارضة -الأكثر ثقلا في الشارع "الإخوان المسلمون"- في الصراع العربي الإسرائيلي وحشد طاقتها في هذه المعركة، استفرد الفساد على مستوى أركان الدولة، وأخذ ينخر جسد هذا البلد بعيدا عن أعين الجميع.
مدير المخابرات ورئيس الوزراء الأسبق، الدكتور أحمد عبيدات، في عام 1984 كان قد استشعر حجم الفساد وتغلغله في نسيج المؤسسات الرسمية بشكل يمنع أي تطور في بنيان الدولة، فكان أول من نادى بقانون الكسب غير المشروع المعروف بقانون "من أين لك هذا"، وبقي، ولا يزال، القانون حبيس أدراج المؤسسة التشريعية إلى يومنا هذا دون أن يرى النور، القانون كان المحرك الرئيس لعزل رئيس الوزراء العبيدات حينها مبكرا، حيث لم يمض في رئاسته للحكومة أقل من سنة ونصف السنة تقريبا.
أول قضية فساد وازنة يخرج صداها للعلن في الأردن كانت في العام 1989، عُرفت بقضية "بنك البتراء"، اقترن اسمها باسم رجل الأعمال العراقي والسياسي الحالي أحمد الجلبي، والذي حوكم في القضية بتهمة اختلاس 300 مليون دولار وحكم عليه بالسجن لمدة 22 عاما، وبقي فارا من العدالة، البعض رأى بأن الجلبي قدم كبش فداء لأسماء ثقيلة في النظام الأردني ومقربة بشكل كبير من القصر.
وتحت ضغط هبَة تشرين عام 1989 من جنوب الأردن، تم عزل رئيس الوزراء حينها، زيد الرفاعي، وتقديمه إلى المحاكمة، كانت شبه صورية لتهدئة الشارع الأردني الغاضب، محاكمة تقرر بموجبها عدم مسؤوليته عن أي جريمة فساد أو هدر للمال العام إبان حقبة حكمه، والتي خلفت مديونية فاقت 6 مليارات دولار.
في العام 2003 تفجرت فضيحة التسهيلات البنكية، والتي قدرت خسارة الاقتصاد الأردني منها بـمليار دولار، اتُهم مدير المخابرات السابق، سميح البطيخي، بأنه أعطى للمتهم الأول في تلك القضية "مجد الشمالية" مستندات تثبت صحة ما يدعيه (مجدي الشمايلة) بأنه متعاقد مع دائرة المخابرات لتوريد أجهزة ومعدات الكترونية لدائرة المخابرات العامة، مما دفع البنوك إلى فتح خزائنها للشمايلة ومنحه القروض والتسهيلات المصرفية لعقود وهمية.
قضية حكم في إثرها البطيخي بالسجن لمدة 4 سنوات وغرامة 17 مليون دينار أردني ومصادرة بعض الملفات التي كانت بحوزته، فترة حبس قضاها المحكوم عليه بـ"فيلا" فاخرة في مدينة العقبة، وقد عاد مجددا لممارسة التجارة وإنشاء شركة خدمات أمنية تعمل في الأردن ومنطقة الخليج العربي.
الاعتقاد السائد بأن فتح ملف التسهيلات كان تصفية لنفوذ البطيخي الذي امتد إلى كل مؤسسات الدولة ليطال شؤون القصر ذاتها، وتدخله بشكل أزعج رأس النظام الأردني فيما بعد رحيل الملك الحسين.
في حقبة الربيع العربي فُتحت عدة ملفات، كان أبرزها توسعة مصفاة البترول وتطويرها، وتم محاكمة ثلاثة أسماء ثقيلة في أركان الدولة ورجل الأعمال شاهين، البعض يرى أنها جاءت تصفية لحسابات رئيس الوزراء في حينه "سمير الرفاعي" -الذي كان يشغل رئيس مجلس إدارة شركة دبي كبيتل قبل أن يتسلم رئاسة الحكومة- مع الشركة المنافسة "شركة رجل الأعمال شاهين"، التي تم ترسيم توسعها قبل أن يتم إيقافه.
في ذات الحقبة تم فتح ملف مدير المخابرات السابق، "محمد الذهبي"، المتهم بجرائم غسيل أموال وحكم عليه بالسجن 13 سنة وغرامة 21 مليون دينار، وهناك من يرى أن المحاكمة جاءت عقابا للذهبي على دعمه مجموعة 36 التي هاجمت شخصية كبيرة في القصر بشكل فج وقاسي، وأ تلك المجموعة كانت تنسق وتعمل لصالح الذهبي.
(2) ملفات ساخنة:
خسر الاقتصاد الأردني في العهد الملكي الجديد الكثير من مقدراته، إذ ارتفعت المديونية من 8 مليار دولار أمريكي إلى 24 مليار دولار أمريكي خلال 14 سنة، مترافقا ذلك مع بيع الحصص والأسهم في المؤسسات والشركات الوطنية التي كانت تملكها الحكومة ضمن برنامج ما عُرف بالخصخصة الذي قاده مدير الديوان الملكي السابق، باسم عوض الله.
على وقع الربيع الأردني وتردي الحالة الاقتصادية وتفشي الغلاء الفاحش، انفجر الشارع مطالبا بالإصلاح ومحاربة الفساد حتى طالت الهتافات شخصية الملك نفسه، وتحت وطأة الضغط الشعبي تم تفعيل عمل هيئة مكافحة الفساد التي تشكلت عام 2006 بموجب قانون مكافحة الفساد.
وطفت على السطح مجموعة من قضايا الفساد التي ضربت الاقتصاد الأردني، مئات الملفات متنوعة بين الرشوة والاختلاس واستثمار الوظيفة، ومن أبرز القضايا الحالية التي ملأت رائحتها الأفق السياسي:
– قضية شركة الفوسفات الأردنية: وتدر الجهات القضائية التي تنظر في القضية بأن حجم الفساد المالي يقارب نصف مليار دلار أمريكي، هذا بالإضافة إلى الهدر المالي الكبير.
صهر العاهل الأردني، وليد الكردي، الفار من وجه العدالة إلى المملكة المتحدة هو المتورط الرئيس في هذه القضية، حيث تمثل الفساد في بيع حصة الحكومة من أسهم الشركة لشركة في سلطنة بروناي لا يوجد لها ترخيص لممارسة النشاط التجاري في الأردن، شركة لا يتجاوز رأس مالها المسجل 10 ألاف دولار في بلدها الأصلي، في حين أنه تم بيع الأسهم بأقل من قيمتها الحقيقية، إضافة إلى الهدر المالي الكبير.
– قضية مؤسسة موارد الأردنية:
وهي مؤسسة حكومية مستقلة مالياً وإدارياً، تأسست لتكون ذراع الحكومة الاستثماري في مجال التطوير الحضري، ضرب الفساد جميع أذرعها وفروعها.
وأصبحت المؤسسة عاجزة عن سداد التزاماتها المالية، إذ إنها مطالبة بمبلغ 300 مليون دولار للبنوك الأردنية، وتنوعت أشكال الفساد في هذه المؤسسة بين تقديم عمولات على تسهيلات مالية، وتقديم تبرعات مالية لبعض النوادي الرياضية، كما قامت بشراء فندق مهجور في العاصمة السلوفية بمبلغ 7.5 مليون يورو، في حين كان معروضا للبيع بمبلغ 140 ألف يورو، هذه بعض صور فساد شركة موارد التي يرى البعض أن الفساد داخلها أعمق بكثير مما تم كشفه.
– قضية كازينو البحر الميت:
تورط في هذه القضية رئيس الوزراء السابق، معروف البخيت، وطاقمه الوزاري، حيث تعاقدت الحكومة مع مستثمر أجنبي على إقامة كازينو في منطقة البحر الميت، ووضع المستثمر شرطا جزائيا في العقد بمقدار واحد مليار دينار أردني إذا تراجعت الحكومة عن العقد.
وجاءت الحكومة خلفا لحكومة البخيت وألغت العقد لمخالفته للنظام العام والقانون الذي يجرم أعمال القمار، باعتبارها أعمالا غير مشروعة قانونيا، وبعد إجراء مفاوضات مع المستثمر الأجنبي لإنهاء الصفقة، تنازل الأردن عن 150 دونم من أراضي البحر الميت لصالح المستثمر تعويضا له عن إلغاء اتفاقية الكازينو ودفع أتعاب محاماة بمقدار 100 ألف دينار أردني لوكيله القانوني.
وكثير من الملفات لم يعرف لها مصير حتى الآن، فيما إذا كانت سوف تقدم للقضاء أم لا، ملف الاسمنت، شركة أمنية، شركة البوتاس الضمان الاجتماعي، وشركة القرية الملكية التي باع منها الديوان الملكي 360 دونم من أراضي البحر الميت بقيمة 25 مليون دينار أردني لأجل تطويرها خلال خمس سنوات كمدينة سياحية، إلا أن المستثمر الكويتي لم يطور المنطقة، وتم عرض الأراضي للبيع بقيمة 100 مليون دينار لمستثمر إيطالي…. الخ من ملفات الفساد المعلقة التي لم يحسم أمرها بعد.
(3) إشكاليات قانونية:
يبدو أن القناعة لدى الكثير فيما يتعلق بمكافحة الفساد في الأردن هو عدم وجود إرادة حقيقية في مكافحة الفساد، إذ إن هناك عدة أسباب تجعل مكافحة الفساد ومطاردته في الأردن كالذي يخوض معاركه مع الأشباح.
ويمكن لمكافحة الفساد أن تثمر، وأن يتطهر الأردن من الفساد إذا تم حل الإشكاليات التالية:
• إلغاء نص المادة في الدستور، والتي تحظر تقديم الوزير إلى المحاكمة عن الأعمال التي قام بها بحكم وظيفته، إلا بعد أن يوافق ثلثا مجلس النواب على إحالته على القضاء، وهذا ما لم يتم على امتداد تاريخ مجلس النواب إلا في حالة واحدة فقط.
• إلغاء اختصاصات محكمة أمن الدولة، وسحب اختصاصها في نظر الجرائم المرتكبة في حق اقتصاد الدولة، ليصبح من اختصاص المحاكم النظامية.
إن اختصاص محكمة أمن الدولة بالنظر في الجرائم الواقعة على الاقتصاد الوطني تؤثر سلبا في مكافحة الفساد، حيث إنه يتعذر جلب المتهمين الفارين من وجه العدالة عن طريق الانتربول الدولي، باعتباره لا يتعامل مع قرارات المحاكم العسكرية، كما إنه يصعب تنفيذ الأحكام الصادرة من المحاكم العسكرية في الدول الأجنبية، حيث يرفض القضاء الأجنبي قبول رفع قضايا "تنفيذ الأحكام الأجنبية" إلا إذا كانت تلك الأحكام صادرة من محاكم نظامية، حيث إنها لا تعترف بقرارات المحاكم العسكرية.
• كفَ يد هيئة مكافحة الفساد عن التحقيق في قضايا الفساد، وإنشاء هيئة قضائية تابعة للنيابة العامة متخصصة في تلقي البلاغات والشكوى المتعلقة بجرائم الفساد المالي، إدارة تقوم بالتحري وجمع الأدلة والتفتيش وممارسة أعمال الضبطية القضائية، وتقديم من تتوفر الأدلة ضده إلى المحاكم، حيث إن هناك من يتهم هيئة مكافحة الفساد بتغلغل الفساد في أعمالها.
• سن قانون من أين لك هذا، وتفعيل إشهار الذمة المالية.
• تفعيل دور الرقابة الإعلامية والجهات الرقابية في رصد الفساد وجرائمه.
• والأهم من ذلك كله وجود إرادة حقيقية من صانع القرار في مكافحة الفساد.
عمان تغرق في وحل الفساد، ولن يخرجها منه إلا وجود إرادة صادقة وحقيقية في مكافحته، مهما كان حجم القطط السمان.
محمد العودات / قانوني وكاتب أردني