الرئيسية » تقارير » “الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة” لـ عزمي بشارة.. “نحن” و”هم” وما بينهما

“الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة” لـ عزمي بشارة.. “نحن” و”هم” وما بينهما

كتب/ كريم سليمان– ثمة ضرورة معرفية ومنهجية، لسد فراغ كبير في الدراسات العربية، السوسيولوجية والتاريخية، نحو فهم حداثي وجديد لموضوعتي “الطائفة” و”الطائفية”. كذلك، لا بد من وضع إطار نظري لنشوء الطوائف، خصوصًا في مجتمعات العربية قد استولت عليها العسكريتارية، وأسّست لحكم الفرد، في مرحلة ما بعد الاستقلال، وصنعت حكمًا شموليًا فردانيًا؛ يقوم على تطييف عناصر السلطة الأقلوية، وتحويل الطائفة الاجتماعية إلى طائفة سياسية.

 

وفي إطار هذا الحكم الشمولي، الذي عمد إلى مصادرة الحريات، وتعطيل الحياة السياسية، بتنوعاتها وتعدديتها، التي تصونها الديمقراطية، حلت قوانين الطوارئ، وحكم الفرد، فيما تمددت تشريعات دستورية، تستثمر الطائفية المذهبية والدينية، والقومية أيضاً؛ حيث ألغت مفاهيم الوطنية والمواطنة؛ كمشروع اندماجي، يحافظ على خصوصية الأفراد داخل المجتمع.

 

وفي الإطار ذاته، هيمنت الآلة الإعلامية في تلك النظم، بطرح خطاب سياسي، دعائي وتحريضي في آن، صنع من الأقليات طابورًا خامسًا، يهدّد الوحدة الوطنية، بالصورة التي تصنع فجوات

 

وتصدعات تتسع بتسارع كبير، وتزيد من عمقها؛ ما يجعل من المشكلة الطائفية راهنًا. وتعيش المجتمعات بأفرادها في حالة انقسام، وهو الأمر الذي تزيد من حدته الدعاية –أحيانًا- من خلال تخوين هذه المكونات وعمالتها لدول أجنبية، عندما يكون لها امتدادات خارجية.

 

هنا، يأتي كتاب “الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة” الصادر حديثًا عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، للمفكر العربي، عزمي بشارة. يمكن القول إنّ الكتاب نتج عن جهد معرفي جاد ورصين، سعيًا إلى تطوير نظرية في الطائفة والطائفية من جهة، وإلى اقتراح دراسة تاريخية سوسيولوجية لنشوء الطوائف، من جهة أخرى.

 

يتوزع الكتاب على خمسة عشر فصلًا، يتناول عبرها عملية صناعة الطائفية الاجتماعية وتحوّلها إلى طائفية سياسية. ويستعين في ضوء ذلك بإطار نظري يشتبك فيه مع نظريات اجتماعية، وتحليل للتاريخ الاجتماعي، واستقراء لنماذج من بلدان عربية مختلفة، ومقارنتها بنماذج غير عربية.

 

يتميز هذا العمل الضخم، بوضع تعريفات جديدة، وغير تقليدية، لمفاهيم الطائفة والطائفية، وإنتاج الطوائف المتخيلة، وذلك عبر تتبع

 

السياقات التاريخية والمعاصرة، ووضع مقاربات عملية ونظرية معرفية.

الهيكلية السياسية الطائفية

يشير بشارة، في كتابه، إلى أن العلمانية العربية، التي وظفتها الأنظمة السلطوية، قامت بتسييسها، حيث تم اختزالها فقط في صورة العداء للدين، ومواجهة التيارات الإسلاموية/ بالشكل التلفيقي، وظل مغيبًا عن عمد الدولة المدنية التشاركية، التي لا تقوم على الفرز، بحسب الانتماء الطائفي، والولاءات الأقلوية، كما هو حاصل بالفعل.

 

وفي ظل الهيكلية السياسية الطائفية؛ فإنه لا تتوافر أي حمولات دستورية وقانونية، تكفل وتشرع للأفراد حقوقهم كمواطنين، بل تضعهم في تراتبية ماهوية، تغيب عنها المواطنة. وتضيع من فرص بناء المجتمع التعاقدي، وتنكمش خريطة الوطن؛ فتصبح الطائفة بمثابة ورقة سياسية لدى الأنظمة، تتسع وتضيق معها صورة الوطن، وهوية أفراده.

 

وتصبح “الطائفية” الأداة الإجرائية، في ظل الأنظمة العربية التوتاليتارية، التي يجري تفسير وتأويل نشاط الأفراد، وسلوكياتهم، بناءً عليها؛ إذ لطالما عمدت إلى اللعب على التناقضات الطائفية والصراعات الهوياتية، بهدف تكريس سلطتها وتعزيز نفوذها.

 

يقول عزمي بشارة إن “الطائفية ليست من إنتاج الطائفة، بل العكس. فالطائفية هي التي تستدعي الطائفة من وعي الناس وتعيد إنتاجها ككيان متخيّل في شروط تاريخية وسياسية حديثة”، مؤكدًا أن فشل الدولة الوطنية وعجزها عن دمج الجماعات على أساس المواطنة، في محيط إقليمي يتسم بالصراع، أديا إلى استثمار الهوية الطائفية في الصراع على الدولة، ليتطور لاحقًا إلى صراع على تاريخ البلاد يتمثّل بمشكلة “نحن” مقابل “هم”.

 

لذا، أدت الطائفية السياسية إلى تضاؤل الشعور بالانتماء الوطني، أمام الانتماء الديني والمذهبي والعرقي، وهو ما صنع اختلالًا وتهديدًا وجوديًا، بصورة مطردة للمجتمعات العربية.

 

تعمل هذه الطائفية على تعبئة المكونات الاجتماعية، وتحكمها داخل كيانات مغلقة، هشة وضعيفة، لا تتصل ببعضها في مشروع وطني اندماجي، وتشعر بالتهميش؛ فتتحول مع الاحتجاجات الكبرى في تلك المجتمعات، إلى صور من النزعات الانفصالية، والأصوليات الدينية، وتتعرض لعنف وقمع الأنظمة، التي تنتفض “الأكثريات” فيها، بغية الحفاظ على وجودها، و”الأقليات” تذهب إلى الحفاظ على مصالحها ومكاسبها.

 

وبالتالي، يمسي التطهير العرقي والقتل على الهوية، المذهبية الدينية والسياسية، عناصر طبيعية وعملية متواترة، تجعل من الجميع في حرب مع كافة الأطراف.

دينامية “التخيل”

يشير صاحب “سورية.. درب الآلام نحو الحرية” عزمي بشارة، إلى دينامية “التخيل”، وإعادة إنتاج الظاهرة في الوعي؛ فالرابطة بين أبناء الطائفة، بمعناها الحديث، هي علاقة معنوية تقوم على الانتماء بين أفراد لا يشكّلون جماعة، بل جماعة متخيلة، وأن شرطها هو أفول الجماعات بمعناها القديم.

 

ويلح عزمي بشارة، مستندًا إلى بنديكت أندرسون في كتابه “الجماعات المتخيلة”، على أن الطائفة الدينية المعاصرة، هي جماعة متخيلة، ومؤلفة من أتباع دين أو مذهب، وقد أعادت بناء منشئها وأصولها ونصوصها، وسلسلة مؤسسيها وموروثها، الشعبي الروحي، بما يسبغ عليها بواسطة التخيل، سمات التماسك والوحدة.

 

فإن الطوائف المتخيلة، بالرغم من كونها موجودة ومؤثرة في الواقع، إلا أنها لا تتعين بوصفها كيانات اجتماعية حقيقية، كما يشير بشارة، أو كونها بنية؛ هي ذاتها مصدر التصورات المتشكلة عنها، لكن، باعتبارها نتاج عملية إنتاج تصورات عند أناس ينتمون إلى

 

جماعة، تبدأ تصوراتهم عن الآخرين، الذين تضمهم الجماعة من هذا الانتماء المشترك.

 

ويرفض عزمي بشارة اعتبار الطائفية ظاهرة أصيلة في المجتمعات العربية، لأنه لم تكن السياسة قائمة كمجال عمومي، في عهود ما قبل الدولة الحديثة، لأن الطائفية ليست من إنتاج الطائفة، بل هي استدعاء وإنتاج يتبلور من وعي الناس، وتعيد إنتاجها كيانًا متخيلًا، في شروط تاريخية وسياسية حديثة.

 

تصدّى صاحب “الدين والعلمانية”، إلى توجهات الباحثين ونزعاتهم التقليدية، في استخدام “العصبية الخلدونية”، كمدخل وأداة مفتاحية، لتفسير علاقة الطائفة بالدولة، في العصر الحديث، لأن الدولة الحديثة لا تقوم على عصبية، حيث أنها لا تقدّم نفسها للجميع.

 

وفي عهود ما قبل الدولة الحديثة، لم تولِ الزعامات أهمية لتسييس العامة، أو تطييف “طوائفها” سياسيًا، ولذلك، لم تكن الطائفية السياسية ممكنة. يشير بشارة إلى دور النخب العلمانية العربية، مبكرًا، في مناهضة الطائفية، وفشلها في الوقت ذاته، في الاتفاق على معايير أخلاقية، تضبط معايير التنافس على الحكم، وهو الأمر الذي انتهى إلى استثارة عصبيات طائفية، من طرف الحكم والمعارضة.

 

ويذهب عزمي بشارة إلى طرح تساؤل مهم في سرديته، يتمحور حول مدى تغلغل الخطاب الوطني والقومي المعادي للطائفية، الذي ساد مع بدايات الدولة الوطنية، بعد أن أخفق استبداد الدولة في دمج أمة مواطنية، تحترم فيها الفوارق الدينية والهويات الفرعية، حيث لم تتأصل الروح الوطنية، وعمل حكم العسكر على مطابقة الفوارق الاجتماعية مع الطائفية.

 

في المقابل، نشأت “الأكثريات” و”الأقليات”، بتحويل الأكثرية إلى طائفة، في الموقف من النظام السائد، واستندت النظم العربية إلى ولاءات وشائجية، ومحلية، عمقت من تلك الولاءات الطائفية. ويشير بشارة إلى أن المسألة الطائفية في ظل أزمة سياسية؛ تعكس وظيفة الهوية بإحلالها مكان القيم، والتعصب محل المعايير الأخلاقية، ما يؤدي إلى طمس الحدود بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، لتحل محلها الحدود بين “نحن” و”هم”.

 

ولا يتصور بشارة حلًا لهذه الأزمة المزدوجة خارج الدولة، والمواطنة الديمقراطية ومفهومها، سواء أقامت المواطنة على أساس التعددية الثقافية واللغوية والقومية، أم على أساس اندماجي.

 

كريم سليمان

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.