الرئيسية » تحرر الكلام » الجيوش الوطنية والثورات العربية

الجيوش الوطنية والثورات العربية

دراسة منهجية تجريبية موثقة ننشرها على صفحات هذه الصحيفة 

(23)

الجيش ذو الخصوصية يقاتل الثورة الليبية

في هذا المقال وما يليه نعكف على تحليل موقف أحد الكيانات المسلحة والتي سنطلق عليها جيشاًعلى سبيل التجاوز من الثورة الليبية ، أي الجيش ذو الخصوصية الذي حوّله “القذافي” إلى مسخ ، ثم توازى وتزامن مع وجوده تشكيل كتائب أبناء “القذافي” ، كيف واجهت هذه التشكيلات المسلحة ثورة الشعب الليبي في 17 فبراير 2011م ، ثم كيف كان موقف الجيش الليبي (تحت التأسيس) من الصراع المسلح بين ثوار 17 فبراير وميلشيات مضادات الثورة ، وإلى أي مدى تبلورت لدى حركة “خليفة حفتر” العسكري المتصابي الرغبة في استنساخ الحالة المصرية في إجهاض نتاج الثورة وتدمير مسار الشرعية والديمقراطية في ليبيا ؟

إطلالة على امبراطورية”القذافي”غريبة الأطوار

جسدت الحالة الليبية منذ الانقلاب العسكري الذي قاده “معمر القذافي” في الأول من سبتمبر عام 1969م مقتدياً بنموذج انقلاب “جمال عبد الناصر” في مصر في عام 1952م ، جسدت تلك الحالة أسوأ وأبشع نماذج الدولة الشمولية العسكرية الفاشية في التاريخ المعاصر .

والمفارقة أن هذه الحالة لم تقتصر على سمات الشمولية والعسكرية والفاشية ، بل زادت على تلك الصفات أنها كانت حالة غريبة الأطوار متقلبة المزاج ، استحل فيها “القذافي” لنفسه على مدى اثنتين وأربعين سنة قول وفعل أي شيئ يقفز إلى خاطره المضطرب ، واغتالت أفكار وسلوكات “القذافي” ومن جنّدهم لخدمته من بطانة فاسدة أحلام أبناء الشعب الليبي في حياة حرة كريمة .

ولسنا معنيين في هذا الموضع بالإغراق في تحليل النظام السياسي الليبي ، ولكننا نعمد إلى التركيز على بعض الجوانب والأبعاد بوصفها خلفية واجبة للانطلاق إلى تحليل الإرتباطات المباشرة وغير المباشرة بين النظام السياسي والجيش والثورة الليبية التي اندلعت في السابع عشر من شهر فبراير عام 2011م ، متأثرة ومتزامنة ومتماهية مع ثورات الكرامة العربية في تونس ومصر واليمن ، ويمكننا بسط تلك الجوانب فيما يلي :

الفرع الأول : غياب الثقافة والثقافة السياسية وسيادة رؤية الحاكم المستبد :

عبر مراقبة لصيقة لتطور الأوضاع في ليبيا خلال العقدين الأخيرين ، كان من السهل التوصل إلى ما يفيد بأن الثقافة بمعناها الحقيقي لم يكن لها وجود على التراب الليبي ، ولا وجود بالتالي لثقافة سياسية تعكس رؤية الليبيين للظاهرة السياسية بكافة مفرداتها .

لقد عزف الليبيون عن التفكير في الظاهرة السياسية لانعدام معرفتهم بتلك الظاهرة من ناحية ، ولبغضهم الشديد للسياسة التي باتت تمثل لهم تهريجاً هزلياً ومراهقة فكرية خرقاء من ناحية أخرى ، أما على مستوى الممارسة السياسية فقد كانت بِدَع القذافي الدراماتيكية تصيب الليبيين بغصة تضحكهم مرة وتبكيهم مرات ، وفي هذا الجو اللامنهجي ليس من المنطقي الحديث عن ثقافة ومن ثم ثقافة سياسية ، فالأولى لا وجود لها اللهم إلا ترديد لفظتها ، والثانية غير واردة على الإطلاق في القاموس الليبي المتداول للشأن العام .

والثابت أن الثقافة تلك الكلية العملاقة تم اختزالها في رؤية القذافي الشاملة للحياة التي أفرزتها عبقريته الفريدة ! وضمّنها كتابه الأشهر سيئ السمعة ، أما الثقافة السياسية فقد وسعتها جماهيرية القذافي التي فاقت جمهورية أفلاطون تردياً ومجوناً ، وانحشر الليبيون ثقافة وسياسة في نفق القذافي المظلم الذي خلا من نورهما ، وعتّمته ظلمة أوى إليها خفافيش الملفقين والمحرفين والمنافقين .     

الفرع الثاني : غياب الأيديولوجيا :

كذلك لم يكن ثمة وجود للأيديولوجيا بمعناها المنهجي في ليبيا على مدى العقود الأربعة التي جثم خلالها ديكتاتور مستبد على صدر الشعب الليبي ، وذلك لأن ذاك الديكتاتور أصبح المصدر الرئيس والوحيد للثقافة في ليبيا ، ومن ثم بات هو نفسه الذي يخطط ويفرض على الليبيين كيف يعيشون ، كيف يفكرون ! كيف يمارسون حياتهم اليومية ! بل كيف يتريضون ! وانتهى الأمر بأن تتحول مقولات وتعليمات وتوجيهات الديكتاتور إلى دستور ومنهج لحياة الليبيين ، والخروج عليها قد يعرض تلك الحياة لنهاية وخيمة .    

الفرع الثالث : غياب التجربة :

عندما نناقش مع المواطنين بكافة مشاربهم الشأن الليبي بموضوعية قد نُحسد عليها ، غير آبهين بكل ما يدور وما يمكن أن يحدث ، ومن خلال لقاءات عديدة مع مفكرين وأكاديميين من كافة التوجهات التي استشففناها من تحت سطح الحياة الفكرية الليبية الراكدة ، ومن ثنايا الحياة الاجتماعية التي انخرطنا فيها ، واختلطنا بكل أبناء الشعب الليبي ، خَلُصَنا إلى أن الليبيين لم يخوضوا تجربة الممارسة السياسية ، بل نأوا بأنفسهم عن تلك المسرحية الهزلية التي لعب فيها الديكتاتور دور البطولة المطلقة ، فكان هو الممارس الأوحد للسياسة والليبيون منها براء ، إلا أن الموضوعية تفرض علينا ألا نهمل الكومبارس من لجان الرعب والجهل وحفنة المنافقين والمنتفعين ، الذين التفوا حول الطاغية وأشعروه بأنه الأهم في ليبيا والأكثر جرأة بين حكام العرب وأخيراً ملك الملوك في أفريقيا !!

هكذا جاء المشهد السياسي الليبي خالياً من الممارسة لتكتمل حلقة الفراغ المقفر [غياب الثقافة ، غياب الأيديولوجيا ، غياب الممارسة] ومن ثم لم يكن ثمة مجال للحديث أو حتي التفكير في التعدد من أي نوع كان ، ذلك التعدد الذي وصل به الأمر إلى أن يُصنّف ـ وفق المشرّع الأوحد في ليبيا ـ على أنه خيانة عظمى .

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.