الرئيسية » تحرر الكلام » العقيدة والإنسان

العقيدة والإنسان

وطن- تشير الدراسات العلمية إلى أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يدرك الحقيقة ويكون أمينا مع نفسه إلا إذا تمتع بحرية الفكر والرأي، وكان متحررا من الخوف والتقاليد الاجتماعية، والكبت والسياسي والديني والجنسي، وفوق ذلك كله، حرا متحررا من كافة أنواع العقائد والأيديولوجيات.

فالعقائد، بغض النظر عن طبيعتها وجذورها وأهدافها، تقوم في كل الحالات بمحاصرة عقل المؤمن وتكبيله، وتقليص الفضاء والمكان والوقت المتاح له كي يفكر ويتجول في مناحي الأرض وعلومها وثقافات شعوبها، ويستكشف فضاءات الخيال والخلق والإبداع، ويسمو بإنسانيته فوق الخرافات والأساطير، ويكتشف ذاته ويعمل على تحقيقها.

ويمكن تصنيف الفكر العقائدي بكونه اجتماعي سياسي، أي قومي؛ واجتماعي ثقافي، أي ديني وطائفي ومذهبي؛ واجتماعي اقتصادي، أي ماركسي ورأسمالي؛ أو اجتماعي ثقافي عنصري يقول بتميز شعب عن سائر البشر. ومن أمثلة هذا الفكر القول بأن اليهود هم “شعب الله المختار”، والقول بأن أمريكا هي “استثناء” في التاريخ الإنساني، والقول بأن “ألمانيا فوق الجميع”.

ومع أن القول الألماني هذا قد اندثر بسبب تطرفه وعنصريته والجرائم التي ارتكبتها ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، إلا القول بأن اليهود شعب الله المختار، والقول بأن أمريكا استثناء في التاريخ ما يزال يدفع الكيان الصهيوني إلى عدم التوقف عن ارتكاب الجرائم البشعة بحق الشعب الفلسطيني، فيما تقوم الزمرة الحاكمة في أمريكا بارتكاب جرائم بشعة بحق العديد من شعوب الأرض، تشمل الشعوب العربية وشعوب أمريكا الجنوبية، وبعض الشعوب الآسيوية.

العقيدة والإنسان

إن وجود إنسان في سجن عقائدي يحرمه من اكتشاف عالم الإنسانية الرحب الذي يزخر بالأفكار والثقافات والإنجازات المتنوعة في كافة مجالات الحياة والعلم، والاستمتاع بزيارة أماكن قريبة وبعيدة ثقافيا وجغرافيا عنه، والاختلاط بشعوب تعيش حياتها في هدوء وبساطة. وحتى حين تتاح الفرصة لعقائدي كي يسافر ويقرأ ويتعلم، فإن كونه يعيش ويفكر ضمن فضاء تحدده حتميات العقيدة التي يؤمن بها، تجعله يبحث في كل ما يرى ويقرأ عما يؤكد قناعاته الإيمانية، وليس عما يشكك فيها أو يقدم شيئا جديدا، وذلك فيما عدى قلة من العقائدين يكونوا غير متاكدين مما يؤمنون به لأنهم لم يختاروه، وإنما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم.

حين يقرر إنسان أن ينتمي لعقيدة دينية أو فلسفة شمولية ويتبناها كإطار فكري ينظر إلى العالم من خلاله، فإنه يكون قد قرر، من حيث لا يدري، أن يعطل معظم حواسه بإغلاق عقله وعينيه وأذنيه. وفيما يتسبب إغلاق العينين في تحويل كل عقائدي إلى شخص أعمى لا يبصر إلا قليلا، ما يجعله يعتمد على غيره من الناس وتابع لهم تبعية شبه كاملة، وذلك لأنه يسير في عالم يخيم عليه الظلام؛ الأمر الذي يحرمه من رؤية العالم المحيط به على حقيقته. وبذلك يصبح عليه أن ينظر إلى العالم من خلف ستائر كثيفة شبه مقدسة من المحرم عليه أن يعبث بها. أما إغلاق الأذنين فيحرم العقائدي من سماع شدو البلابل وهمس الشجر وهدير الأنهار وثورة البحار، ما يجعله عاجزا عن إدراك كنه الطبيعة التي تحيط به من كل جانب، فيما يتسبب إغلاق العقل في محاصرة صاحبه فكريا ضمن حدود العقيدة التي ينتمي إليها؛ وهذا يحرمه من التفاعل بحرية مع الفئات المنتمية لعقائد أخرى، إضافة إلى حرمانه من متابعة تطور العلوم والأفكار ومعطيات الحياة.

ولما كان من غير الممكن أن تعيش عقيدة حياة أبدية من دون أن تواجه تحديات كثيرة، بعضها فكري يعتمد المنطق، وبعضها علمي يقوم على حقائق ثابتة، وبعضها حياتي يتغير بتغير ظروف الحياة، فإن الإنسان العقائدي يجد نفسه مضطرا لحماية عقيدته والدفاع عنها بكل الوسائل المتاحة، ما يجعله يلجأ إلى تزييف الحقائق واختلاق الأكاذيب وإنكار الواقع والوقائع وحقائق العلم، واللجوء أحيانا إلى كبت الرأي الآخر باستخدام أساليب تتنافي مع مبادئ الحرية، وتعتدي على كرامة الإنسان. ومع أن العقائديين كثيرا ما ينجحون في تحصين فكرهم لأمد قد يطول، إلا أن إنجازات العقائد الدنيوية تصغر يوما بعد يوم، فيما تتراكم إخفاقاتها على المدى الطويل، ما يجعل مصيرها المحتوم هو الفشل والاندثار آجلا أو عاجلا، وذلك كما حصل مع الفاشية والنازية والماركسية والنظام الاشتراكي الذي أقامه الماركسيون في الاتحاد السوفييتي والصين وغيرها من دول. أما العقائد الدينية، فليس من طبعها أن تفشل أو تندثر وتخسر أتباعها، وذلك لأنها لا تعد المؤمن بها بأي شيء مادي أو معنوي في الحياة الدنيا يمكن محاسبتها عليه؛ فكل ما تعد المؤمنين به مؤجل إلى يوم القيامة، وهو يوم لا يعرف أحد متى سيأتي، إن أتى.

من ناحية ثانية، إن إيمان إنسان بعقيدة والالتزام بمبادئها وبما تمليه عليه من أوامر ونواهي، يريح الإنسان المعني من عبء التفكير وعناء البحث عن الحقيقة في عالم يتصف بالتطور والتغير والتعقيد، لأن كل الحقيقة موجودة في العقيدة التي يؤمن بها دون سواها. وهذا يتسبب في الأحوال العادية في تحويل الفكرة الإيمانية القائمة على عقيدة إلى غريزة توجه الإنسان المؤمن وتتحكم في مواقفه وسلوكياته، فكل فكر وموقف وسلوك يصبح مبرمجا في العقل الإيماني؛ الأمر الذي يلغي حاجة الإنسان العقائدي لمراجعة بعض ما يؤمن به من أفكار، وما يسود حياته من معطيات متغيره، وما يعيشه العالم من حوله من تطورات لا تتوقف أبدا.

الإيمان بنظام سياسي أو اقتصادي

أما الإيمان بنظام سياسي أو اقتصادي يقوم على عقيدة بوصفه النظام الوحيد الذي يحظى بشرعية فهو أمر يتعارض مع الطبيعة البشرية وتاريخ الإنسانية. فطبيعة الإنسان تشير إلى أنه ميال إلى تجربة أشياء كثيرة، فيما يشير التاريخ إلى أن الإنسان عاش تجارب مختلفة في ظل أنظمة متعددة، وأن الأنظمة التي عاش في ظلالها لم تكن على نفس الدرجة من الكفاءة أو العدل. وهذا يعني أن الإيمان العقائدي يعطل عمليات التفكير ويتسبب في تعطيل عمليات التقدم والبحث عن البدائل، وهذه تحول بدورها دون حصول الإنسان على الحرية، وتقود إلى شيوع الفقر والجهل والكبت والفساد والاستبداد في المجتمع العقائدي، سواء كان دينيا أو غير ديني.

وعلى سبيل المثال، كان ادعاء فرانسيس فوكوياما قبل نحو 30 سنة بانتهاء التاريخ في محطة الرأسمالية والديمقراطية من العوامل التي تسببت في تحول الرأسمالية إلى نظام متوحش يسعى إلى التهام كل شيء يصادفه في طريقه. وهذا تسبب في إصابة النظام بمرض التخمة، ما جعله يتجه نحو التصدع والتراجع. من ناحية ثانية، تسبب الادعاء هذا في تحول الديمقراطية إلى نظام عاجز عن تحقيق العدالة الاجتماعية، وبالتالي دخول العالم في أزمة عويصة نشاهد مظاهرها في كل مكان. فهناك ظلم وفقر وجهل، وهناك استغلال وفساد وعبودية وتجارة في البشر، وهناك تسلط وكبت واحتقار لكرامة الإنسان، وهناك إقصاء وتفرقة عنصرية، وهناك غيرة وكراهية. كما أن هناك قتل وعنف فردي وجماعي، وإرهاب دولة منظم يستمد قوته من جشع مالي وعنصرية لا تحترم مبادئ العدل أو المساواة أو حرية الرأي أو حقوق الإنسان، وذلك سعيا لتعزيز مواقعها، وحماية مصالحها.

العقيدة هي بمثابة بئر مياهه تبدو صافية تغري العين والنفس، ما يجعل من السهل الغوص فيه، خاصة حين يكون الإنسان ظمآن وقد جف ريقه. ولما كان بئر كل عقيدة عميق، فإن من الصعب على من يقع فيه أن يخرج منه معافى؛ الأمر الذي يفرض على المؤمن أن يستسلم لقدره. فالخروج من سجن أي عقيدة لا يتم إلا بالخروج عليها فكرا وموقفا وممارسة. ولما كانت كل عقيدة لا تنطلق من تجربة إنسانية بل من خيال إنساني، فإن ما تخلقه من أوهام تشكل بالنسبة للتابعين حقائق تلغي منطق العلم، وهذا يحرم العقل العقائدي من البحث عن الحقيقة المتواجدة على أرض الواقع وفي تجربة الإنسان التاريخية، لأن أوهام العقيدة وخيالاتها تصبح هي الحقيقة السامية، وأحيانا الحقيقة المقدسة التي لا يجوز المساس بها من قريب أو  من بعيد.

بروفسور محمد ربيع

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.