كيف تأكل الثورات أبناءها؟!

 

في الخبرة الإنسانية والتاريخية القاعدة التي تقول: "الثورة تأكل أبناءها"، والحقيقة أن الثورة نفسها لا تأكل أبناءها، لأن الثورة في حد ذاتها عمل نبيل ومفعم بالبراءة بدون أي حسابات خاصة، ولكن الذين يقتنصون السلطة على لهيب الثورة وفي أعقابها هم الذين يبدأون تصفية شركاء الثورة عادة، وتكون البداية دائمًا بمحاولات السيطرة الشاملة على مفاصل الدولة ومؤسساتها خاصة الصلبة، مثل الجيش، ثم المؤسسة الأمنية، ثم القضاء بأذرعه المختلفة، ثم الإعلام الذي يتم تدجينه في النهاية بمشاهدة رأس الذئب الطائر، الثوار لا يكونون معنيين كثيرًا ـ أثناء الثورة ـ بما بعد النصر، ولكن فئة أكثر تنظيمًا وخبرة تاريخية تكون مدركة تمامًا لما يتوجب فعله في اليوم التالي للنصر، وعادة تتم عملية إعادة هيكلة مؤسسات الدولة وأجهزتها مستفيدة من عواطف نبيلة وصادقة وجياشة للمناصرين الأيديولوجيين والعقائديين، وتستخدم السلطة الجديدة مهيجات تلك العواطف العقائدية دائمًا باحتراف شديد، من أجل مساعدتها لإنهاء المرحلة الأولى، مرحلة إعادة هيكلة الدولة بجميع مؤسساتها والتحكم المطلق فيها، فإذا تمت تلك المرحلة، بدأت عملية تأديب وقمع أو ترويض الكيانات السياسية المعارضة أيديولوجيًا وسياسيًا للسلطة الجديدة، دون المساس بالدوائر المناصرة والمتعاطفة أيديولوجيًا وعقائديًا باعتبار أن تفكيك وضرب الخطر الحال أولى وأسبق من الخطر اللاحق، فإذا تمت تلك المرحلة بنجاح، تكون السلطة الجديدة قد أعلنت نصرها النهائي وتمكينها المطلق من الدولة بكل ما فيها، وفي تلك المرحلة لم تعد السلطة الجديدة بحاجة إلى الحشد العاطفي للمناصرين "النبلاء" والعفويين الذين كانت تدفع لهم بعض الثمن، فلماذا تدفع ثمنًا الآن لشيء قد حصلت عليه بالفعل؟ وهنا تبدأ مشاعر الإحباط لدى تلك القوى "النبيلة" ويقع الصدام الحتمي بينها وبين الحزب أو الجماعة التي ناصروها، فيتم قمع احتجاجاتهم بعنف أكبر باعتبارهم يملكون قدرات على الحشد العاطفي والشعبي، ولا تملك القوى المطاح بها أي وسيلة للتمرد أو الصمود في وجه موجة القمع العاتية، فلا قضاء يحميهم، لأنه تم التحكم فيه بالكامل وأصبح طوع إرادة السلطة الجديدة، ولا إعلام يستظلون بالشكوى عبره لأنه تم تدجينه وأصبح يهتف للذبح والسجن والتنكيل الذي يتم لأي احتجاج أو معارضة مهمة، ولا برلمان حقيقي يردع لأنه تمت هيكلته على مقاس السلطة الجديدة، ولا مؤسسة أمنية أو عسكرية محايدة أو وطنية لأنها كلها أصبحت أدوات للحزب أو الجماعة، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة انفصال السياسي عن الأيديولوجي والعقائدي داخل الحزب أو الجماعة الحاكمة ذاتها، وتتحول السلطة إلى مصالح وشهوة وسيطرة براجماتية مجردة، يفوز فيها القوي والذكي والأكثر نشاطًا وترتيبًا لرؤيته ومصالحه وليس الأكثر صلاحًا أو إيمانًا بقضية أو رسالة، ومن الطبيعي هنا أن تبدأ "السلطة المسترخية" والمطمئنة في ارتكاب أخطاء غالبًا تكون في مجال الفساد وتحول الهيمنة إلى شبكة علاقات ذات طابع أسري وعائلي، ويتم إقصاء الآخرين الذين لا يزالون يستحضرون مشاعر النبل والرغبة في الإصلاح التي تربوا عليها فيتم ردعهم بقوة أدوات السلطة وأجهزتها الأمنية والعسكرية والقضائية التي تحت أيديهم، وأحيانًا يكون بعض هؤلاء من أبرز قادة التنظيم نفسه أو الجماعة وربما من أهم من رتبوا عملية السيطرة كاملة للسلطة الجديدة، فلا يمنع ذلك من وضعهم في السجون أو على أعواد المشانق، أي أن السلطة تبدأ في أكل أبنائها بعد أن تكون قد أكلت مناصريها، وبعد أن تكون قد أكلت أبناء الثورة، لأن لشهوة السلطة قوانينها الخاصة، التي تتجاوز النصوص أو تطوعها بسهولة، وتضع المبادئ والأخلاق التي كانت تمثل قطب تكوينها خلف ظهرها باعتبارها معوقات للإنجاز، وتطيح في قسوتها وخشونتها حتى بقدسية العلاقة بين الأب وابنه، وبين الأخ وشقيقه، ودع عنك رفقة الطريق والنضال (في أفغانستان قاتل الإخوان خصومهم الإسلاميين بالمدفعية وراجمات الصواريخ في مواجهات دموية مروعة من أجل السيطرة على السلطة وراح ضحيتها آلاف الإسلاميين، وفي اليمن الجنوبي قتل اثني عشر ألف كادر كبير من الحزب الاشتراكي في ليلة واحدة مجنونة في صراع دموي بين الرفاق على حسم سلطة القرار في المكتب السياسي للحزب، وفي السودان تم سجن واعتقال عشرات الكوادر الإسلامية الرفيعة على يد رفاقهم في الحركة الانقلابية بمن فيهم الأب الروحي للحركة كلها حسن الترابي، وفي العراق وسوريا تاريخ طويل يحكى في صراعات البعث الدموية بين الرفاق في دهاليز الحزب)، وعند هذه النهايات لا يكون للعتاب أي معنى، ولا يكون للندم أي قيمة، فقد ضاع كل شيء، وعلى الوطن أن ينتظر عدة أجيال جديدة من القمع والخوف والفساد والاستباحة، حتى يقدم الشعب قرابين الدم من جديد في ثورة ربما تتعلم من أخطاء الثورة التي سبقتها، فكيف تتقي الثورات مثل هذه المآلات الخطيرة؟  وكيف نجعل الثورة تثمر أجمل ما في البشر وتنتج أفضل ما في النظم السياسية؟ وكيف نحولها إلى طاقة نور لدولة المؤسسات والعدل والحرية والكرامة وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة؟… للحديث بقية.
 
جمال سلطان
(المصريون)

قد يهمك أيضاً

تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

تابعنا

الأحدث