الرئيسية » تحرر الكلام » موقف حافلة

موقف حافلة

كل شيء هنا يخبرك أنك إنسان و أن الحياة لك حق و ليس فضل ، كل شيء يخبرك أن الأبواب هنا ليس ضرباً من ضروب المستحيل في الوصول إليها ، بل ليس من الصعب أن تعبرها متجاوزاً إياها منطلقاً نحو هدف و حلم آخر يقبع خلف باب آخر ..

صحيح أن ذاك الباب ليس سهل البلوغ و صحيح أن الحياة هنا تخبرك في كل لحظة أنك إن لم تجتهد لتضع لك حيزاً لك في هذه البقعة المتجمدة من العالم عشت أبد الدهر على الهامش تماماً كمن استوطن أرصفة هذا المكان صيفاً و ثلوجه شتاءً ، ليقول لك أنه سواء اخترت هذا الباب أو ذاك فكليهما يقبع مفاتيح الولوج إليهما بين يديك ..

و لكن و بالوقت ذاته ، تشعر بعجزك أمام استيعاب كل المجريات التي تدور من حولك ، فكثيرة هي المواقف و المفارقات هنا التي تجعلك عاجزاً أحياناً عن تفسيرها و تشعر أنك إن أنت حاولت أن تفهمها استشعرت التناقض ليس فيما بينها و حسب بل حتى داخلك لتجعل منك انساناً يتصف بالغباء أحياناً فأنت لم تستطع فك طلاسم تلك التناقضات بعد …

اليوم لم أستطع أن أقف على نافذتي كالعادة ، فنافذتي لم تعد تتصف باسمها بعد الآن ، فحرارة الخارج المرافقة لتساقط الثلوج جعلتها نافذة مع وقف معناها الأول ، فطبقة الجليد التي إلتصقت عليها منذ ليلة أمس كغطاء حريري ناعم حاكته خيرات السماء و حملته أيدي الهواء ليلتحف نافذتي تماماً كغيرها من نوافذ هذا المكان ، جعلت منها نافذة مع وقف التنفيذ ..

لم تكن النافذة و حسب ما يشعرك ببرودة ذاك الصباح ، فيكفيك أن تنظر إلى أنفاس المارة و هي ترسم لوحات مختلفة في الهواء ، لتخبرك تلك الأنفاس الصامتة بأن يومك سيتخلله زيارتين اثنتين لمتحف من الثلج ، أحدهما صباحاً و آخرى في المساء و بعرض مجاني سيستمر أشهر من اليوم دون تحديد تاريخ انتهاء ذاك العرض ، كيف لا و العرض مازال في بدايته ، و خروجك من منزلك لا مفرّ منه بالطبع ، و أما عن نهاية العرض فذاك بيده سبحانه و تعالى ..

لم تكن بداية يومي جيدة كثيرة ، فلم تنحسر تلك الصعوبات عند نافذتي و حسب و لا برودة أطرافي و اقترابها إلى التجمد في درجة حرارة أربع و عشرين درجةٍ تحت الصفر و حسب بل حتى حصّتي الدراسية لا يمكن وصفها بالجيدة على الاطلاق فقد تخللتها قراءة لبعض الصحف الفرنسية الالكترونية ، لنصل إلى عنوان عريض كُتِبَ فيه :

الدولة الاسلامية و ما تقوم به من تجاوزات ..

تلك الكلمتين كانتا كفيلتين بأن تفتح باباً للنقاش و لتضعني موضع الدفاع عن النفس ، الدين و العقيدة ، كمتهم بريء إلا أنه بات في نظر من حوله مجرماً دون سابق إنذار ، لتُخبرك نظراتهم أنّ المتهم مُدان حتى يثبت براءته و ليس العكس ..

لتراودني الاسئلة من كل جانب ، فللأسف في تلك المحاضرة لم يتواجد الكثير من المسلمين ، وليدل حجابي على ديانتي بالطبع ، و يشار علي بالأعين قبل انطلاق سحب من الأسئلة نحوي ، أحدها كان عن معنى الجهاد ، ليأتي السؤال على الشكل التالي ..

ألست مسلمة ، أَوَليسَ لغتك الأم هي العربية ، إذا هيّا و اخبرينا ما معنى كلمة جهاد التي تتداولها الدولة الاسلامية كمصطلحاً يبيح لها كل محرّمٍ على الإنسانية ..

ثم ليأتي السؤال الآخر و الذي يتهمك ليس بديانتك و حسب و يشكك بها و يرميها بأسوء الصفات بل ايضاً يرمي بعروبتك نحو بئر الهلاك حين يقول قائلاً منهم :

هل صحيح أن داعش تلك هي طائفة من العرب …

لم استطع أن أتمالك نفسي أكثر ..

و إذا بي أقطع تلك الاتهامات باعلى صوتي قائلة :

لا ، لا يا سادة ..

أنني مسلمة نعم و لكني أُدِينُ تلك الدولة التي تطلق على نفسها اسم ديانتي ، تلك الدّيانة التي يتّبعها و يدينُ بها ما يتجاوز المليار و نصف ، فيا سادة تلك الدولة المُسمّى بالاسلامية ليست اسلامية البتّة و لا تنتمي لدين السلام بصلة ، و ….

ليأتي صوت يقطع كلماتي قائلاً و لكن ها هي الجريدة قد كتبتها بالخط العريض ..

يا سيدي انت إسباني الأصل صحيح ؟ قلت

نعم أجابني ..

حسن إذن دعني أبسّط لك الأمر …

حين تخرج مجموعة من الأشخاص يفعلون كل التجاوزات التي حرمها مجتمعك و قوانين موطنك و حتى ديانتك فتنتهك الحرمات و تسرق الممتلكات و تزرع الرعب في الطرقات ثم تطلق على نفسها اسم الملاك الإسباني على سبيل المثال فهل ستصدق انهم ملاك ؟

بالطبع لا ، قال مجدداً

حسناً و حين يتهموك الناس بأنك لست أفضل منهم ليس لتورطك بأعمال تلك المجموعة ما عاذ الله و لكن لأنهم استعاروا أصلك عاداتك و ربما ديانتك ملقبين فيها أنفسهم ، فهل تراك حينها بريء أم متهم ..

بريء بالطبع قال و علامات المفاجأة باتت ظاهرة على ملامح وجهه الذي كان هجومي منذ لحظات ..

حسناً إذن ..

إنّ ذاك المثال هو تماما ما يحصل و لكن مع اختلاف التسميات …

أتقصدين أن الاسلام ليس له علاقة بذلك ؟

نعم بل أكثر من ذلك …

يا سيد فلان تلك الدولة الإسلامية ليست بالإسلامية ، لم تكن و لن تكون يوماً …

و كيف ستبررين وجود العرب فيها ، هل ستخبريننا أن العرب الذين انتموا لتلك الدولة مشكوك بأمرهم أيضاً ..

لا ، بالطبع لا ، فالعرب هم بشر مثلهم مثل أي طائفة أخرى في هذه المجرّة ، هناك الحسن الصَّالِح و هناك السيء الطّالح ، منهم من انساق خلف الخطأ مبرراً إياه و منهم من وقف في وجهه محارباً إياه ..

أي أنك تعترفين أنهم مجموعة من العرب..

لا ، أنا لم أعترف بأنّ جميعهم عرب و لو أنّي أقرّ أنّه ربما كان جلّهم عرب ، و لكن و بالوقت ذاته هناك الكثير من الجنسيات المختلفة ، سواء كانت ذو أصل أوربي أو غيرها ، فكثيرون هم الذين قدموا من أصول فرنسية ، بريطانية ، هولندية ، و بلجيكيه ، ناهيك عمّن ينتمون إلى أفغانستان و باكستان و غيرها الكثير الكثير …

لتعود القاعة إلى الهدوء من جديد ، و الوجوه حائرة بعضها لم تعر الموضوع أي اهتمام و أخرى بات عدم التصديق أقرب إلى ملامحها و الأغلب رُسمت على وجوههم علامات الحيرة …

ليقوم استاذ تلك المادة بالتقليب بين الصفحات الالكترونية باحثاً عن موضوع آخر ، فاتحاً بذلك مجالاً آخر للتقاش و كأنه يخبرني قائلاً دون أن يتكلم :

رفقت الجلسة دون النطق بالحكم حتى اشعارٍ آخر ..

قاربت الحصة الدراسية إلى الانتهاء و بدأ الجميع يستعد للمغادرة حين دخلت إحدى طالبات المعهد إلى الصف على حين غرّة تطلب مساعدتنا راكضة لاهثة قائلة :

هناك ، هناك في الرواق ، أقصد ، أقصد في آخر هذا الرواق ..

هدّئي من روعك و أخبريني ما الأمر ؟

قال أحد الاساتذة …

لا أعلم على وجه التحديد ما الأمر و لكن هناك فتاة في آخر الرواق ساقطة لا تستطيع التنفس و لا حتى الحراك و لا أدري ماذا عساي أن أفعل …

هنا كل شيء تغيّر ، فلحظة واحدة و بضع كلمات من تلك الفتاة كانت كفيلة بأن تقلب حال نظام تلك القاعة راساً على عقب ..

تماماً كطاولة شطرنج نسيت في شرفة ما في أحدى ليالي الخريف لتدغدغ أحجارها نسمات ذاك المكان فتبعثرها يميناً و شمالاً مدحرجة إياها خارج تلك الرقعة …

فتلك الأحجار ما هي إلا نحن حينما خرجنا من رقعة تلك القاعة و أما النسمات فكانت حروفاً جُمعت في جملة نطقتها فتاة فحركت أقداماً عديدة راكضة تبحث عن ضالتها علّها تمد لها يد العون ..

العشرات في الرواق ، الاساتذة يهرولون متّجهين نحو مكتب الأمن ، و الطلبة أخذوا ينبّهون بعضهم البعض أن يبتعدوا قليلاً عن الطالبة ليس خوفاً من العدوى بالطبع و لكن رأفةً بتلك الطالبة علَّها تستطيع أن تلتقط بضعاً من أنفاسها المتقطعة ..

و لكن أكثر ما أثار دهشتي هي إحدى أساتذتي حينما جلست على ركبتيها ماسكة يد الفتاة تحثها على التنفس ممررة يدها الأخرى على شعرها ، تسألها إذا ما كانت تستطيع سماعها ، لكن هيهات …

ذكرتني تلك الحادثة بحادثة المطعم ، لم تختلف كثيراً ، فهنا أيضاً لا نعرف جنستها و لا حتى ديانتها و لا طائفتها أو انتمائها …

للحظات أولى على الأقل قبل أن يطلب الأمن معرفة معلومات عنها ليخبر مسعفيها و ذوي أمرها ، حينها علمنا أنها إسبانية الأصل و لكن لم يغير من مجريات الأحداث شيئاً بل على العكس ، فذاك الإسباني كان قد تطوّع بالمكوث مدّةً أطول ريثما تصل سيارة الاسعاف ، فقال مبرّراً حينها ؛ لربما لا تعرف الفرنسية فيحادثها بلغتها التي تفهم إذا ما استعادت وعيها الغائب عن مجريات الأحداث …

لم أشعر أنني بتُّ على مشارف موقف حافلتي المعتادة إلا حين دوى صوت سيارة الاسعاف يعقبه صوت سيارة الاطفاء كما المعتاد هنا ، بعد أن طلبوا منّا الانصراف من ذاك الرواق لكي يستطيع المسعفون مزاولة ما يتوجب عليهم فعله ، لأقف منتظرة حافلتي التي ستقلني و أفكاري كانت استقلت حافلة أخرى متجوّلةً بين أحداث ذاك اليوم المتعاقبة ، تتساءل ما الذي جعل مآلنا ينتهي عند نقطة الإتّهام ، لماذا بتنا في حالة الدفاع الدائم ، لم ، كيف ، و متى بدأ ذلك ؟؟ كيف سيكتب له انتهاء ؟

لأجيب نفسي قائلة ، كيف فالجواب بسيط يكفي أن نرى ظلم أحدنا الآخر كل يوم في مئات من القصص و آلافٍ من الأخبار ، و ذلك كلّهُ فقط ما يصل على مسامعنا بالطبع ، ليس إلا …

و أما متى ؟

فذلك حينما نزعنا الإنسانية من مجريات أيامنا ، حين زاغ قلبنا عن اتباع ديننا الحنيف و عن تطبيق نظرياته التي حفظها ذاك القلب سنين عدداً دون أن يجعلها حقيقة على أرض واقعه لينطبق علينا قوله تعالى ” كالحمار يحمل أسفاراً ” فنحن نعلم من علوم ديننا الكثير و لكن دون العمل بها لنضعها في إحدى زوايا الذاكرة نتشدّق بها إذا ما اضطررنا إليها ، ليس للعمل بها و لكن لاستخدامها كنوع من أنواع الثقافة التي يجب علينا الاطلاع على ما تيسر لنا منها …

و أمّا عن كيف سيكتب له الانتهاء فذلك ما لا يمكن لأحد يقطن على هذه الكرة الأرضية من معرفته الآن ..

فيبدو أن الخطأ يا سادة لا يقبع بنظرة الآخرين الذين لم يروا من ديانتنا إلا شوائب المتشدقين بديننا الحنيف البريء مما يفعلون و حسب بل إنه يقبع في كل واحد منّا ، في ظلم أحدنا الآخر ، في إنسانيتنا التي باتت كإحدى قصص الذاكرة التي غطتها غبار الطّغاة و رمال صحراء الظلم و الظلّام ، فبات العدل دخيلاً على مفرداتها و أمست الرحمة ضائعة بين حبيبات معرفتها المشوّهة …

أعادني من أفكاري تلك أزير حافلتي المُنْتَظَرة منطلقة مبتعدة تخبرني انها ذهبت دوني ، تاركة إيّاي أنتظر من جديد ، لأطلق لقدمي العنان مرّة أخرى ، فحافلة أفكاري لم تجد لها موقفاً تقف عنده بعد …

قد يعجبك أيضاً

رأيان حول “موقف حافلة”

  1. أعجبني المقال
    وأعجبت ببعض الجمل المميزة به ,
    ” الحياة لك حق وليس فضل ”
    فكرة الدفاع عن النفس , المتهم بريْ وبنظرة من حوله جرم
    أعجبتني أيضاً وماهو صلب الموضوع إختيار كلمة ” جهاد ” وتفسيرها
    أنفاس الناس وهي ترسم لوحات مختلفة من الهواء
    أنني مسلمة وأدين تلك الدولة
    والرد عن الملاك الإسباني

    رد

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.