الرئيسية » تحرر الكلام » ومشيناها خطى: “ويحدثونك عن الإنسان والمبادئ!” (4 ـ4)

ومشيناها خطى: “ويحدثونك عن الإنسان والمبادئ!” (4 ـ4)

في مستهل عام جديد من العمر أتذكر “حامد بيه” سفينة نجاة “مصطفى أمين” وأمله في الخروج من السجن الحربي، والذي اكتشف “أمين” كما في “سنة أولى سجن” أنه محبوس إلى جواره في الزنزانة البعيدة، وأيضًا في خضم عالم متضارب الجميع فيه يحرص على تناول “كسرة أخيه” أو طعامه الوحيد بعدما عز الطعام بخاصة الروحي في المدن، ولم يكن عزيز الطعام من الأساس بالذي ينبت مباشرة من طين الأرض كخضراوات وفواكه وذرة ولحوم .. بل كان الطعام المشتهى الذي يتخطفه الجميع وما يزالون إلا مَنْ رحم ربي هو “الإنسانية”.

  في يوم يبدو قريبًا جدًا بالنسبة إليه، وبينه الآن وبينه قرابة ثلث القرن سعى لأن يكون كاتبًا وأديبًا، وأصابتُه الحياة في مقتل لما رأى أول مقال وأول قصة معًا في جريدتيّ “الشعب” و”المسلمون” أثناء سجنه بتهمة “الحض على ازدراء نظام الحكم”، عاش في زمن “حسني مبارك” طويلًا، وعاش فيه الزمان أطول لما علمه تكلفة الشرف والأمانة إذ اشترط عليه ضابط أمن النظام أن يخرجه مقابل العمل معهم، وإلا سيطرد من كل مكان إعلامي حكومي أو حتى خاص يصل إليه.

  رفض بإنسانية ومضى على درب الحياة صاحبنا، أو كان يجدر به الاحتفاظ بهذه الكلمات ليوم لقاء الله؟ أم إن متناقضات اليوم تدفعه دفعًا للكتابة، ولما طال عملًا في غفلة من الجهاز الأمني قرب نهاية التسعينيات جددوا العرض عليه فرفض، وعرف المتاهة في بلاده وخارجها، حتى عاد بعد ألق يناير/كانون الثاني 2011م ليشهد بحقه وزير قيل إنه ليبرالي علماني في مقر عمله السيادي الإعلامي، ويسوف ويماطل ويطيح بآماله آخر قيل إسلامي إخواني حتى ليلقى الطرد من الجهاز الأمني المباركي والسادة من حملة الحقائب الإخوانية (!).

وعما قريب من كتاب عمره، الذي صار يبدو لدى الغرباء متسع الطول ولديه بالغ الإغراق في الخداع، عما قريب دخل صاحبنا من باب فوجد نفسه على قيد الحياة بعد عدة سنوات، إذ لم يكن يشعر بذاته على النحو الأمثل فور الميلاد، فلم يلبث أن خطا خطوتين حتى قيل له تكاد تخرج من الباب الآخر، وعما قريب يحل باب الخروج النهائي، وعند لحظة إغماض العينين الأخيرة سيصير لديه باب أعظم من أبواب التعجب، (حتى) من ذلك الباب الذي أقر “سيبويه”، رحمه الله، أنه هزمه في “حتى”، إذ يموت وفي نفسه شيء منها.

  يغادر صاحبنا الحياة وفي نفسه أشياء من التعجب تعرف معاني الإنسانية ولا يقاربها حقد أو كره من قريب أو بعيد، من أبيه الذي لم يوشك إلا أن غادر الحياة على عجل، بعد الثلث الأول من حياة صاحبنا، ثم من بحث صاحبنا نفسه عن نسمة هواء خاصة محملة بعبق الحنان.. وكم باع من أجلها متعًا حياتية، ثم من ضابط أمن “مبارك” الذي أخلاه عن مكانه المحبب لنفسه لإنه رفض أن يكون خائنًا مثله، ثم من الوزير الإخواني الذي ماطل وسوف في إعطائه حقه لبيعه الإنسانية في نفسه بثمن بخس، ومن قبل من “خالة راضي” التي كانت تتعمد تعذيبه في الصغر، وكان الولد ذي السنوات الست يأتي “القومية الابتدائية المشتركة ببني مزار” ودموعه تنسال على قميص المدرسة الأزرق المخطط، والأخير غير مهذب ولا حتى تم ارتداؤه بصورة كاملة.. لماذا عذبته؟ ولماذا اعتاد صاحبنا حنان والده؟ ولماذا بحث عنه طويلًا بعد وفاته حتى ليورد نفسه المهالك مع الأغبياء بعدما فر من الخونة؟ ولماذا يخون كثيرون باسم كونهم “جنرالات” أو في الطريق إليها؟ ولماذا تأمل الوزير البقاء فباع المبادئ ولو إلى حين لأجله.. وأودى بصاحبنا الحين.

  ويموت وفي نفسه شيء من مدير مدرسة كان يحرم التدخين المحلي ويسمح لبائع سجائر مستوردة باحتلال جزء من سور المدرسة، وفي نفسه شيء من زوجة المدير وضربها له بشدة في الشتاء عند تأخيره عن الحضور إلى المدرسة فيما رسمت، رحمها الله، ألوان الطيف على وجهها بمستحضرات التجميل، ومن معاملة أستاذ “فهمي” له ولأقرانه وتأكيده على أنهم أسرة واحدة لا ينبغي نقل ما يقولون أو يفعلون للأهل، وهو يسومهم آيات العذاب .. ويحرجهم أمام آبائهم لمّا يقولون له:

ـ لماذا تفعل هذا بهم؟!

عندها ينبري المدير وزوجته كالرصاصة:

ـ أنحن فعلنا هذا بك يا “راضي”؟ أنحن أبكيناك يا “ألفت”؟ أنحن ضايقناك أيها السمين ” ….”؟!

   وفي جميع الأحوال كانت الإشارات تتراقص لمخيلته والزملاء.. ومن معانيها سيمضي أبوك وسنذبحك بعدها.. وتستمر منذ الصغر المهزلة:

ـ انظر معالي المدير، عناية الأستاذ، فضيلة الشيخ، إنهم كاذبون يرضعون الكذب مع الهواء..

ـ لا تقل على ابني (ابنتي) البالغ البراءة إنه يرضع الكذب..

ـ يا سيدي لا تحزن.. حلموا بالليل إنهم ضربوا وأُهينوا منا وبكوا.. فحكوا لك …!

    كلمات أستاذ “فهمي” وزوجته، رحمهما الله، كمثل كلمات خالة “راضي” لما واجهوها بما تفعله فيه، ذهب الفصل كله إليها ليهينها ويسألها عن سبب إيذاء “راضي”، فلما أشاحت بوجهها الندي في استهتار أقسمت الفتيات أن سيخبرن والده.. فاعتدلت قائلة:

ـ وهل تؤذي أم وليدها؟

  كمثل موقف الضابط الخائن والوزير المتواني في الحق.. والصبي الباحث عن الحنان.. تلك أحداث اختصرت لديه العالم، وعلمته لماذا يضحك على ما يسمى بالعالم الثالث، فيما الأخير يدعي أنه يفعل الأعمال ويؤديها على النحو والجانب الأمثل، فيما هو يدعي ويُمثل إلا من رحم ربي وهم قليل من قليل.. ومن قبل يتذكر أن الأقدار نافذة ماضية على رقاب الجميع.. ولكننا في عالمنا البعيد عن التقدم ومشاعله نزيد من ضراوتها وقسوتها على أنفسنا.

    يتذكر في 2003 لمّا غزت أمريكا في أبريل/نيسان العراق، وأخذت تدك حصونه وقلاعه، والغوغاء يسرقون المتاحف والمكاتب العامة، وهم يجرون بالكراسي والمناضد وأجهزة التلفزيون وما استطاعت حمله أيديهم، يتذكر الكهرباء التي انقطعت عن سان فرانسيسكو لساعات فحدثت مجازر من جرائم السرقة والقتل والاغتصاب بلا وازع من إنسانية.

ويرى بأم عينيه كيف تنهار حركات إصلاحية والجميع إلا أقل القليل يقول بلسان المآل والحال:

ـ نفسي .. نفسي ..!

  يرى كل منهم إنسانًا، فإذا ما تم الضغط عليه تنازل بمقدار كم الضغط الواقع على جسده إلا أقل القليل، وما كان العيب في المظاهر بل كان العيب في الرغبة الجارفة في الاستئثار بالخير والتفضل على الناس باسم الدين، والزج بها حتى آتون الموت بلا تعقل أو دراية بالدنيا أو الدين .. فكم من مُنبت لم يحسن لا سياسة نفسه ولا بيته فأراد حكم دولة باسم الدين (!).

  إننا إذ ننتظر حراكًا إلى الأمام نعرف أن الإنسان منا تم خداعه بعناية منذ نعومة أظفاره، وأن الصواب والخطأ كنظرية النسبية يتغيران بجحم المصلحة من آناس كثيرين من بلادنا، وإن جاز الاستهتار بالقيم في الغرب فإنما يجبر ويصلح استهتارهم العمل المهني الجيد من بعد .. ولا يجبر ضياع الإنسان لدينا شيء بل يضاعفه ضياع الدين من النفوس.

  وكلما تزايدت المحن وقل الصديق والرفيق الوفي.. اشتكى الناس ونفسه إلى بارئهم جميعًا وابتهل إليه ألا يقتل الإنسان بداخله في خضم ضياع المعاني الحالي.. وهتف بنفسه مذكرًا إياها بحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم:

ـ خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام!

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.