الرئيسية » تحرر الكلام » “ثلاث وجهات نظر في ذكرى النكبة”

“ثلاث وجهات نظر في ذكرى النكبة”

المقدمة

(اتفق الباحثون والنقاد العرب المهتمون بالقضايا القومية وفي طليعتها القضية الفلسطينية على أن المقاربة النهضوية التقليدية للواقع العربي ما بين “معنى النكبة 1948” ومعنى “النكبة مجدداً 1967” في كتابي الدكتور قسطنطين زريق لم تتغير، وأنها بقيت تدلل على أن الخطاب النهضوي العربي لم يستطع أن يقوم بمراجعة جذرية لأساسياته وأولوياته الفكرية بين هزيمتين عربيتين كبيرتين.

أوضحت الدراسات التي نُشرت حول الكتابين المذكورين أن الإنجاز الأبرز لخطاب الدكتور زريق فيهما تمثل في محاولته توحيد إشكالية “النكبة” مع إشكالية “النهضة” بوصفهما تحدياً واحداً يواجه المجتمع العربي، وأن التلقي والتطبيق المشوه لطروحات ذلك الخطاب في السياق التاريخي العربي المعاصر لم يدفع صائغيه إلى توجيه أسئلة أكثر عمقاً لجذر خطابهم بالذات.

 

وفي ما اختص بالأسباب الذاتية للنكبة، فقد رد الدكتور قسطنطين زريق وأقرانه من تقليديي الفكر النهضوي تلك الأسباب للتخلف الطاغي على الوضع العربي، ورأوا أن حالة الانتكاس المعنوي التي تعيشها الجماهير العربية ستبقى قائمة ما دامت الأقطار العربية بعيدة عن قيم التقدم والحداثة، ثم خلصوا إلى طرح قائمة طويلة من التوصيات للنهوض بالأمة وتحديثها، دون تقديم معالجة نقدية مكثفة للبنى السلطوية والاجتماعية والاقتصادية العربية في سياقها التاريخي “النكبوي” إن صح التعبير.

هذا ما جاء به كتاب “معنى النكبة” في نهاية الأربعينيات من القرن العشرين ليكون الطرح الأكثر تماسكاً ضمن ذلك المنظور، وليشكل خطوة فكرية كبيرة إلى الأمام رغم كل ما قد تقدمه قراءتنا المعاصرة من انتقادات بخصوصه.

وبعد هزيمة 5 حزيران 1967 التي ارتأى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ضرورة أن تُطلق عليها تسمية “نكسة” للتخفيف من وطأة نتائجها على الشعب العربي، انطلقت موجة جديدة من النقد الذاتي لامست العديد من مظاهر وتجليات الوضع العربي، وحاولت مساءلة البنى العربية المترسخة حول دورها في إنتاج وإعادة إنتاج النكبة، إلا أن تلك الموجة رغم كل عنفها وصخبها لم تستطع أن تتجاوز طروحات النهضويين العرب الأوائل بشكل جذري، فكانت تنويعاً حاد النبرة على النغمة نفسها، ولهذا لم يكن من المستغرب أن يقوم الدكتور قسطنطين زريق بإعادة صياغة طروحاته القديمة في كتاب جديد بعنوان «معنى النكبة مجدداً»، لم يقدم فيه أكثر من صياغة جديدة للأفكار نفسها بعد توسيعها وتطوير لغتها بما يتناسب مع لغة الستينيات من القرن الماضي.

وليس من باب المبالغة القول أن الطرح النهضوي العربي التقليدي حول “معنى النكبة” ظل حتى وقتنا الراهن من أكثر الطروحات عقلانية وتماسكاً، رغم أنه لم يثمر على أرض الواقع إلا أكثر النتائج إحباطاً للنفوس وتخييباً للآمال، وأكثر التطبيقات تشوهاً. فهل يا ترى مازال بإمكاننا البناء على هذا الطرح في تعاملنا مع «النكبة» كواقع ومفهوم؟ ولماذا لم نستطع أن نقدم حتى الآن طرحاً يتجاوزه نقدياً، ويوجه أسئلة أكثر تجذراً للبنى والمفاهيم التي خلقت واقع النكبة؟؟)

(1 من 3)

ما ضاع حقٌ وراءه مُطالبٌ…فكيف إذا كان المطالب مقاوماً !!

دللت تجارب معظم الأمم على أنه كان من شأن النكبات والنائبات والنازلات والنكسات والهزائم والكوارث والمصائب والصدمات التي ألمت بها وداهمتها في غفلة من الزمن أن تستنهض الأحاسيس الوطنية والقومية والدينية مجتمعة أو منفردة لدى أبنائها، وتدفعهم للبحث في مجريات الأحداث وتقصي بواعثها وأسبابها ودوافعها وإجراءِ عملية نقدٍ ذاتيٍ ومراجعةٍ لمكامن الضعف والقوة عندهم واستخلاص الدروس والعبر التي تمكنهم من إصلاح الحاضر وقياسه بالماضي تهيئةً لإعداد مستلزمات المستقبل.

كما أكدت التجارب أيضاً أن ما من شيء مما أشرت إليه كان يمكن تحقيقه لو لم يتسنّ لأبناء هذه الأمة أو تلك أن يوفروا لأنفسهم زاداً كافياً من الوعي والإدراك والقدرة على استنباط وسائل المواجهة، وأن يختزنوا في داخلهم قسطاً وافياً من الإيمان والوطنية والكرامة والإباء والعزة والعزيمة والإرادة. أما إذا افتقروا إلى هذه مجتمعةً أو إلى بعضها واستمرأوا الرزوخ تحت وطأة التبعية والاستعباد وأعباء التخلف والجهل والفُرقة والاستكانة والاستسلام، فإن نكبةً أو نائبة أو نازلة أو نكسة أو هزيمة أو كارثة أو مصيبة أو صدمة واحدة تكفي لتمعن في قهرهم والتنكيل بهم دون أن تثور فيهم حمية أو نخوة أو يُستفزُ عندهم رد فعل إيجابي واحد يدفعهم إلى النظر في كيفية إصلاح أحوالهم وأحوال أمتهم.

لا شك أن التطرق لموضوع نكبة فلسطين “15 أيار 1948” ونحن في أجواء ذكراها الثامنة والستين يقودنا إلى الاعتراف بأن كلمة “نكبة” لا تكفي للإيفاء بالتعبير عن الكارثة التي حصلت في ذلك التاريخ، خاصةً عندما يُنظر إليها على خلفية الأحداث التي سبقتها والآثار والإفرازات والتداعيات السلبية التي ترتبت عليها والتي لم تزل تترتب عليها حتى الآن، أكان ذلك على الصعيد القومي أو الصعيد الوطني. إنما وفي مطلق الأحوال لا بد من الوقوف عند هذه “النكبة” القاسية والمريرة وربطها بما سبقها وتبعها لاستخلاص الدروس والعبر حفاظاً على الذاكرة العربية وسعياً وراء تخزينها في ذاكرة الأبناء والأحفاد.

عندما استهدف الغرب الاستعماري في القرن التاسع عشر في العرب وفرض وصايته عليهم بمنطق القوة والبطش والإرهاب، كانت النهضة العربية في ذروة توهجها. وقتذاك تساءل أقطاب تلك النهضة من أمثال محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني عن سر تفوق الغرب على الأمة العربية واستعماره لها. ووقتذاك لم يكن الكيان الصهيوني اللقيط قد استُحدث في خاصرة الأمة بعد. وفي حينه تداعى هؤلاء إلى نقدٍ ذاتيٍ ومراجعةٍ لمكامن الضعف والقوة عند الأمة لغرض النهوض بها من كبوتها واستعادة قوتها ومجدها الغابر. لكن الاستعمار الغربي بكل ما اتصف به من كُره للعرب وكل ما به من جبروتٍ وحقدٍ تحرك وفق استراتيجيته المعهودة القائمة على الاحتلال والتوسع ولم يمكنهم من ذلك. وما هو إلا وقت قصير جداً حتى أطلت الصهيونية العالمية بكل مخاطرها على هذه الأمة حين أعلنت في مؤتمرها الأول الذي انعقد في مدينة “بازل” السويسرية عام 1897 انتقالها من الإطار الفكري النظري إلى الإطار التطبيقي العملي من خلال طرح مشروعها الاستيطاني التوسعي الذي جاء امتداداً للمشروع الاستعماري الغربي.

وعندما أمعن الصهاينة في عدوانهم على الفلسطينيين وأرضهم المقدسة تحت غطاءٍ سياسيٍ تمثل بوعد بلفور المشؤوم والقرار الدولي 181 وغطاءٍ عسكريٍ تمثّل بالانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية التي استوردها ذلك الانتداب من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بشطريها الغربي والشرقي وبعض البلدان العربية والإسلامية وأعلنت قيام الكيان الصهيوني في 14 أيار 1948 على حساب فلسطين وتشريد شعبها، كانت الأمة العربية تشهد بروز تياراتٍ أيديولوجيةٍ وحزبيةٍ ومنظماتٍ ثوريةٍ كثيرة. كما كانت تشهد ظهور شخصياتٍ فكريةٍ عربيةٍ بارزة. ويومها تساءل أقطاب تلك الأيديولوجيات والأحزاب والمفكرون العرب عن سر تفوق التحالف الغربي – الصهيوني على الأمة العربية وقدرة الصهاينة على احتلال فلسطين وتشريد شعبها. وتداعى هؤلاء إلى إجراء نقدٍ ذاتيٍ جديدٍ ومراجعةٍ جديدةٍ لمكامن الضعف والقوة عند الأمة العربية لغرض النهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر.

وعندما أمعن الكيان الصهيوني مدعماً بجسر جوي عسكري أمريكي في عدوانه السافر على العرب في الخامس من حزيران عام 1967 وتمكن في حربٍ خاطفةٍ وصاعقةٍ لم تستغرق أكثر من ستة أيام من احتلال كامل التراب الفلسطيني وسيناء المصرية والجولان السورية وبعض المواقع الاستراتيجية في خليج العقبة الأردني، كانت الأمة تشهد مداً قومياً بلغ من الذروة ما بلغه وبلغت معه الآمال عند العرب مبلغاً لم تبلغه من قبل، بفعل التغيرات السياسية التي حدثت في العديد من الدول العربية، والتي أحدثت بدورها إنجازاتٍ ومكاسب كبيرةً سواء على صعيد انتزاع الحقوق من الدول المستعمرة أو رد الاعتداءات التي قامت بها تلك الدول، وذلك بفعل وجود قياداتٍ عربيةٍ تاريخيةٍ من أمثال الراحل الكبير جمال عبد الناصر وبفعل تصاعد الثورة الفلسطينية التي لم يكن قد مضى على انطلاقتها أكثر من عامين.

ومع حدوث تلك النكسة القاسية والأليمة التي نزلت بالأمة وخلفت ما خلفت من آثارٍ سلبيةٍ في نفوس أبنائها المتطلعين آنذاك إلى التحرر والوحدة والعدالة، تساءل السياسيون والمفكرون والمثقفون العرب عن سر استمرار تفوق التحالف الغربي ـ الصهيوني على الأمة الذي أدى إلى تلك النكسة. ويومها تداعى هؤلاء كالعادة إلى إجراء نقدٍ ذاتيٍ ومراجعة جديدةٍ لمكامن الضعف والقوة فيها لغرض استكشاف العلل والأسباب واستخلاص النتائج والعبر وتنبيه الرأي العام العربي إليها للنهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر!!

حتى النصر الذي حققه العرب بانتصارهم على الكيان الصهيوني في حرب تشرين الأول 1973 بفضل الجيش المصري الذي تمكن من تحطيم خط “بارليف” والعبور إلى شبه جزيرة سيناء، وبفضل الجيش السوري الذي تمكن من اجتياز الحدود وتهديد العمق الصهيوني، وبفضل جيش التحرير الفلسطيني الذي ولد بعد معركة الكرامة التي كسر فيها المقاومون الفلسطينيون والجيش الأردني “أسطورة الجيش الذي لا يُقهر”، حوله الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات إلى هزيمة من خلال تفريغه من مضامينه القومية والوطنية واستثماره سياسياً وتطويعه لخدمة “اتفاقيات كامب دافيد” اللعينة، دون أن يُعير انتباهاً يذكر لا للجبهة السورية ولا للحاضر والمستقبل العربيين. وحتى ذلك النصر الذي حوله السادات إلى هزيمة وجد من يتساءل حوله ويُنَّظر له ويتداعى للنقد الذاتي والمراجعة من أجله، بذات الطرق السابقة ودون أي مردود إيجابي.

وتوالت “كَرَّةُ السَبْحة”، فمن احتلالٍ لجنوب لبنان عام 1978 إلى اجتياحٍ للبنان بما فيه عاصمته بيروت عام 1982 إلى غزوٍ واحتلالٍ للعراق بما فيه عاصمته بغداد عام 2003 إلى عدوان فاشي آخر على لبنان عام 2006 إلى عدوان متواصل الحلقات على قطاع غزة إلى مسلسل مستمر للقتل الفردي والجماعي في الضفة الغربية بما في ذلك مدينة القدس المباركة.

عاصمتان عربيتان، هما بغداد وبيروت، سقطتا ولا حياة لمن تنادي، وقبلهما سقطت زهرة المدائن. ومن نكبةٍ إلى نائبة إلى نازلة إلى نكسة إلى هزيمة إلى كارثة إلى مصيبة إلى صدمة عبر عنها الخريف العربي الذي اجتاح العديد من البلدان العربية عام 2011 قادماً من واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم المحسوبة زوراً وبهتاناً على العرب ولم يزل يجتاحها حتى الآن، ولم يزل أقطاب النهضة والتيارات الأيديولوجية والحزبية وأقطاب السياسة والفكر والثقافة العرب يتساءلون حول سر تفوق التحالف الغربي – الصهيوني على الأمة العربية، ويجرون النقد الذاتي والمراجعة لمكامن الضعف والقوة عند الأمة لغرض النهوض بها واستعادة قوتها ومجدها الغابر دون جدوى!!

لكن طالما توفرت إرادة المقاومة في العديد من البلدان العربية مثل ما هو قائم في فلسطين ولبنان وسورية والعراق، وطالما أن المقاومة باقية على ممانعتها وعنادها وإصرارها، وطالما أن الشعب العربي يحتفظ بإرادته ويحافظ على كرامته ويثبت على مواقفه المبدئية بما فيها موقفه الداعم لهذه المقاومة بلا تحفظ ولا حدود ومتصدياً لسياسة التركيع والتهجين وفرض الاستسلام التي يحاول التحالف الأمريكي – الصهيوني فرضها عليه، سيبقى الأمل بهذه الأمة العظيمة قائماً. وعليه فلن تحتاج الأمة إلا لمتسائلٍ أو متداعٍ أو مراجعٍ عربي صادق وفاعل يسعى للنهوض بها ويعمل من أجل استعادة حقوقها الضائعة وأمجادها الغابرة، وهو ما لن يتأتى إلا عن طريق المطالبة المترافقة مع المقاومة بشتى أنواعها، باعتبارها خيار التحرير الوحيد.

وصدق من قال ” ما ضاع حقٌ وراءه مُطالبٌ…فكيف إذا كان المطالب مقاوماً !!”

(2 من 3)

سطوة الصهيونية المتواصلة على الإدارات الأمريكية !!

في الذكرى الثامنة والستين للنكبة العربية الكبرى، التي اعتدنا على إحياء ذكراها في الخامس عشر من شهر أيار في كل عام بكثير من الحزن والأسى، ارتأيت ضرورة العودة إلى الوراء للتوقف قليلاً عند تاريخ الثاني من نيسان 2008. ففي ذلك اليوم صادق مجلس النواب الأمريكي على قرارٍ وَقَفَ وراءه عتاة الصهاينة داخل تيار المحافظين الجدد في واشنطن ودعا إلى حل ما سُمي زوراً وبهتاناً “قضية اللاجئين اليهود في الأقطار العربية” في إطار “تبادل الحقوق” فيما لو حصلت تسوية سلام بين الفلسطينيين والصهاينة في المستقبل. وتحدث القرار عن تعويضات مالية لأكثر من 850 ألف يهودي ادعى واضعوه أن الحكومات العربية ” قامت بمصادرة أراضيهم ومنازلهم التي كانوا يعيشون فيها” بعد مغادرتهم لها إلى الكيان الصهيوني في إطار هجرتهم إلى “أرض الميعاد” المزعومة.

ذلك القرار المشئوم صدر يومها في سياق “سياسة ازدواجية المعايير والمواقف” الأمريكية المتعلقة بمسألة الصراع العربي ـ الصهيوني وبالأخص القضية الفلسطينية، والهادفة في كل الأحوال إلى إسقاط حق العودة عن اللاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم الصهيونية العالمية في شتات الأرض، بتآمرٍ وتواطؤٍ مع كل الغرب وجزءٍ من الشرق. والقرار وإن لم يكن يتكئ إلى سند قانوني دولي يضفي عليه صفة الإلزام الضرورية وإن كان لا يعدو عن كونه قراراً سياسياً أميركياً داخلياً اعتباطياً، إلا أن المحافظين الجدد قصدوا من وراء صياغته وإقراره في تلك المرحلة استباق أي حديث عن سلام محتمل بين الفلسطينيين والصهاينة، لغرض فرض مقايضة بين حق العودة للاجئين الفلسطينيين وما يُسوق داخل الكيان الصهيوني على أنه “قضية لاجئين يهود” غادروا الأقطار العربية إلى فلسطين المحتلة.

يشار في هذا الصدد أن ذلك القرار الذي وقفت وراءه إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن لم يكن أول “المكرمات” التي اعتادت أن تتحفنا بها العقول الهدامة لأركان إدارات المحافظين الجدد في واشنطن بين الحين والآخر، بهدف خدمة الكيان الصهيوني ومخططاته الشيطانية الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص المخططات الإستيطانية التوسعية في الوطن العربي، وبهدف خدمة التطابق القائم بين سياسات هذا الكيان اللقيط وسياسات الولايات المتحدة.

فهل يا ترى بمقدور أي مواطن عربي يحتفظ بذرة من العزة والكرامة ويمتلك قدراً من الانتماء والحس الوطني والقومي نسيان “مكرماتٍ” كانت قد أتحفتنا بها إدارة ذلك الرئيس الأرعن، التي لم تختلف عن سابقاتها ولم تختلف لاحقاتها عنها، مثلَ قرار غزو واحتلال العراق وتدميره، و”قانون محاسبة سوريا”، و”وعد بوش المشؤوم” للسفاح الصهيوني المقبور أرئيل شارون وقرار إدراج الحركات والمنظمات والأحزاب العربية الممانعة والمقاومة على قوائم ما يُسمى زوراً وبهتاناً “الإرهاب” الدولي، وقرار إطلق يد تل أبيب في عدوانها على لبنان في تموز 2006 وقرار محاصرة قطاع غزة سعياً إلى تهجينه أو الفتك بأبنائه، وجميع القرارات والقوانين والوعود والتصريحات والبيانات والمواقف الأمريكية الأخرى المعادية لفلسطين والفلسطينيين والعرب أجمعين، والتي لم تعد تحصى أو تُعد؟ لا أعتقد، بل أجزم أنه من غير المستطاع ذلك.

لا أبالغ أبداً عندما أقول أن استذكاراً بسيطاً لما اتخذته وأقرته إدارة الرئيس السابق جورج بوش من قرارات وقوانين جائرة وما أصدرته من وعود وتصريحات وبيانات ومواقف نافرة بخصوص منطقة الشرق الأوسط عامة والوطن العربي خاصة خلال فترتي تربع بوش على سدة الحكم في البيت الأبيض “بين كانون الثاني 2001 بموجب نتائج انتخابات تشرين الثاني 2000 وحتى كانون الثاني 2009 موعد تسلم الرئيس الحالي باراك أوباما مهام مسؤولياته في البيت الأبيض”، يكفي للتدليل على مدى التطابق بين السياسة الخارجية لواشنطن وتل أبيب، خاصة في ما يتعلق بمسألة الصراع العربي ـ الصهيوني. ولربما أن مثل هذا الاستذكار يكفي أيضاً للتدليل بشكل أوضح وأدق على أن كل ما أقدمت عليه الإدارة الأمريكية السابقة بشأن هذه المسألة وما اقترفته من جرائم وما ارتكبته من حماقات بحق العرب عامة والفلسطينيين خاصة، ما كان بالإمكان حدوثه بالكيفية العدائية التي جاءت عليه لو لم تتدخل فيه الإرادة الصهيونية عبر بنات أفكار المحافظين الجدد الذين كانوا متغلغلين بداخلها وكانوا يحكمون قبضتهم الحديدية على كل مفاصلها الحيوية.

فقرار غزو واحتلال العراق وتدميره بالطريقة الهمجية والحاقدة التي حدثت كان بلا شك “ثمرة من ثمرات” بنات أفكارالمحافظين الجدد، ووقفت وراءه الإرادة الصهيونية. وجميع المسوغات والذرائع الواهية التي فبركتها المطابخ السياسية والإعلامية الأمريكية وسوقتها المطابخ السياسية والإعلامية البريطانية والغربية بشكل عام لارتكاب جريمة الغزو والاحتلال والتدمير بما في ذلك كذبة “أسلحة الدمار الشامل العراقية”، لم تكن سوى بدع وأضاليل واهية لإخفاء رغبة هؤلاء المحافظين الجدد الموتورين والحاقدين في تدمير العراق وتفتيته إلى شيع وقبائل وطوائف ومذاهب وأعراق تتلهى بالاقتتال في ما بينها، وعزله بشكل نهائي عن محيطه العربي وشطبه من معادلةالصراع العربي ـ الصهيوني، وسرقة ثروته النفطية الهائلة.

وقرار إدراج الحركات والأحزاب العربية الممانعة والمؤيدة لمقاومة الاحتلال والهيمنة مثل حركتي “حماس” و “الجهاد” الفلسطينيتين و”حزب الله” اللبناني على قوائم “الإرهاب الدولي” بالتزامن مع إدراج مَن تبقى مِن الأقطار العربية الممانعة التي تفاخر بأصالتها العربية وتجاهر بثوابتها الوطنية والقومية وتفصح عن عدائها وتصديها لمطامع ومخططات الولايات المتحدة الاستعمارية ومطامع ومخططات الكيان الصهيوني الاستيطانية ـ التوسعية على ذات القوائم وإصدار قوانين خاصة لمحاسبتها والعمل على ضرب وحدتها من خلال افتعال الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية والإثنية فيها بدعوى “الديمقراطية” و”الإصلاح” وتحت مسمى “الربيع العربي” الكاذب، كان هو الآخر من ثمرات بنات أفكار المحافظين الجدد، وبالطبع وقفت وراءه الإرادة الصهيونية قبل الإدارة الأمريكية.

والقرارات التعسفية التي اتخذتها الإدارة الأمريكية بشأن فلسطين، من محاربة أبنائها بشكل تعسفي وعلني وحض الكيان الصهيوني الفاشي على رفع وتيرة اعتداءاته الإجرامية اليومية المتواصلة ضدهم وإثارة النزعات العدائية وافتعال التقاتل في ما بينهم، من خلال مناصرة فريق على آخر، ومحاصرتهم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وطبياً وصولاً إلى محاصرة بُطونهم وأمعائهم التي هي بالأصل خاوية، كانت أيضاً من ثمرات بنات أفكار المحافظين الجدد ووقفت وراءها الإرادة الصهيونية قبل الإدارة الأمريكية.

فعندما قرر المحافظون الجدد المتصهينون ما قرروه من قرارات، وسنوا ما سنوه من قوانين، وأصدروا ما أصدروه من وعود وتصريحات وبيانات، واتخذوا ما اتخذوه من مواقف بشأن العرب، وعندما ألحقوا ما ألحقوه بالعرب عامة وبالفلسطينيين خاصة من جور وظلم وتعسف في ظل إدارة جورج بوش الابن وقبل ذلك في ظل الإدارات التي سبقتها وفي ظل الإدارة الحالية برئاسة باراك أوباما الذي يستعد لمغادرة البيت الأبيض في مطلع العام القادم وبدعم مباشر أو غير مباشر من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، إنما فعلوا ذلك بناءً لإرادة صهيونية طاغية همها الوحيد تحجيم وإضعاف كل القوى العربية الرسمية والحزبية والشعبية القادرة على القيام بفعل مقاوم أو ممانع ضد الكيان الصهيوني، وإخضاعها لمشيئة هذا الكيان وإجبارها على القبول به كسلطة احتلال دائمة والتسليم بسياسة الأمر الواقع القائمة في الأراضي العربية المحتلة، وفي مقدمها الأراضي الفلسطينية.

يتبين مما سلف ذكره أن كل ما كان يدور في خُلد إدارة المحافظين الجدد إبان فترتي رئاسة الجمهوري جورج بوش الإبن وربما إبان فترتي رئاسة الديمقراطي باراك أوباما للولايات المتحدة بشأن منطقة الشرق الأوسط وما سعت إلى تحقيقه في المنطقة وبالذات في الوطن العربي نركز على تطبيق سياسة الكيان الصهيوني وتنفيذ استراتيجيته رغبة في تحقيق أهدافه واستمرار احتلاله لتراب فلسطين وأجزاء أخرى من الوطن العربي بمنطق القوة وبدبلوماسية البوارج والقاذفات الصاروخية، باعتبار أن تلك الأهداف تتقاطع مع الأهداف الأمريكية، وباعتبار أن هذا الكيان اللقيط هو ربيب للإمبريالية العالمية الجديدة، التي أفرزها النظام العالمي الذي استجد مع نهاية الحرب الباردة، والتي تتزعمها الولايات المتحدة.

وبمعنى آخر يمكن القول أن ما فعلته إدارة الرئيس الأرعن جورج بوش الإبن في منطقة الشرق الأوسط وبالأخص في الوطن العربي منذ استلامها مقاليد السلطة في واشنطن وحتى رحيلها، حدث بإرادة صهيونية عبرت عن نفسها من خلال بنات أفكار المحافظين الجدد، وحدث أولاً وأخيراً من أجل عيون الكيان الصهيوني العنصري وحكامه ومستوطنيه الذين استُوردوا إلى فلسطين بموجب أوامر شحن غير مرخصة. وبذات المعنى يمكن سحب هذا على إدارة الرئيس باراك أوباما الحالية.

والآن ونحن على مسافة بضعة شهور من انتهاء الولاية الثانية لهذه الإدارة يمكننا الجزم بأنها لم تظهر طوال فترتي رئاسة باراك أوباما أي تمايز أو تميز عن التي سبقتها في ما يتعلق بالعرب وقضاياهم، وعلى وجه الخصوص الفلسطينيين وقضيتهم. فمن خلال جميع مماراساتها الخاصة بهذا الموضوع أبدت خضوعاً واستسلاماً تامين لسطوة الإرادة الصهيونية، ولربما بشكل لم يقل وطأة عما كانت عليه إدارة جورج بوش الإبن وجميع الإدارات التي سبقتها.

إنها سطوة الصهيونية المتواصلة على الإدارات الأمريكية !!

(النكبة 3 من 3)

حق العودة…لن يكون أبداً للتفريط أو التبديل !!

إن مجرد مراجعة خاطفة لشريط الأحداث التاريخية المفجعة التي عصفت بالوطن العربي خلال العقود السبعة الأخيرة “68 سنة” تدلل على أن الأمة العربية كانت ولم تزل عرضة لمسلسل متواصل الحلقات من النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن، مما جعل البعض يتصور أنه قُدِرَّ لهذه الأمة التي كانت خير أمة اخرجت للناس أن تظل رفيقاً ملازماً للنحس ونذير الشؤم، وأن تنتقل من نكبة إلى نكسة فهزيمة فكارثة فمحنة. وإذا ما تعمقنا في المراجعة، بحيث تشمل الأحداث التاريخية العالمية، لأدركنا أن كثيراً من أمم الأرض تعرضت هي الأخرى في أوقات استثنائية ومتباعدة إلى نكبات ونكسات وهزائم وكوارث ومحن مماثلة، أو ربما أشد وطأة وأكثر  إيلاماً في أحيان عديدة. والمفارقة العجيبة أنه في حين تغلبت تلك الأمم على جميع تأثيرات ونتائج وتداعيات وإرهاصات نكباتها ونكساتها وهزائمها وكوارثها ومحنها ونجحت في استعادة زمام المبادرة من خلال إحياء أحاسيسها ومشاعرها الوطنية والقومية وأحياناً الدينية ومن خلال شحذ وتنشيط قدراتها وإمكاناتها والنهوض بها مجدداً وأجراء مراجعات شاملة لمكامن ضعفها وقوتها، فإن شيئاً مغايراً ومعاكساً تماماً حصل مع الأمة العربية.

فالأمة العربية التي عُرفت بعظمة تاريخها وحضارتها وثقافتها ومكانتها الدينية والدنيوية وموقعها الاستراتيجي وثرواتها الهائلة، بدل أن تستوعب الدرس وتستلهم العبر من تلك الأمم وتتمثل بها وبما فعلت وتحذو حذوها في إصلاح أوضاعها وأوضاع أبنائها طلباً للنجاة، نراها وللأسف تألف الاستكانة والهوان وتحتفظ لنفسها بالضعف والوهن وتستسلم لمقاديرها، وكأن النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن استوطنت داخلها وأصبحت جزءاً مُتمماً وضرورياً لكينونتها ونسيجها الحياتي. ولربما أن هذه السمات قد غلبت عليها بشكل أكبر مع نهاية حقبة ستينات القرن الماضي وتواصلت حتى الآن.

لا يختلف عربيان حول حقيقة أن نكبة عام 1948 في فلسطين العروبة والرباط والعزة والكرامة والمجد والإباء والتي يُحيي القوميون والوطنيون العرب ذكراها الثامنة والستين هذه الأيام بكثير من الحزن والألم المتقاطعين مع بعض التفاؤل والأمل، كانت ولم تزل هي النكبة الأكبر بل أم النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن التي تعرض لها الوطن العربي على مدار تاريخه القديم والحديث. ولا أعتقد أنهما يختلفان حول حقيقة أنه لو أحسنت الأمة العربية التعامل مع الظروف الموضوعية والإيجابية والفرص الذهبية التي توفرت لها في أوقات كثيرة سابقة، لقدر لها، بمساندة  القانون الدولي وبالاتكاء على الأعراف والعقل والمنطق والانتماء، أن تحول هذه النكبة إلى “مرجل” يحرك فيها مواضع قوتها وإمكاناتها ومداركها، وإلى “مِهماز” يشحذ فيها الإرادة ويُحفز في نفوس أبنائها النخوة والعزة والكرامة، لتعد العدة اللازمة والضرورية وتستأنف من جديد معركتها الفاصلة مع العدو المغتصب للأرض والمتمادي في عدوانه، والتي بموجبها، وبموجبها فقط، تستعيد الحق الذي طال انتظاره.

لكن من سوء طالع الأمة العربية أنها من حيث درت أو من حيث أريد لها أن لا تدري قسراً لا طواعية، تغلبت بداخلها النزعات القُطرية الخاصة على التوجهات القومية العامة وحوصرت في قوقعة النهج الشمولي وزُجَ بها مجبرةً لا مخيرةَ في آتون الخصومات والنزاعات الحزبية والعقائدية والطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية، وأُسقطت في متاهات ومخاطر الانقسام والتجزئة والتفتت. وهي بنتيجة ذلك قدمت للكيان الصهيوني الفرصة التي لم يكن يحلم بها في وقت من الأوقات، فجاء عدوان الخامس من حزيران 1967 الذي تمكن هذا الكيان المجرم بموجب نتائجه المأساوية من توسيع رقعة احتلاله لتشمل ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وأراض عربية أخرى من مصر وسوريا ولبنان وخليج العقبة الأردني وحتى الخليج العربي. وبنتيجة ذلك العدوان وقع المحظور من جديد واتسعت رقعة النكبة لتشمل جزءاً من المصريين والسوريين واللبنانيين والأردنيين والخليجيين، إلى جانب كل الفلسطينيين.

وفي محاولة منه للتقليل من وطأة الهزيمة التي مُنيت بها الأمة بنتيجة ذلك العدوان والتأثيرات والنتائج والتداعيات التي كان من الممكن أن تترتب عليها لو أن العرب غلبوا روح الهزيمة على الرغبة في النصر واستسلموا لليأس والقنوط، اختار لها القائد العربي الراحل جمال عبد الناصر تسمية “النكسة”. لكن الحق يُقال أن الأمة العربية من محيطها إلى خليجها لم تتعظ من أحداث التاريخ ولم تستخلص الدروس والعبر كما يجب. فهي بدل أن تعيد النظر في نهجها الشمولي وسياساتها المحنطة وتستجيب لمتطلبات المصلحة الوطنية والقومية المشتركة، تمسكت بذلك النهج المتهالك وتلك السياسات الخشبية الفاشلة ومضت في ثرثراتها المعهودة، مما زاد من طمع الكيان الصهيوني بها ورفع عقيرة غريزته العدوانية فقام بغزو واحتلال جنوب لبنان في عام 1978 بذريعة إبعاد المقاومة الفلسطينية عن حدود فلسطين المحتلة الشمالية، ثم عاد وغزا لبنان مجدداً في عام 1982 واحتل عاصمته بيروت التي استبسل أهلها ودافعوا عنها دفاع الأبطال وظلوا يقاومون وحدهم وبدون نجدة “المعتصم” إلى أن كان لهم ما أرادوا وتمكنوا بواسطة المقاومة اللبنانية الباسلة وبيئتها الحاضنة من دحر الاحتلال الغاشم بشكل نهائي في عام 2000 وحرمانه من تحقيق أي من أهدافه السياسية المعلنة وغير المعلنة.

ومن هناك انبثقت آمالٌ أنبأت بقرب حدوث نهوض عربي جديد لم تمكنه إدارة المحافظين الجدد السابقة في واشنطن من بلورة نفسه واستكمال دورة نموه بعدما فاجأت الأمة العربية في عام 2003 بضربة قاسية ومؤلمة تمثلت بجريمة غزو واحتلال العراق والسعي الحثيث لتفتيته وتقسيمه وتهجينه في سياق تهجين عربي شامل، ظناً منها أنها بذلك ستتمكن من كتابة نهاية الأمة. لكن خاب فأل تلك الإدارة الحمقاء عندما هيأت لها عنجهيتها أنها ستكون قادرة على فرض شرق أوسط جديد يحظى بديمقراطية الفوضى الأميركية الهدامة ويكون الكيان الصهيوني العنصري محوره الرئيسي، على حساب إلغاء الوطن العربي وجامعته العربية وكل ما تبقى للعرب الأصيلين من مظاهر تبعث على الأمل باحتمال تحقيق وحدتهم أو اتحادهم أو حتى تضامنهم. فالآمال ما لبثت أن انبثقت من جديد من رحم المعاناة العربية عندما نجحت المقاومة في لبنان  بإنزال هزيمة نكراء بالكيان الصهيوني في صيف 2006، وهو ما اعترف به قادة كبار في هذا الكيان وأكده بيان لجنة “فينوغراد” الصهيونية بشكل واضح وصريح، لتضاف تلك الآمال إلى آمال كثيرة وعريضة سبق أن انبثقت وتبلورت في كل من فلسطين والعراق تجسدت بتصدي المقاومة في البلدين للمشروع الاستعماري والاستيطاني الأميركي – الصهيوني المشترك. وتضاعفت تلك الأمال مع فشل هذا الكيان الغاصب في حروبه الإجرامية المتواصلة التي شنها ضد قطاع غزة الفلسطيني بعد ذلك العام، والتي لم يزل يشنها من وقت لآخر كلما تمكن من الاستفراد به، والتي والحمدلله تُمنى دائماً بالفشل الذريع.

صحيح أن نكبة عام 1948 في فلسطين قد فرخت نكبات ونكسات وهزائم وكوارث ومحن على امتداد 68 سنة، كان من أشدها وجعاً وإيلاماً اقتتال “الإخوة الأعداء!!” الذي كان قطاع غزة الفلسطيني مسرحاً له والذي أدى بأسبابه والنتائج التي تمخضت عنه إلى خصومة بين الضفة الغربية والقطاع، نرجو أن تَكتب “سلطتا الضفة وغزة” خاتمة مفرحة لها في القريب العاجل ليتمكن الشعب الفلسطيني من استعادة لحمته وتكريس وحدته الوطنية التي لطالما تاق إليها.

والصحيح أيضا،ً وهو ما يزيد الطين بلة ويضاعف من الوجع والألم، أن أكثر من نكبة ألمت بالعديد من البلدان العربية في السنوات الأخيرة جعلت هذه البلدان تغير أولوياتها وتدير ظهرها لفلسطين والفلسطينيين والقضية الفلسطينية وتنكفئ إلى همومها ومشكلاتها الداخلية أملاً في تضميد جراحها ووقاية نفسها من نكبات أخرى محتملة قد تحملها إليها الفتن المستوردة من الخارج ومحلية الصنع، التي بدأت تعصف بالوطن العربي منذ عام 2011 تحت مسمى “الربيع العربي” والتي تتواصل حتى اللحظة الراهنة، هذه الفتن التي إن وصلت إلى هذه البلدان فلربما تؤدي إلى تجزئتها وتفتيت شعوبها وترابها الوطني وتحويلها ألى دويلات وولايات ومقاطعات مصطنعة لا حول لها ولا قوة.

واليوم وبعد مرور حوالي ست سنوات على تفجر هذا “الربيع العربي” الذي من الأولى بنا أن نطلق عليه تسمية الخريف العربي الأسود بات بالمستطاع الجزم بأن الكثير من الجماعات الإرهابية المتسترة بجلباب الدين والتدين زوراً وبهتاناً والتي تقف وراءها وتدعمها كل من واشنطن وتل أبيب وتموّلها محميات أمريكية محسوبة زوراً وبهتاناً على الوطن العربي ويرعاها عدد من ملوك ومشايخ وأمراء الطوائف العرب لم تزل تتربص بما تبقى من بلدان عربية ومنظمات وحركات شعبية محسوبة على نهج المقاومة والممانعة، ولم تزل تسعى جاهدة لسلخ مقاطعات منها أو تفتيتها وتجزئتها والقضاء على وحدتها، خدمة للمشروع الأمريكي – الصهيوني المشترك في منطقة الشرق الأوسط وبالخص في الوطن العربي

ومن المؤسف والمدمي للقلوب أن العديد من الدول العربية التي لا ترتبط مع الكيان الصهيوني بحدود برية مشتركة كانت الأسرع إلى الهرولة في السر والعلن باتجاه تل أبيب سعياً لكسب ود حكومتها والعبور من خلالها إلى رضا من تبقى من حثالات المحافظين الجدد المتصهينين في واشنطن، الأمر الذي شجع هذه الحكومة الإرهابية على عقد اجتماع وزاري موسع لها في هضبة الجولان السورية المحتلة لأول مرة منذ احتلالها في عام 1967، في خطوة استباقية ذات دلالة واضحة لاستبعاد الهضبة من أي اتفاق مستقبلي محتمل بشأن الوضع المتفجر في سوريه.

لكن وبرغم كل الظروف الصعبة المزمنة التي اجتاحت الوطن العربي في السابق وبرغم كل ما استجد من ظروف أصعب أضيفت إليها مؤخراً، فإن النكبة التي حلت بفلسطين عام 1948 ستظل فعلاً حاضراً في وجدان الأمة وستظل العودة حقاً مقدساً بالنسبة لجميع الفلسطينيين إلى أن تحين لحظة الانتصار والتحرير وإعلان الاستقلال الوطني والتأكيد على الانتماء القومي. فلا يحسبن أحد في الكون كله أن حق العودة سيغدو في يوم من الأيام ضميراً غائاً أو مستتراً. فهذا الحق لن يكون أبدً للتفريط أو التبديل.

ويستمر الحديث عن النكبة بتفاؤل وأمل كبيرين إلى أن تتحرر فلسطين وتُعلن دولة عربية مستقلة من البحر إلى النهر بعاصمتها القدس.

محمود كعوش

كاتب وباحث فلسطيني

كوبنهاجن في أيار 2016

[email protected]

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.