الرئيسية » تحرر الكلام » الكتاب

الكتاب

كان مكان جميل يغلب عليه طابع البساطة و الأناقة مجتمعين معاً ، فقد كانت المقاعد عبارة عن أرائك مصنوعة من الجلد البني اللون و كانت جوانب تلك الأرائك قد طعمت بالخشب المشغول و المتشابه مع التصميم الداخلي للمكان و الجدران في طريقة تطعيمها  و كانت  المصابيح  قد وضعت داخل مكعبات خشبية مفرّغة تحمل أشكالاً هندسية مختلفة لتعكس نور ذاك المصباح راسمةً خيالات جميلة على الحائط الذي تنتمي إليه ، مما يضفي روحاً خاصة على المكان و الاجواء  .

و ما إن تدخل ذاك المكان حتى تشتم رائحة الخشب الظاهرة تملأ تلك الصالة ، و كل ذلك  متزامناً مع احتراق بعض أعواد البخور التي لها رائحة أشبه برائحة شوارع دمشق إذا ما هبت نسمات الليل و غطى الظلام على حواري و بيوت تلك المدينة القديمة منها خاصة ، فقد كانت الرائحة أشبه بعبير الجوري الكائن في بيت دمشقي قديم.

كانت تلك الأعواد تحترق  داخل مدفأة حجرية بنيت داخله لتختلط برائحة الورود التي تشتمها في كل نسمة من نسيم ذاك المساء إذا ما دخل من النوافذ ليزور وحدتك ، فقد كان قد بُني على حواف نوافذ ذاك المكان  أحواض ملأت بأنواع مختلفة من الأزهار   ، لتتوضع تلك النوافذ بأحواضها على اطلالة رائعة متسعة المدى و ليخيل لك للحظة بأنك ترى مدينة اسطنبول بأكملها ، و كأن أحواض أزهار الزينة تلك  توضعت هناك دون استئذان و أخذت بالنمو دون أن يرعاها أحد ، لتلقي التحية صبح مساء على تلك المدينة الجميلة   ، و رحت أسرح بخيالي من جديد وسط أضواء تلك المدينة دون أن أعلم من الذي كنت أخاطبه على وجه التحديد حينها ، قائلة :

لست أنت المدينة الوحيدة التي تمتلك جمالية خاصة و تتزين بأجمل الورد فهناك حيث مدينتي حيث دمشق ستجدين شبيهتك مع فارق مهم أن ما يغلب على زينة دمشق هي تواجد تلك  الزهرة البيضاء الصغيرة التي تحمل من نقاء شعبها الكثير و من إلتفاف بعضهم على بعض الكثير الكثير فتلك الزهرة تتزين بدمشق لا تزينها فاذا ما نظر المرء إليها يشعر بأن أوراقها تنظر إليه ملقية التحية أم تراها كانت تنظر نحو شوارع دمشق  لا نحونا لا أدري على وجه التحديد  ، فهي تسعى جاهدة للخروج خارج أسوار منازلنا و كأنها تشتاق إلى قاطني تلك المدينة و كأنها تراقب المارّة و تهديهم عبيرها ذاك  ..

و صحيح أن  تلك الزهرة البيضاء اللون صغيرة في حجمها إلا أنها تمنحنا من الدروس الكثير  فهي تخبرنا  عن تواضعها بالرغم من رائحتها الفواحة و التي إذا ما  زارت إحدى الأماكن حتى راحت تضفي عليه دفئاً جمالاً  طمأنينة و رائحة عذبة .

 رائحة بتنا نشتاق اليها و دفئ باتت برودة الأيام تنسنا حتى ذكراه ،   فإن بياض تلك الزهرة  بات في يومنا هذا  ملطخ بالحمرة ،  زهرة أمست خجلة من النمو في شوارع دمشق فتُراها خجلة من تساقطها على ارضنا التي بات كل موضع فيها قد كُتب له بأن يشهد سقوط شهيد أو ربما ليشهد  بقعة دم طاهرة نزفت من جريح فيسطّر ذلك مؤرّخاً ما يجري على الأرض ،  لتصبح تلك الزهرة خجلة من شوارعنا و جدراننا ، بيوتنا القديمة و تاريخنا بل  حتى باتت تخجل  من أناسنا ..

رحت أهرب من أفكاري مجدداً مبعدة ناظري عن تلك الاطلالة الرائعة  هاربة من عيون الناس أمسح دمعة كانت قد هربت من عينيّ لأجلس على إحدى تلك الأرائك المريحة علً تلك الراحة المستعارة تنسيني أو ربما تلهيني عن الحنين إلى دمشق ..

و إذا بهاتفي يعلو صوته معلناً ورود اتصال ، و ما إن أغلقت سماعة ذاك الهاتف حتى رحت أنظر إليه مخاطبة إياه قائلة  : لقد مر وقت طويل على سماع صوت أحبتي كما كنت قد عهدته يوماً في سالف الزمان فإنني أصبحت في الآونة الأخيرة أرى خلف كلامهم حزن جماً و وحدة قاتلة أم لعله همّ اعتلاهم أو ربما كل ذلك جمعاً …

 فكم اشتاقت اذناي لصوت ضحكات قلبهم و ابتسامة روحهم لا تلك القهقات التي تخبئ خلفها آهات و آهات و لا تلك الابتسامة التي ترسم على وجوههم خطوط من العمر لترى و كأن كل واحد منهم قد ضوعف عمراً فوق  عمره ،  و اذا بي ابتسم متمتمة لنفسي متخوفة في الوقت ذاته متسائلة أتراني كنت  أتحدث عنهم أم عني يا ترى ..

طلبت فنجاناً من  قهوتي المعتادة علّي أنفض من على كاهلي غبار أحاديثي الوهمية تلك  قبل أن أتناول كتاباً  كنت قد بدأت بقراءته قبل أيام ، ليؤنس وحدتي ،  و إذا  بجملة استوقفتني لحظة ساعة أم  لعله عمر مضى و أيام من العمر قادمة  كُتب لها المضي في هذه الغربة دون ميعاد عودة و دون تاريخ لانتهاء صلاحية تلك الغربة  لا أعلم ، جملة كان الكاتب يصف حال بطل قصته حين كان يسافر متنقلاً من بلد الى آخر لينتهي به المطاف في دمشق .

 فمن أحداث تلك الرواية كان هناك حدث أساسي  لأحد أبطالها و الذي كان يبحث عن البطل الرئيسي لتلك القصة و كان يدعى ” سلطان ”    فقد كان قد أخذ على كاهله مهمة البحث عن بطل تلك الأحداث و الذي يلقب ب ” شمس ” …

و بعد أن استغرق بحثه ذاك  فترة ليست بالقليلة كما وصفت الكاتبة بالطبع ، حظى بملاقاته أخيراً في دمشق ، وقد كان ” سلطان ” قد عزم على إقناع  “شمس ” و  إعادته إلى  مدينة قونية  و التي كان قد أقام بها  مدة من الزمن  قبل أن يغادرها نحو  محطته الاخيرة في دمشق لحادث طرئ على احداث تلك القصة …

 لتبدأ تلك الأحداث كما يلي  :

على لسان ” شمس “

دمشق ١٢٤٧ للهجرة “

عندما اكتسى الربيع حلته في دمشق و بعد أن أمضيت عشرة أشهر على مغادرتي قونية

كنت ألعب الشطرنج مع ناسك مسيحي يدعى فرانسيس تحت سماء زرقاء صافية وجدني الولد سلطان…

فتمتمت و قد اعتلاني الهم على حين غرة و اعتصر قلبي حزناً لا أعلم  كيف فاض داخلي ليغرقني وسط ديمومة خيالاتي مجدداً قائلة :

لقد اصبحنا نلعب الشطرنج على دمشق و ليس في دمشق ..

و بعد الكثير من الالحاح الى درجة التّوسل و التّرجي  من ذاك الصديق الذي يدعى سلطان للعودة معه رد بطل الرواية شمس ما يلي :

” أريد أن أتابع ترحالي في المعمورة و أن ألتقي بأناس آخرين و أرى مدن جديدة لقد احببت دمشق “

 فرحت أحدث نفسي من جديد و كأني أخاطب تلك الشخصية و كأنها قابعة أمامي تجلس على أحد أرائك ذاك المكان  قائلة : لقد أحببتها و لم تمكث بها سوى عشرة من الشهور فما بال الذي ولد و ترعرع و مشى في شوارعها ليُكتب له أن يغادرها يوماً بجسده تاركاً عقله و قلبة و جزء من روحه هناك ؟؟

” ثم استأنفت  الكاتبة في سرد قول شمس حين قال : “و بوسعي المكوث فيها حتى الشتاء القادم “

فقلت : بوسعي أن أمكث فيها ما بقي من أيام عمري القادمة ..

ثم أردف قائلاً : ” فالانتقال الى مكان جديد غالباً ما يدخل في روح المرء إحساساً مخيفاً بالوحدة و الحزن”

 فقلت بابتسامة تخفي ورائها كثيراً من الألم :

بل إن الانتقال يشعرك دائما بالوحدة و الحزن ،  خاصة حين يكون ذاك الترحال قسري  لم ينبع من داخلك و لم يخضع لإرادتك  …

ثم اردفت الكاتبة على لسان “شمس” من جديد : “لكن بما ان الله معي فاني أشعر بالرضا و السعادة في خلوتي “

فرجوت الله في نفسي أن يكون معي فإني قد شعرت بالعجز في تلك اللحظة و اذا بدمعة أخرى غافلتني  لتسقط على ذاك الكتاب فتوقظني من تلك المحادثة مجدداً  فرحت اغلق الكتاب على عجل موقنة حينها   أنه و مهما حاول المرء نسيان واقع فرض عليه سيجده في كل شي في أضواء مدينة غريية و إطلالتها ،  في زهرة  و رائحة مكان ما أو ربما في  اغراضه و أصوات أحبته ،  أهله  و أصدقائه بل حتى في كتبه و خيالاته   ..

اسطنبول _ تركيا

17 _8_ 2014

ملاحظة : الاقتباس مـأخوذ من رواية ” قواعد العشق الأربعون” للكاتبة ” إليف شافاق “

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.