"مبروك أنتِ حامل".. ثلاث كلمات فقط كانت كفيلة بنقل "هناء الزعانين" صاحبة الـ"26" ربيعا من عالم الصمت وساعات الانتظار إلى التحليق فى عوالم من الفرح بلا نهاية.
هذه الكلمات القليلة لم تدفع عيونها إلى سكب عبرّات السعادة وحسب؛ بل حولّتها إلى أشهر زوجة أسير من غزة؛ بفضل أول حالة حمل لزوجة أسير من القطاع بواسطة "نطفة" مهربة (سائل منوى) من داخل السجون.
فى منزلها ببلدة بيت حانون شمالى القطاع، المحاصر إسرائيليا منذ أكثر من ست سنوات، جلست زوجة الأسير "تامر الزعانين" على كرسى بهدوءٍ مدروس أوصاها به طبيبها الخاص.
وهى تتحدث إلى "الأناضول"، التى كانت من أوائل الوافدين إلى منزلها، أخذت "هناء" تتحسس بطنها بفرح انتظرّته سبع سنوات، متمنية أن تمر شهور الحمل سريعا لتلتقى من سيناديها "ماما".
تخاف "هناء" على جنين بدأ لتوه فى التكوين، وتُغمض عينيها المرسومتين بإشراق لم يخفى غطاء وجهها بريقه.
وبعد أن شكرت الله على هذه الهدية، التى كانت على موعد معها مساء الخميس الماضى 16 مايو الجارى، تبدأ حديثها لمراسلة "الأناضول"، قائلة: "الآن أشعر بالحياة، لم أكن أصدق أن عملية الزراعة (تلقيح بويضة الزوجة بحيوانات الزوج المنوية) التى جرت لى قبل أسبوعين ستتكلل بالنجاح من أول مرة".
الزوجة العروس، التى تركها شريك حياتها بعد ثلاثة أشهر فقط من الزواج لتُغيبه سجون إسرائيل، شعرت آنذاك بغصة لأن ما طفل يؤنس وحدتها، ويهزم ليل انتظارها الطويل.
فقد اعتقل زوجها عام 2006 أثناء اجتياح القوات الإسرائيلية لبيت حانون، وحكم عليه بالسجن 12 عاما؛ بتهمة مقاومة القوات الإسرائيلية.
اليوم، وبعد سبع سنوات من اعتقاله، تبدو "هناء" فى قمة سعادتها وهاتفها يرن لتتلقى اتصالا من هاتف محمول هربه أسرى إلى داخل السجن، حيث يقبع زوجها.
يخرج صوتها ضاحكا، فيما كاميرا "الأناضول" تتابع حوار "هناء" وزوجها الأسير المملوء بالشغف.. تُخبره بأنها وزعت الحلوى على الأهل والأقارب والجيران احتفالا بالحمل، فيرد بأنه فعل ذلك، بل وقدّم أفخر الحلويات داخل السجن.
تضم إلى صدرها ورقة مكتوب عليها "ألف مبارك".. هذه الورقة، التى تتمنى أن يشاهدها زوجها، حيث تكشف عن نتيجة الفحص المؤكدة لحملها، لا بل لحُلمهما، كما تحب أن تقول.
يُطالبها زوجها بالراحة فتعده بذلك، ترفع بصرها إلى شجرةٍ عنب تدلت قطوفها فيما قلبها يهمس بدعاء سرى لله.
وخلال تهريب "نطفة الزوج"، الذى وصل بسلام مع أحد الأسرى المحررين، كانت أسرة "هناء" تنشغل بإخبار الحارة والجيران بما تنوى القيام به.
وتستدرك: "أخذنا الإذن الشرعى، لكن نبقى فى مجتمع محافظ، والحمد لله الجميع كان يهنئنا قبل خروج نتيجة التحليل، ويصفون ذلك بالحق الذى يجب انتزاعه".
وكان العديد من علماء الدين الفلسطينيين، مثل المفتى عكرمة صبرى، والقيادى فى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) حامد البيتاوى، قد أصدرا فتوى تبيح لنساء الأسرى الحمل من "نطفة" أزواجهن المهرب من السجون الإسرائيلية.
تتنفس الزوجة بعمق وهى تحلم بمولود تقبل جبينه، هذا الذى سيحمل اسم "حسن" إن كان ذكرا على اسم جده الشهيد، فيما سيكون اسمها "هبة" إن كانت أنثى، فهى هبة السماء لأمها وأبيها داخل الأسر، بحسب "هناء".
وسيكون حمل "هناء" الأول لزوجة أسير فى غزة، بعد نجاح أربع حالات حمل لزوجات أسرى من الضفة الغربية، بواسطة نطف مهربة.
وتصف زوجة الأسير تهريب "النطفة" إلى غزة بـ"المقاومة" التى لا تشبهها أية مقاومة، دون الإفصاح عن كيفية التهريب، التى تتم بطريقة معقدة لا يتم الكشف عن تفاصيلها لدواعٍ أمنية، حتى وصلت العينة بسلام إلى المختبر.
وكان نجاح أول تجربة إنجاب من خلف القضبان، لزوجة الأسير عمار الزبن، قد دفع بالعديد من الأسرى إلى تهريب نطافهم من داخل السجون، لإجراء عمليات تلقيح.
وكان مهند الزين الطفل الأول المولود عن طريق تهريب "النطفة" بمثابة كلمة السر التى فتحت الطريق أمام مزيد من زوجات الأسرى لـ"الحمل عن بعد"، وتحقيق أحلامهم بالأمومة.
وفى الضفة، نجحت أربع حالات لزوجات أسرى، هم الأسير أسامة السيلاوى من جنين، وعلى نزال من قلقيلية، ورأفت القروى، والأسير عبد الكريم الريماوى من رام الله، وجميعهم من الأسرى ذوى الأحكام العالية بالسجن.
وترى "هناء" أن ما يفعله الأسرى من تهريب "النطفة" هو "انتزاع لحقهم فى الحياة، وأن الأسرى المتزوجين، والذين يمثلون قرابة 30% من مجموع الأسرى عموماً (أكثر من خمسة آلاف أسير) يحلمون بأطفالٍ يهزمون الحرمان القسرى من أزواجهن".
ولا تريد زوجة الأسير الغزى اليوم، كما تقول، سوى "أن تمر عقارب الوقت بسرعة لتحتضن ثمرة الحب الصادق وحنين الانتظار، وترى رضيعا سبق والده إلى الحرية".
ويصف "رأفت حمدونة"، الأسير المحرر، مدير مركز الأسرى للدارسات، أول حالة حمل عن بعد لزوجة أسير من غزة بـ"الخبر الرائع، الذى يُجسـد المقاومة الفعلية للأسرى".
ويمضى "حمدونة"، قائلا فى حديث لمراسلة "الأناضول"، إن "هذا الخبر الأول من نوعه فى غزة فتح كل أبواب الأمل لدى زوجات الأسرى المحرومين من الأمومة".
ويشدد على أن "تهريب النطف إلى غزة يعد مقاومة من نوع آخر، لاسيما وأن الطريق (من السجون) أطول (إلى القطاع) مقارنة بالضفة, والتعقيدات أكثر".
وبهؤلاء الأطفال الخارجين من رحم السجون يرى "حمدونة" أن "الأسرى يتحدون الاحتلال، وينسجون قصصا للتاريخ عن الإبداع فى فن الحياة".