أن تكون مفوضا من الله ..!

 

في عام 1492 ، سقطت مدينة غرناطة آخر معاقل الاسلام في أسبانيا اذ انهزم أبو عبد الله آخر الملوك العرب أمام الجيش الذى أنشأه الملكان الكاثوليكيان فرديناند وايزابيلا وبالرغم من توقيع اتفاقية تعهد فيها الملكان باحترام عقائد المسلمين واليهود الا انهما لم ينفذا تعهدهما فاتخذا قرارا بطرد اليهود من اسبانيا ( اعتذر عنه الملك خوان كارلوس بعد أربعة قرون ) أما المسلمون فقد تم تخييرهم بين التنصير و القتل . لقد تم قتل آلاف المسلمين الذين رفضوا التنصير ، قطعت رؤوسهم جميعا رجالا ونساءا وأطفالا واعتنق مسلمون كثيرون المسيحية خوفا من القتل ، هؤلاء المتنصرون تم اطلاق عليهم اسم أسباني مهين لتحقيرهم هو LOS MORISCOS الموريسكوس
 
 
على أن اكراه المسلمين على اعتناق المسيحية لم يكن الا بداية العذاب فقد اتخذت السلطات اجراءات مشددة متوالية بغرض التضييق عليهم وقمعهم وافقارهم والقضاء على الثقافة والعادات الاسلامية تماما مما أدى الى تمرد المتنصرين أكثر من مرة ثم لاحظت السلطات أن متنصرين كثيرين لا زالوا يمارسون شعائر الاسلام سرا . هنا زاد الأمر تعقيدا فالمتنصرون من الناحية القانونية مسيحيون كاثوليكيون مثل بقية الاسبان لكنهم من الناحية العملية مسلمون سرا الأمر الذى ينذر بامكانية تعليم أولادهم مباديء الاسلام مما سوف ينتج عنه جيل جديد من المسلمين لا ترغب السلطات في وجوده . أضف الى ذلك الشكوك القوية التي ثارت في الكنيسة حول مدى صحة عقيدة المتنصرين .. هل يقبل المسيح ايمانهم أم أنهم سيظلون خارج حظيرة الايمان ..؟!
 
 
عندئذ ظهرت شخصية غريبة غامضة لعبت دورا أساسيا في تطور الأحداث . راهب من طائفة الدومينيكان اسمه " بليدا " اشتهر بالورع و التقوى والحرص البالغ على نقاء العقيدة الكاثوليكية . بعد تفكير طويل توصل الراهب بليدا الى أنه من المستحيل أن تعرف الكنيسة على وجه القطع اذا كان المتنصرون مؤمنين حقا بالمسيح أم أنهم يتظاهرون بالمسيحية خوفا من الموت وبالتالي فان الحل الوحيد أن يتم عرض هؤلاء المتنصرين على المسيح ليقرر بنفسه اذا كانوا مخلصين في ايمانهم أم منافقين .
 
العرض على المسيح بالطبع لايكون الا في الحياة الأخرى .هكذا اقترح الراهب بليدا أن يتم قتل المتنصرين جميعا فورا وبذلك تصعد أرواحهم بعد الموت الى المسيح ليقضى في صحة ايمانهم . الغريب أن الكنيسة الكاثوليكية وافقت على خطة الراهب بليدا وتحمست لها وكان القساوسة على أتم استعداد لقتل مئات الألوف من المتنصرين تقربا الى الرب وحرصا منهم على نقاء العقيدة الكاثوليكية لكن الحكومة الأسبانية اعترضت على قتل هذه الأعداد الضخمة من المتنصرين تحسبا لمقاومتهم التى قد تؤدى الى ارهاق السلطات .. قررت الحكومة عندئذ طرد المتنصرين نهائيا من أسبانيا وقبل الراهب بليدا هذا الحل بالرغم من أنه كان يفضل القتل الفوري ..
 
 
ويصف المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون ( 1841ـ1931) في كتابه حضارة العرب هذا الحدث فيكتب :
" أمرت الحكومة الأسبانية في عام 1610 باجلاء العرب عن أسبانيا فقتل أكثر مهاجرى العرب في الطريق ، وأبدى ذلك الراهب البارع بليدا ارتياحه لقتل ثلاثة أرباع هؤلاء المهاجرين أثناء هجرتهم ، وهو الذى قتل مئة ألف مهاجر من قافلة واحدة كانت مؤلفة من 140000 مهاجر مسلم حينما كانت متجهة الى أفريقيا "
 
 
لابد هنا أن نتساءل:كيف يوافق رجل دين على قتل كل هذا العدد من الأبرياء لمجرد أنهم مختلفون عنه في العقيدة بغير أن يخالجه أدنى شعور بالذنب؟!
 
كيف يتفق الايمان بالمسيح الذى علم الانسانية السلام والمحبة وهذا المزاج الدموي الذى أظهره الراهب بليدا ؟!
 
.. الاجابة أن الايمان بأى دين لا يجعلنا بالضرورة أكثر انسانية . طريقة فهمنا للدين هي التى تحدد سلوكنا . قراءتنا للدين هي التي تعلمنا التسامح والعدل والرحمة وهي أيضا التى قد تدفعنا الى التعصب والكراهية والعدوان.
 
اذا اعتبرنا أن الأديان جميعا مجرد طرق مختلفة للوصول الى معرفة ربنا سبحانه وتعالى ، اذا تذكرنا أنه لافضل لنا في أن نكون مسلمين أو مسيحيين أو يهودا اذ أننا غالبا ما نورث أدياننا عن أهلنا ،
 
لو تذكرنا أن الله سيحاسب الناس على أفعالهم قبل أن يحاسبهم على معتقداتهم الدينية ..
 
لو كان هذا مفهومنا للدين فاننا قطعا سنتسامح مع أصحاب الاديان الأخرى وسندافع عن حقوق متساوية للبشر جميعا بغض النظر عن أديانهم .
 
أما اذا كنا مؤمنين أن ديننا هو الحقيقة الوحيدة المطلقة التى تسمو على الأديان الأخرى , اذا اعتقدنا أننا الوحيدون المؤمنون الأطهار وأن أتباع الأديان الأخرى كفار أنجاس يعيشون في الضلال
 
 
عندئذ ، منطقيا ، لايمكن أن نعترف للمختلفين عنا بنفس حقوقنا وسوف يدفعنا تعصبنا الى الشعور بأننا مفوضون من الله لكى نعلى كلمته وننفذ ارادته . هذا التفويض الالهي الكاذب سيدفعنا الى التعالى على الاخرين والاعتداء على حقوقهم وقد يدفعنا الى ارتكاب أبشع الجرائم بغير أن نستشعر الذنب لأننا نعتقد أننا ننفذ ارادة الله في الناس .. كان الراهب بليدا مستريح الضمير وهو يوافق على قتل الأبرياء لأنه أحس أنه ينفذ ارادة الله التى قضت بأن تكون أسبانيا بلدا كاثوليكيا لامكان فيها للكفار المسلمين و اليهود .. هذا الشعور بالتفويض الالهي تكرر كثيرا عبر التاريخ الانساني وعادة ما أدى الى جرائم بشعة ارتكبت باسم الدين .
 
هنا لن تجد فرقا بين الراهب بليدا والارهابي أسامة بن لادن .
 
بالرغم من اختلاف العصر والظروف الا أن تفكيرهما واحد ورؤيتهما للعالم واحدة .. كلاهما يشعر أنه مفوض من الله لينفذ ارادته ويدافع عن الدين وكلاهما يرى المختلفين عنه في الدين أقل منه في القيمة الانسانية وكلاهما يعتقد في المسئولية الجماعية ..
 
 
العرب جميعا في نظر الراهب بليدا مسئولون عن ما يفعله أى عربي والغربيون جميعا في نظر أسامة بن لادن مسئولون عن الجرائم التى ارتكبها الجنود الامريكيين والاسرائيليين ضد العرب والمسلمين .
 
 
في فكرة التفويض الالهي لامكان للمسئولية الفردية . لايمكن أن يقتنع بن لادن أن هناك في الغرب ملايين الناس يستنكرون جرائم الجيش الأمريكي ومستحيل أن يقتنع الراهب بليدا أن من بين ضحاياه مسلمين كان بامكانهم أن يكونوا مواطنين صالحين. .. قيمة حياة الآخرين وحقوقهم محذوفة تماما من ذهن المفوض من الله .
 
 
حياة غير المسلمين لا تهم بن لادن كثيرا تماما كما لم يهتم الراهب بليدا كثيرا بحياة العرب . الاثنان قتلا آلاف الأبرياء وهما يظنان أنهما يؤديان عملا طيبا سيزيد من ميزان حسناتهما ويقودهما الى الجنة ..عندما تشعر أنك مفوض من الله لن تقبل من الآخرين أبدا أن ينتقدوا تصرفاتك أو يحاسبوك ، مهما كان كلامك جميلا لن تحترم المختلفين عنك ولن تعترف بحقوقهم. ستحس أنك دائما على حق لأنك تنفذ ارادة الله ، لن يكون بامكانك أن ترى الواقع بطريقة صحيحة ، ستعيش دائما في عالم افتراضى ثابت مغلق لا يتطور ولا يتغير ،
 
سوف تنكر الحقيقة مهما تكن ساطعة وسوف تتعامل بعدوانية مع كل من يشكك في عالمك الافتراضى لأنك تعيش داخله واذا فقدته سوف تنهار حياتك. هذه الفكرة ربما تفيدنا في فهم سلوك الاخوان المسلمين وكثيرين من المنتمين للاسلام السياسي .
 
 
بعد شهور من وصولهم الى السلطة يتساءل المصريون : كيف يزعم الاخوان أنهم يمثلون الدين وهم يكذبون باستمرار ويخونون العهود جميعا ويتواطئون من أجل تحقيق مصالحهم حتى لو كان الثمن دماء الشهداء وسقوط الدولة ذاتها ..؟!. لماذا لايحس الاخوان بالذنب وهم يضربون ويعتدون ويسحلون ويقتلون من يختلف معهم ..؟!
 
الاجابة أن الاخوان لايعتبرون أنفسهم سياسيين يخطئون ويصيبون بل يؤمنون أن الله قد أرسلهم لانقاذ مصر من الكفر والضلال . انهم يعتبرون أنهم ينفذون ارادة الله وبالتالي لا يمكن محاسبتهم طبقا لمعايير الناس العاديين الذين يتصرفون بوحي من أفكارهم .. الاخوان يعتقدون أن الله قد فوضهم لاعلاء كلمته وتنفيذ أحكامه وبالتالي فان كل من ينتقدهم أو يختصمهم سياسيا ، في نظرهم ، يعتبر عدوا للاسلام لأنهم هم الاسلام ولا أحد سواهم يمثله. كل موقف نعيشه الآن يسقطه الاخوان على وقائع التاريخ الاسلامي فيكونون هم المسلمين وخصومهم أعداء الله .
 
 
منذ أيام كتب أحد الاخوان مقالا شبه فيه اشتباكات المقطم بغزوة أحد وبالطبع كان الاخوان يمثلون صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بينما خصومهم يمثلون الكفار .
 
 
هكذا هي الصورة الذهنية للخلاف السياسي عند الاخوان . هم المؤمنون الذين يريدون تنفيذ أوامر الاسلام بينما كل معارضيهم فلول نظام مبارك أو عملاء للغرب والصهيونية أو اباحيون كارهون للدين ..
 
المشهد في مصر واضح تماما . رئيس منتخب تحول الى ديكتاتور لحساب جماعته فدهس القانون وفرض ارادة مرشد الاخوان على الناس جميعا وهو يستعمل نائب عام غير شرعي للتنكيل بكل من يعارضه وقد تورطت أجهزته الأمنية في قتل مائة مواطن وتعذيب الآلاف ..
 
 
على أن الاخوان بسبب احساسهم بالتفويض الالهي عاجزون عن رؤية الحقيقة ولديهم استعداد دائم للانكار والجدل والمغالطة . لا جدوى اطلاقا من محاولة اقناع الاخوان بالحقيقة ..
 
لو قتل مرشد الاخوان آلاف المصريين ومهما أدت سياساته الى كوارث سيظل أتباعه يدافعون عن كل ما يفعله لأنه في نظرهم ينفذ ارادة الله .. ان مرشد الاخوان تماما مثل أسامة بن لادن والراهب بليدا ، رجل يشعر أنه مندوب الارادة الالهية وهو على أتم استعداد لانتهاك حقوق الآخرين بدون أن يرمش له جفن لأنه يؤمن أن الله قد أراد تمكين جماعته فلا وزن هنا لارادة البشر ..
 
 
اذن ما العمل ..؟!
يعلمنا التاريخ أنه لا أمل في التفاهم مع متعصبين دينيين يعتبرون أنفسهم أدوات الله لتحقيق ارادته ., لاجدوى من الكلام والمفاوضات .
 
الحل هو الضغط حتى يتم اسقاط هذا النظام الفاشي .
 
لا يجب على الثورة أن تتوه في أروقة السياسة ودهاليز التفاوض العقيم ..
 
نحن نطالب بانتخابات رئاسية مبكرة واقالة النائب العام غير الشرعي واسقاط الدستور الباطل ومحاكمة المسئولين عن القتل والتعذيب
 
وأولهم محمد مرسي ووزير داخليته الجلاد محمد ابراهيم .
 
هذه مطالب الثورة العادلة التى لا يجب أن نتنازل عنها أو نقبل بدلا منها حلول وسط من أى نوع ..
 
الثورة مستمرة حتى تنتصر على الفاشية وتحقق أهدافها جميعا باذن الله …
 
 
الديمقراطية هي الحل
 
 
د. علاء الاسواني 
Dralaa57@yahoo.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى