الرئيسية » أرشيف - المجلة » “صندوق الفرجة”.. مهنة تراثية مهّدت لظهور السينما وأحيلت إلى متاحف التقاليد الشعبية

“صندوق الفرجة”.. مهنة تراثية مهّدت لظهور السينما وأحيلت إلى متاحف التقاليد الشعبية

منذ سنوات طويلة اختفت مهنة صاحب ” صندوق الفرجة ” من حواري وأزقة المدن السورية ، ذلك الرجل الذي كان يحمل على ظهره صندوقاً خشبياً مستطيلاً يحوي عجائب الصور وغرائب القصص ويسير في الشارع أو ينصب كرسياً صغيراً في إحدى الساحات منادياً الأطفال نداءات شعبية طريفة بصوت أجش ولكنه صوت يبعث على الدهشة في عالم الصغار .

 

لقد أتت رياح التطور واستغنى العصر باختراعاته الكبيرة كالتلفاز والسينما والفيديو والستالايت والجوال عن هذه المهنة الجميلة .. دارت عجلات الحياة سريعاً فتجاوزت هذه المهنة وأهملتها وخلفتها لعوامل الزمن الجاحد والزوايا المهملة في متاحف التقاليد الشعبية رغم أن مؤرخي الفن المعاصرين يعتبرون صندوق الفرجة هو الأب الشرعي للسينما وظل صندوق الفرجة المسكين قابعاً وحيداً في زوايا الإهمال ينتظر من يحتفل بموته أو ينفض عنه غبار النسيان.

كانت العملة نادرة و”الفرنك” عزيزاً وكان معظم الصغار يأخذون “خرجياتهم ” بيضة أو مكيالاً من القمح أو الذرة يشترون بها حاجياتهم أو ينتظرون “صندوق الفرجة” يُنزل صاحب الصندوق أعجوبته عن ظهره، يضع مقعداً خشبياً أمامها كمقاعد المقاهي أوالمدارس، فيهرع الصبية إليه جماعات ووحداناً يصطفون على المقعد متدافعين، ويحتضن كل واحد منهم دائرة زجاجية “يفرغ ” فيها عينيه، تُكَّبر له الصور التي ينظر إليها، وشريط الصور الثابتة بألوانها الزاهية اللمَّاعة يبدلها صاحب الصندوق بخفة ورشاقة معلقاً على كل صورة لعنترة أو عبلة أو الزير سالم أو الملك سيف بن ذي يزن أو الظاهر بيبرس أو حمزة البهلوان أو علي الزيبق :

 

تعا تفرج يا سلام ؟ ؟ على عبلة أم سنان

تعا تفرج ، تعا شوف ، هادا عنتر بزمانو

كان راكب على حصانو

هادي هيا الست بدور .. قاعدة جوا سبع بحور

الأركيلة كهرمان والتخت من ريش نعام

شوف حبيبي .كمان وكمان ”

 

لا تزال تلك الصور على حالها في الخاطر، كأنها راسية في مرافئ الزمان القديم لا تغادر شواطئ الذاكرة … لا السينما و لا الفيديو ولا أطباق الدش استطاعت أن تمحو ذلك الشريط السحري من الخاطر، لكنها استطاعت أن تحيل “صندوق الفرجة” على المعاش لتنقرض تلك المهنة التي فتحت الطريق أمام الرؤية السينمائية المتحركة وليدة هذا العصر العجيب الغريب كـ “صندوق الفرجة” ذاته.

 

ولا يعُرف على وجه الدقة الأصل التاريخي لهذه التظاهرة ولكن يبدو أن ظهورها قد بدأ في أواخر القرن التاسع عشر- عصر اكتشاف الطباعة الملونة- إذ أن صندوق الدنيا يعتمد بشكل رئيسي على الصور المطبوعة والملونة، ويتألف صندوق الدنيا من صندوق كبير يرتكز على ثلاثة أرجل يحمل على الظهر وله فتحات بلورية ( أربعة إلى ستة ) يشاهد من خلالها صورملونة ملفوفة على لولب يدوي يدوَّره صاحب الصندوق فتتوالى الصور منمقة بحيث تتفق مع ما يرويه من قصص سرداً أو غناءً مرتجلاً تارة معيداً ما حفظه عن أسلافه تارة أخرى.

 

مهنة متوارثة:

كانت مهنة صندوق الفرجة أيام زمان من المهن الأساسية المهمة في المجتمع حيث كانت تضم أعداداً كبيرة من المشتغلين بها وامتدوا إلى أجيال طويلة يسترزقون منها ويعيشون على دخلها رغم شحه وينتشرون في أزقة الحارات القديمة باحثين عن أرزاقهم وغالباً ما يكون ” الصنادقية ” المتجولون أعضاء في أسرة واحدة يتوارثون هذا العمل عن بعضهم ويحدث كثيرا أن يوجد في مكان واحد الآباء والأبناء والأخوة وأولاد العم، ويتمرن الصبي مع والده أوأحد أقاربه ثم يستلم العمل لوحده بعد أن يتعلم أصول المهنة في تركيب الأفلام أو ” تصنيعها ” أحياناً وتدويرها في الصندوق وحفظ الأهازيج والقصائد الشعبية المرافقة عادة لهذه الصنعة.

” جمعة شلهوم”حاج سوري رحل قبل سنوات حاملاً معه أسرار مهنة صندوق الفرجة التي أمضى في مزاولتها أكثر من سبعين عاماً التقاه كاتب هذه السطور قبل وفاته في أحد أيام عيد الفطر وهو يدور بصندوقه الأعجوبة في أحد أزقة حمص القديمة وروى آنذاك أنه بدأ بمزاولة هذه المهنة منذ عشرات السنين حيث كان يعمل “حمَّالا” في بيروت وشاءت الصدفة أن يحصل على صندوقه من قريب له أعطاه إياه مقابل دين كان له بذمته، وقال شلهوم:” وضعت الصندوق أمامي ورحت أتأمله متعجباً محتاراً في كيفية تشغيله ، ولم تَطلْ حيرتي إذ بدأت أنظر إليه من الداخل عبر نوافذه الزجاجية فرأيت صوراً عجيبة ومشاهد غريبة تجسد الكثير من القصص الشعبية التي كان كبار السن يروونها في سهرات العائلة .. وبدأت بتدوير الاسطوانتين الحاملتين للأفلام .. وكانت دهشتي كبيرة حينما تغيرت المشاهد وتبدلت الصور”.

 

وتابع شلهوم:” تعلمت أبجديات المهنة شيئا فشيء وقررت أن أتابع مهنة الحمالة “ولكنها “حمالة ” من نوع خاص سينما متجولة على الظهر يركض وراءها الصغار، وعالم سحري كالخيال يدهش الكبار أيضاً بعجائبه وغرائبه.

أبطال ومشاهير:

اقترنت مهنة “صندوق الفرجة” برواية السير الشعبية التي صاغها الخيال الشعبي في القرن الرابع الهجري واهتم المماليك بتدوينها واكتملت صورتها في مرحلة الحروب الصليبية، ومن هذه السير سيرة عنترة العبسي التي نسج الخيال الشعبي حولها الأساطير ودُوِّنت في عدة مجلدات كان منها السيرة الحجازية والسيرة الشامية والسيرة الظاهرية نسبة إلى الظاهر بيبرس الذي كان بالأصل أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب وترقَّى في خدمته وتأثر بأخلاقه وصلاحه، وكان لشجاعته أثر كبير في النصر على التتار في معركة عين جالوت ثم طرْدِهم من الشام، وقضى طوال فترة حكمه في محاربة الفرنجة والاستيلاء على ما تبقى بأيديهم، وغيرها من السير التي كانت حتى وقت قريب تستأثر باهتمام الناس وقد وضعت جميعها للتسلية الشعبية في المقاهي أو على ألسنة أصحاب صناديق الفرجة الذين غالباً ما كانوا يرددون أبياتاً طويلة من القصائد الشعبية التي ارتبطت بكل قصة لدى عرضهم لصورها في صناديقهم، إضافة إلى قصائد تتعلق بقصص الأنبياء والأبطال والمشاهير في التاريخ .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.