الرئيسية » تحرر الكلام » الإمارات بين اغتيال محمد بن عبد الوهاب وإحياء محمد الفاتح

الإمارات بين اغتيال محمد بن عبد الوهاب وإحياء محمد الفاتح

هل كان محمد بن زايد وقادة الإمارات يعرفون أنهم سيصلون يوما ما إلى هدفهم الذي جاهدوا من أجله سنين طويلة؟ الإجابة صعبة جدا. فالجميع كان يتوقع أن كلامهم وتقاريرهم للأمريكيين، التي ظهرت في وثائق ويكليكس، هي مجرّد أمنيات يدرك السعوديون كيفية التعامل معها. غير أن الوقائع أثبتت أن تلك الوثائق حملت برنامجا قابلا للتطبيق وأصبح اليوم حقيقة؛ بل قد لا نبالغ حين نقول إن ما تحقق يفوق بكثير أحلام أبناء الشيخ زايد وشركاءهم في دوائر صنع القرار الغربية.

اليوم؛ لا يمكن القول بأن الأمراء الشباب في الامارات العربية المتحدة يتحكمون في القرار السعودي فقط بل يمكننا الجزم، بقليل من المغامرة، بأن كل البرامج السعودية والاستراتيجيات التي خرجت دفعة واحدة من مكاتب محمد بن سلمان ليست سوى أمنيات قديمة لمحمد بن زايد وشركائه تتحقق تباعا.

الجميع يدرك أن تاريخ العداوة بين الإماراتيين والنهج السلفي للدولة السعودية هو عداء طويل، كشفته عدة وثائق نشرها موقع ويكيليكس، حيث حاول الشيخ محمد بن زايد أكثر من مرة تحريض الأمريكيين ضد المملكة، ولم يتوقف عند ذلك، وإنما تحدث بالعديد من الألفاظ التي تمثل إهانة للملك وللمسؤولين في السعودية، فضلاً عن عبارات أخرى تعتبر إهانة جامعة لكل الشعب السعودي، خاصة عندما وصفهم بالجهل والتخلف مستدلاً بأن « 52% من السعوديين لا يستطيعون قيادة السيارة، في إشارة إلى منع المرأة من قيادة السيارات في المملكة». وهو ما يفسر السرعة الكبيرة لانتقال السعودية من دولة تمنع وتجرم قيادة السيارة عقديا وقانونيا إلى دولة تبيحها عقديا وقانونيا، وكأن محمد بن زايد يشرف بنفسه على العملية.

الوثائق التي حملت نفس العداء للنهج السياسي والديني السعودي كثيرة في ويكليكس. وبحسب وثيقة تعود إلى 12 جوان/حزيران 2004 فإن محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي ورئيس وزراء الإمارات، قال للجنرال جون أبي زيد، قائد القوات الأمريكية في العراق بعيد الاحتلال، خلال اجتماع على العشاء في أبو ظبي: « نحن – أنا ومحمد بن زايد – عندما ننظر إلى أكثر من 100 كيلومتر أمامنا فإن القيادة السعودية لا تنظر لأكثر من كيلومترين فقط». وهو ما يفسر انتقال السعودية إلى خطط ثلاثينية، حيث أعلن محمد بن سلمان عن خطته السعودية 2030 منذ حوالي سنة، في تطبيق واضح لرغبات الإماراتيين التي ظهرت في الوثائق.

وفي وقت سابق نشر موقع «وكيليكس» أيضا وثيقة يسخر فيها ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان من ولي العهد السعودي الراحل الأمير نايف بن عبد العزيز ويشبهه فيها بالقرد. وهو ما يفسر الإطاحة الانتقامية بمحمد بن نايف من ولاية العهد في السعودية ومقدار الحقد الذي لا يزال يساور حكام الإمارات على السعوديين الرافضين للتخلي عن نهج الديني للمملكة.

وتكشف وثيقة أخرى يعود تاريخها إلى 25 جوان/حزيران 2008 أن عبد الله بن زايد، وزير الخارجية في الإمارات آنذاك، كان يؤكد للأمريكيين دائما أن: « النظام السعودي لا يسمح إلا للفاسدين وأولئك المتحالفين مع شيوخ الدين بالوصول إلى القمة». كما تكشف هذه الوثيقة رؤية الإمارات للسعودية كدولة «منبع لحركات التطرف في العالم ومن الضروري وقفها وتغيير مسارها الديني».

هكذا وضع محمد بن زايد قطار السعودية على السكة التي تنتهي عند برج خليفة، لتتحول السعودية من فترة حكم تميزت بزواج ظنه الجميع كنسيا بين التيار السلفي وعائلة آل سعود إلى حكم يسير بسرعة – تماما مثل سرعة سيارات اللامبرغيني والفراري في شوارع دبي- نحو العلمانية، التي تضع الإسلام في ثلاجة التعاليم السمحة التي نقبلها ونضعها في الخزانة للبركة، وكفانا الله تكاليف تطبيقها الباهظة.

ربما يظن القائمون على مراكز التفكير في الإمارات، وفي مقدمتهم محمد دحلان ومحمد بن زايد، أن هذه العملية القيصرية، بفصل روح الدولة السعودية عن جسدها، هي مسمار أخير فى نعش الإسلام السياسي في العالم، خاصة مع حصار قطر وكل القائمين على تغذية التعايش السلمي مع الحركات الإسلامية السياسية، أم أن الأمر ليس كما تتخيله هذه الدوائر المراهقة في قراءة التاريخ؟

 

تركيا القديمة تعود

كان محمد بن زايد وغرفة الإمارات يدركون منذ زمن أن تطليق السعودية من زواجها بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ليس كافيا، فيجب أن يسبقه انقلاب علماني في تركيا وهو ما حصل فعلا قبل ما يزيد عن السنة تقريبا، واعترضته الحكومة التركية المدعومة شعبيا، مما أطاح بجانب مهم من الخطة؛ وأصبح هذا الفشل في تركيا كابوسا جديدا سيؤرق لسنوات هذه المجموعة خصوصا في اتجاه استكمال مسار العلمنة في السعودية.

يدرك الجميع أن بناء السعودية بجسد آل سعود وروح عائلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب جاء على أنقاض الإمبراطورية العثمانية وختما صريحا لتدعيم اتفاقية لوزان، وباباً جديداً يغلق خلف الرجل المريض الذي يُخْشى وقتها من عودته و تعافيه. ويبدو أن دائرة التاريخ لم تفارق تلك النقطة من الزمن؛ فما يحصل اليوم في الخليج العربي ليس سوى إعادة مركز القوة الإسلامية من السعودية إلى تركيا مع فروق عقدية وسياسية عديدة أهمها:

ما يحدث اليوم في الخليج وأساسا في المملكة العربية السعودية هو قتل للكتلة السلفية الأكبر في العالم، وضرب للمربط المرجعي العلمي لكل «السلفيات»، باعتبار أن ذهاب العائلة الحاكمة السعودية نحو العلمنة التدريجية سيمحو هذه القيمة الدينية الكبيرة التي توفر للمملكة غطاء وشرعية دينية وعقدية متفاوتة الأهمية لدى كل فرقة سلفية وإسلامية، لكنها تلتقي جميعا عند تثمين تاريخ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

لكن مسار العلمنة سيمحو كل هذه القيمة الروحية، وسيحرم السعودية من مسار القيادة. والبديل الوحيد هو تركيا، حتى ولو كانت تركيا تتبنى نهجا إخوانيا إلا أنها ليست ضد المراجع السلفية للعلمية؛ بل تستضيف قيادات مهمة من التيار السلفي الإصلاحي والعلمي، ملاحقة من طرف السعودية ذاتها. لذلك لن تجد تركيا أي صعوبات في اعتلاء مركز القيادة بدلا من السعودية، وهو تنازل تاريخي تقدمة السعودية ومن خلفها الامارات، سيكون له انعكاسات ايجابية جدّاً على مسقبل تركيا الجديدة، التي ستلعب بقوة في المنطقة، كقيادة وليست كحليف ثانوي مثلما كان عليه الأمر في للسنوات الماضية، وهو الطريق ذاته الذي سيأخذ السعودية إلى هامش الصورة فيما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط ويعيدها إلى ما قبل لوزان.

بالنسبة للفارق السياسي بين السعودية وتركيا فهو فاصل جدا، لأن طموح تركيا الأردوغانية، تَصَدُّر المشهد الإسلامي، مرتبط ماضيا بحلم الدولة العثمانية، بخلاف السعودية التي لا تحلم حتى بتصدير التيار السلفي إلى غيرها بقدر ما تسعى إلى تثبيت الدكتاتوريات المعادية لها وأشد الأنظمة عداء للدولة الدينية، بينما يحمل الاخوان المسلمون، من جعتهم، بذرة تركيا إلى كل مكان في الأرض، وهو ما يستغله أردوغان إلى حدود الساعة ونكاد نجزم أنه سيأتي يوم يدعو فيه أردوغان بالخير لمحمد بن زايد ومحمد بن سلمان على هذه الخدمات!

هذا الفعل الإماراتي المصحوب بسذاجة سعودية يأتي مع بداية تلاشي اتفاقية لوزان التي قيدت تركيا لمائة سنة ووضعتها في ثلاجة العسكر والدكتاتوريات. ومع تعاظم الثقة الكبيرة لأردوغان في إمكانية تطور مشروعه السياسي ومحاكاته لفتوحات محمد الفاتح فإن المستقبل سيكون لدور ريادي يصعب تحديد ملامحه وحدوده لكنه بالتأكيد سيكون على حساب السعودية وتاريخها في قيادة المنطقة.

 

السلفية الجهادية

لا أحد ينكر أن السلفية الجهادية هي سليلة السلفية العلمية أو السلفية التقليدية ومدرسة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الناحية التنظيرية، وهي سليلة السلفيين السعوديين وفتاوى الجهاد الأفغاني بالأساس من الناحية الحركية؛ حيث أن المجاهدين العرب والمسلمون في العالم ممن شدوا الرحال إلى أفغانستان والشيشان هم من زرعوا نبتة التيار الجهادي، وأخذت رياح الحروب على الدول العربية تسقيها و ترعاها فيما تكفلت سرعة انتقال المعلومة بنشرها في أصقاع الأرض.

لكن أحداثا كثيرة ساهمت في انفصال الحراك-الجهادي عن الشجرة الأم، لتصبح ديناميكية ذاتية تحركها عدّة معطيات داخلية مثل التنظيمات الكبرى (القاعدة .. تنظيم الدولة الإسلامية المعروفة بداعش.. بوكوحرام…) ومعطيات خارجية مثل انتشار الهجمات الغربية على أراضي المسلمين.

أما غياب الدور الديني السعودي في المنطقة فهو سبب رئيس ليتراجع الدعم عن التيار المدخلي، الذي يعرف بأنه من أنجع الفرق في محاربة التيار الجهادي، وهو ما سيجعل الهامش أكبر أمام كل الحركات الإسلامية المسلحة للعب دور أهم في المرحلة المقبلة.

أضف إلى ذلك أن غياب الدعم عن التيارات العلمية والدعوية سيجعل المجال مفتوحا للتيار الجهادي الذي لا يعتمد على المال في الانتشار الفكري بقدر ما يعتمد على الجوانب التقنية واستغلال الهامش الالكتروني والتواصل الاجتماعي. لذا فإن غياب القوة المادية المخصصة للدعوة السلفية الرسمية سيكون فرصة العمر للتيار الجهادي العالمي.

هكذا سيتحول غياب السعودية عن الساحة الإسلامية إلى رافعة تدعم تيارات الإسلام السياسي بما يكفي لينجلي معه الغبار عن خطة إماراتية ليست سوى خطوة لضرب السعودية وحدها، بحيث يكون المتضرر الوحيد هو تراث آل سعود والشعب السعودي الذي سيضطر لتجرع كأس العلمانية المرير ويستفيق بعده على عاصفة.

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.