ثمة ممارسات وظواهر إجتماعية رافقت الإنسان منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا تتعلق بجوانب عديدة من الحياة أقرها المجتمع وربما أعتبرها في زمن ما ، مصدره الوحيد للتشريعات القانونية وتنظيم العلاقات الأجتماعية ، تحت عنوان أسموه بالعرف الأجتماعي .
ولا مناص من الأعتراف بأن الكثير من تلك الضوابط الأجتماعية قد حققت أهداف ذات مغزى أنساني ومطلب حيوي له علاقة بجملة من المعاني الجميلة والقيم الشريفة المرتبطة بالفطرة السليمة للنفس البشرية المُحبة للخير والعدل والسلام والعفة والكرم والصدق والأمانة ؛ وتلك السمات تجلّت في المجتمعات العربية سيّما في أوقات لم يكن فيها بناء الدولة المدنية معروفا بعد ، ولم يكن هناك مرجعية قانونية أو سلطة قضائية منصوص عليها بشكل رسمي منتخبة أو معينة من قبل الشعب .
ولما كانت الحياة تتطور أخذت البنية السيسيولوجية تتعقد أيضا لذا أحتاجت إلى أعادة قراءة ما عندها من مفاهيم وأفكار كي تتماشى مع أطر الحياة الجديدة ولوازمها الضرورية ، وتلك الحاجة كانت ضرورة حتمية تفرضها طبيعة التطور الديناميكي للحياة .
ومن أولى تلك الحاجات هي حاجة الإنسان إلى الدين ، لتهذيب غرائزه ودوافعه وتنظيم علاقاته المادية والإنسانية بالمجتمع لشرعنة سلوكه وقراراته وإضفاء القدسية عليها ،
ومن ثم أجبرته حركة التطور الأجتماعي والسياسي والأقتصادي أن يبني دولة عصرية وأن يبتدع فلسفات ونظريات حديثة لإدارة الدولة وتنظيم شؤون المجتمع لملء الفراغ الذي تركته التشريعات والقوانين السابقة .
والى حد ما فأن معظم شعوب وإدارات العالم قد تأثرت بشكل أو بآخر بتلك التحولات الحديثة في علم السياسة والأجتماع خصوصا بعد تطور وسائل الأتصال وامتداد العولمة في كل مجالات الحياة مع الفارق في تفاوت حركة السباق بين الشعوب في دفع عجلة التمدن نحو الأمام .
إلا أنّ التنافس في صعود سلم الحداثة والتجديد النظري وفق تلك المعطيات قد ولـّـد صراعا فكريا عنيفا لدى الإنسان العربي والمسلم بين التراث والتجديد ، إذ أمسى كفارس أعزل بلا جواد ، لا يمتلك أدوات يحارب بها ولا حصان يسابق به الأمم .
فلا هو متحصن .. متمسك بتعاليمه السماوية الرائعة وبأدبياته وموروثاته الجميلة ولا هو مؤمن بالأنعطافات والأنقلابات المعرفية الجديدة .
فبين هذه وتلك أضاع الطريقين ،
فتارة يرغب ببناء دولة مدنية ولكن بمرجعية دينية .. وتارة يشتاق لدولة دينية ولكن بطابع عشائري ونهج قبلي .
وهكذا في صراع وتوتر بين المفاهيم الحداثوية والعادات والأعراف العشائرية التي معظم سننها وقوانينها ما أنزل الله بها من سلطان .
والطامة الكبرى ، رغم ثقل المؤسسة الدينية وأتساعها ورغم تقديس المسلم لها ألا أنها عجزت عن اجتثاث كثير من العادات البالية والممارسات الخاطئة التي تتقاطع مع الدستور الإلهي والذوق الإنساني في عدة نقاط جوهرية وحيوية .
لذا نشهد العالم الإسلامي في الوقت الراهن يعج بالمتناقضات في السلوك والآداب العامة رغم أنه يمتلك ثقافة أسلامية وخطابة دينية ومآذن تصدح بذكر الله ليل نهار .
الداعية الإسلامي يوصي بطلب العلم ، والقرآن يجعله فريضة إلزامية على كل مسلم ومسلمة لكنّ نسبة الجهل والأمية تغزو أتباعه , وخصوصا المرأة المسلمة إذ أنها تحرم من التعليم وتقبر في منزلها في كثير من الأمصار تحت ذريعة العفة والغيرة والشرف .
أئمة المساجد يوصون بأحترام العمل والصدق والإخلاص والأمانة وللأسف نشهد العكس في أعمالنا ؛ العامل يتكاسل والتاجر يستغل ويبني ثراءه على حساب الطبقة الكادحة والمستضعفة ،
الحاكم يستبد والرعية تستهتر والثري يحتال على لقمة الفقير .
فأين تقع القيم والمنظومة الأخلاقية والتربوية التي وضعوا حجرها الأساس منذ مئات القرون من تلك الأفعال المخزية !؟
وماذا تمثل الأخلاق ، الأصول ، الذوق ، العدل ، التسامح ، الرحمة بالنسبة للعرف !؟
غياب الوعي الثقافي والقانوني واللا مسؤولية وعدم إلزام المجتمع بأحترام الدساتير والتشريعات مع فشل المؤسسات التربوية والدينية والمدنية في معالجة الظواهر السلبية أدى إلى خلق مجتمع فوضوي عاجز عن حمل أي رسالة ذات قيمة جوهرية .
الله والخطباء ينادون بأحترام المسلم وحرمة دمه والمسلمون يقتتلون ويتذابحون في الأشهر الحرم من أجل حمار أو معزة .
الدين يوصي بأتباع شرائع السماء ، والعمومة تقتل طفلة لن تبلغ الحلم لأرتكابها الزنى ، أرضاءً للناس والمجتمع وأمتثالا لأمر العشيرة .
ولكن من منــهم يفتل شاربيه ويقتل أبنه غسلا للعار لو زنى !؟
في واقع الحال نحن مجتمع يقدس الدين لكنه يعبد العشيرة ويصغي لرجل القبيلة .
لا شك أننا نحب الله لكن ولاءنا للمجتمع ….. ونقرأ النصوص ونقيم الطقوس لكن نتعبد بالعرف والتقليد .
نصلي الفروض ونحج بيت الله الحرام ونحفظ القرآن لكن طقوسنا لن تمنعنا العداوة ولم تمنحنا حصانة ضد الكراهية والعنف وضد الكذب والزيف والخداع والأفكار البعيدة عن روح الأيمان والإنسانية .
نعمر الجوامع ونملأها بالأثاث ولكن لا نفتقد مساكن الفقراء والمتعبين .
نستأسد على بناتنا ونساءنا إن أخطأن … نمنعهن الإرث والتعليم وحق الكلام كي نقول للعالم أننا رجال قوامون يا معشر المسلمين .
وكأني حتى بالمسلم المثقف تمغنط بالتيارات الفكرية الراديكالية ، لا يريد أن يرتضي حلا أوجده الله ولا حدودا رسمها الخالق ولن يقبل إلا بشريعة أبتدعها عرفه السخيف ، ذلك العرف الذي جعل منه ربّا وسيدا مطلقا .
فكيف يجمع هذا الجيل المعاصر بين ما يمتلك من علوم ومعارف إنسانية من جهة وجهل وتخلف من جهة أخرى !؟
كيف يجتمع مبدأ الضلال والأيمان في آن واحد !؟
وماهي تلك القوة التي تسيّر الشريحة الواعية والمثقفة نحو أفكار رجعية وفق قياسات المنظور الإنساني والسماوي معا ، وفي عصر التنوير والأنفتاح على حقوق الإنسان !؟
ولكن هذا ما يحصل ويحصل الآن ، في الألفية الثالثة بعد الميلاد !
ففي أحدى الأمسيات الثقافية التي يقيمها منتدى ( سمير أميس ) على البالتوك ، حيث يجتمع فيها مثقفون مسلمون من كل بلدان العالم ، إذ طرحوا على طاولة النقاش موضوعا تناولوا فيه حكم العرف العشائري على المرأة حال أرتكابها جريمة الزنى .
فطرحتُ سؤالا ؛ هل تؤيدون قتل المرأة الزانية بغض النظر عن أنها محصنة أم غير محصنة ، وهل أنتم مع قتل المرأة دون الألتفات إلى أكتمال ظروف وعناصر الجريمة ؟
معظمهم تحفظ على الإجابة ، ربما خشية اتهام المجتمع لهم بما ينتقص من رجولتهم أو لعل البعض كان مناصرا لحكم الموروث العشائري .
وأوضح ردٍ حصلتُ عليه ، كان على صيغة سؤال موجه لي من قبل الأستاذ ( رياض الكبيسي ) رجل مثقف يقطن أوربا ، عاش طفولته ومطلع شبابه في كنف أسرة متمسكة بالعادات والتقاليد العشائرية ، كان سؤاله ؛ إنْ زنت أبنة لك غير متزوجة ، فهل تقتلها ؟
أجبت .. وهل أقتلها كي أرضيكم وأغضب خالقكم !؟
أم أنكم غير دين الله تبتغون !؟
قلت ذلك ولم التفت إلى ردود الأفعال فلعل أحدهم أسقطني من عصبة الرجال !
ثم أستدركت … منْ منـّـا يقتل أبنه لو زنى !؟
فلم أسمع جوابا قط أو لعل أكثرهم تمتم … أن لا نقتل ….
وبالتالي ، ننتهي إلى معادلة عرجاء ومعايير أزدواجية لا تنتمي إلى شيء من المنطق أو الحكمة والعدل ، لما يحمله المجتمع العربي والإسلامي من أفرازات ورواسب فكرية متخلفة وسلطة ذكورية أقصائية ،
وأقصائية بمعنى الكلمة ليس لوجود المرأة وكيانها فحسب أنما لجوهر الإسلام وتعاليمه التي تتقاطع مع العرف السائد الذي عادة ما يحظى بأحترام زائف وهالة وهمية مقدسة من قبل الناس .
أريد لها أن تستمر تلك الهالة كي ينتفع منها الانتهازيون والظلاميّون .
نعم … يتذكرون المرأة فقط في العقوبة والجلد وإقامة الحد وينسونها في التربية والرفق والرحمة وإعطاءها الجرعات الكافية ضد الأنحراف والتمرد على العادات الأصيلة والقيم السامية .
يطالبون المرأة بلا خطيئة ولا يمنحونها مقومات الكرامة والفضيلة وإحترام الذات .
يتركون المجتمع يغوص في وحل الجهل والتخلف والأحتراب والذل والفقر والفساد والنفاق والأمراض ، ويطلبون امرأة مثالية رسالية مبدعة !!! .
بالتأكيد أنّ ذلك عين المغالطة والتناقض …. وهل منْ يزرع شوكا يجني عنبا !!؟؟
ياس خضير الشمخاوي
كاتب عراقي – بغداد
elyasalshamkhawi@yahoo.com