الرئيسية » تحرر الكلام » غلاء الأسعار وأثرياء الثورة …الأثرياء الجدد

غلاء الأسعار وأثرياء الثورة …الأثرياء الجدد

 

حين حقق الاقتصاد اتونسي نسبة نمو سلبية تقارب 1.9% خلال سنة 2011 إبان إندلاع الثورة قال الخبراء والمحللون أن ذلك من تداعيات الثورة في سنتها الاولى وأن للثورة ضريبة لا بد من دفعها وهذا الاستنتاج صحيح وغير مجانب للصواب ولكنه تحليل منقوص وقاصر  ولا ينفذ لجوهر الاشكاليات والمعوقات  التي بسببها وصلنا  لأضعف نسبة نمو إقتصادي منذ الاستقلال عن المستعمر الفرنسي

 إذ أنه طوال تاريخ تونس الحديث تأرجحت نسب النمو الاقتصادي ما بين 17.76 %  سنة 1972 ( حكومة المرحوم الهادي نويرة : العصر الذهبي للإقتصاد التونسي )  وما بين -1.4% سلبي سنة 1986  (حكومة المرحوم الاستاذ محمد مزالي )   وما وصل إليه مؤشر النمو بتونس خلال سنة 2011 هو مستوى قياسي سلبي بكل المعايير .

 

زيادة الأجور أولا والتهريب ثانيا سبب غلاء المعيشة:

 

   لقد سبق أن تعرضنا في مقالات سابقة إلى أن شطط الأسعار وغلاء المعيشة التي نشهدها في تونس حاليا إنما هي نتيجة منطقية وميكانيكية لموجات الزيادة في الأجور التي تمت منذ سنتين الى الآن  دون أن تتبعها زيادات في الانتاج وأن الزيادة في الاجور بنسب تتراوح بين 5% و 7% في بلد لم يتجاوز نموه الاقتصادي 1.9% سلبي سنة 2011 و3.6% إيجابي سنة 2012  يعني باللغة الاقتصادية والمالية تسارع التضخم المالي وغلاء الأسعار الذي يكون من أول ضحاياه الطبقات الفقيرة والمهمشة من المجتمع التونسي.

  وهذه الزيادات في الأجور التي تمت تحت ضغط نقابي مسيس لم نستطع الحكومات الانتقالية المتتالية  من مجابهته مخافة الانفلات وتدهور الاوضاع الأمنية خاصة بعد أن هدد أحد قادة إتحاد نقابات الشغل بإيقاف عجلة الاقتصاد إن لم تتم الاستجابة للمطالب النقابية

 

   إن غلاء الأسعار ناتج أساسا من عدم التوازن والتوافق بين الكتلة النقدية ( إقتصاد نقدي  econmie monetaire) والسلع والخدمات المقابلة لها ( إقتصاد حقيقي economie reelle)  وهذه المعادلة الحسابية من أبجديات علوم الاقتصاد والتوازنات المالية  وقد زاد الطين بلة إستغلال عصابات التهريب والتجارة الموازية للإنفلات الأمني والتراخي العام وسارعوا بعقد صفقات تهريب للسلع والبضائع بأرقام  خيالية تعجز الأذهان عن إستيعابها مما أربك السوق التونسية وأضر  بالمستهلك التونسي وهدده بمعيشة ضنكى

 

1.   الأثرياء الجدد سرقوا الناتج الوطني لسنة 2011:

 

مع تحول الثورة الليبية ضد العقيد القذافي من ثورة سلمية إلى ثورة مسلحة وتدهور الأوضاع الامنية في الدولة الشقيقة ليبيا  كان شعب تونس  خير سند لها وخير عون وهذا ليس رياء  أو تفاخر فلا شكرعلى واجب     بل إن حقيقة التاريخ والجغرافيا تجعل من تونس وليبيا بلدا واحد وشعبا واحدا زمن الازمات  وذلك على إمتداد تاريخهم الشترك  وقد أستغلت أنذاك عصابات التهريب والسوق السوداء من هذا الجانب وذاك هشاشة الأوضاع الأمنية  للقيام بعمليات تهريب للسلع والبضائع واسعة النطاق حتى  أصبحت السوق التونسية تقريبا هي المزود الوحيد والحصري للسوق الليبية خاصة على مستوى المواد الغذائية والصناعات التحويلية وغزت السلع المنتجة تونسيا الاسواق الليبية حتى أنه زمن الحرب لا تكاد تجد في المحلات والمغازات الليبية إلا المنتوج التونسيلكن للأسف هذه البضائع و المنتجات وصلت للشقيقة ليبيا عبر قنوات التهريب والتجارة الموازية التي تحترف وتتفن فنون التهريب وتجاوز الحدود خلسة و دون تصريح ديواني وذلك بالتواطؤ مع اللوبي الفاسد المكون من بقايا نظام بن علي وخدام العائلة المخلوعة التي كانت تسيطر على مقدرات البلاد الاقتصادية

 

إنه من المفزع حقا والمثير للريبة أن أموالا طائلة وبمبالغ خيالية ذهبت إلى جيوب تجار السوق السوداء وعصابات التهريب وحرمت الاقتصاد التونسي سنة 2011 من نقاط نمو إضافية وهذا مما يفسر نسبة النمو السلبية التي سجلها الاقتصاد التونسي تلك السنة ويفسر جزئيا أيضا الانهيار المتتابع لاحتياطي العملة الاجنبية خلال تلك الفترة بإعتبار أن معظم عمليات التصدير تمت دون المرور عبر قوانين التجارة الخارجية مما أضعف إحتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي التونسي وأجبره على الدخول في مفاوضات مع الهيئات المالية الدولية للإقتراض الخارجي بقصد تمويل الاقتصاد وتحقيق الحد الأدنى من التوازن المالي

 

إن هذه الأموال الطائلة أستفادت منها طبقة جديدة صاعدة يمكن أن نطلق عليها طبقة الأثرياء الجدد .. أثرياء الثورة  الذين إستغلوا أوضاع الانفلات وغياب الدولة لتحقيق مكاسب خيالية  خارج الأطر القانونية والمتاجرة في الممنوعات وهذه الطبقة التي نراها ولا ترونها تهدد مستقبل الاقتصاد التونسي ومستقبل الثورة ويكفي أن نورد بعض عناوين الصحف الصادرة هذه السنة 2013   لتقفوا على  مدى خطورة هذه الظاهرة  وآثارها السرطانية على إقتصاد البلاد

 (القيروان:القبض على شخصين و بحوزتهما 17.5 كغ من الزطلة ….نابل : حجز 5 قذائف بأحد المنازل والقبض على حاملها ….القبض على "تونسى" و"ليبى" بحوزتهما 17 جوازا ليبيا مزورا….قصرهلال : القبض على عصابة بحوزتها 500 مليون دينار وكميات من الذهب …..الوحدات الأمنية تلقي القبض على عصابة تهرب العملة وأخرى تسرق القطع الأثرية ….القبض على عصابة بصدد تسويق 20 كلغ من المخدرات …

المنستير:القبض على عصابة مختص في تهريب العملة …. )

 

من أجل مشروع وطني إقتصادي: 

 

يجب على التونسيين إنقاذ الاقتصاد من الأثرياء الجدد أثرياء الثورة الذين إستغلوا الأوضاع الانتقالية  بطريقة إنتهازية لتكوين شبكات تهريب منظمة وعلى درجة كبيرة من الإحتراف وعلى حكومة الترويكا واجب القيام بإجراءات عاجلة لوقف نزيف الاقتصاد التونسي وإذا أرادت الاستثمار فعليها إبتداءا الاستثمار في الأمن ومكافحة عصابات التهريب والجريمة المنظمة لأنه لا حديث عن إقتصاد أو تنمية ونمو إلا في كنف الامن والاستقرار                                                                                                                 

 إن الاجراءات الاخيرة لمقاومة غلاء الاسعار بتحديد سقف أعلى لسعر بعض المواد الاساسية إنما هي اجراءات وقتية تسكينية ولا تنفذ لجوهر الموضوع لأنه ما دامت التجارة الموازية تفعل فعلها في النسيج الاقتصادي بدون ردع ولا حزم فان مثل هذه الاجراءات ذات فاعلية محدودة في الزمن ولا تفي بحاجة المستهلك التونسي

 

 إن تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المنشودة ليست إستثمارات وأموال فقط أو تشييد الطرق والقناطر فقط أو إحداث مواطن شغل للمعطلين فحسب كما يعتقد البعض بل إن العدالة والتنمية ثقافة وعقلية أولا وأخيرا وهي منظومة ثقافية إنتاجية عقلانية تنبني على التصرف الرشيد والمردودية البشرية والمالية وعلى إعادة الاعتبار لنظرية القيمة بعيدا عن التوهمات الايديولوجية والمزايدات السياسية .

 

وفي إنتظار مشروع وطني تونسي يأخذ بعين الاعتبار كل هذه المعطيات لا بد من تطبيق القانون بكل حزم وثبات وبدون تراخي والضرب بيد من حديد على رؤوس عصابات التهريب والتجارة الموازية لأنها تمثل عصابات إجرامية كاملة الأوصاف وهي خروج عن عن العرف والقانون وإمتداد لثقافة التواكل والانتهازية والاستثراء بغير وجه حق  على حساب وطن وشعب وثورة وإن غدا لناظره قريب

 

 

الاستاذ عادل السمعلي
كاتب من تونس ومحلل إقتصادي 

 

 

 

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.