الرئيسية » تحرر الكلام » “ليلة اختبئ فيها القمر”

“ليلة اختبئ فيها القمر”

انها ليلة مقمرة مثلجة ، التحف فيها القمر جاعلاً من الغيم غطاء له يخفي نوره وضياءه تماماً كما التحف المارّة في الشوارع ملتمسين وهج ضيائه الخفي ذاك ..

مشيت من جديد راسمة على ذاك البساط الأبيض وقع قدماي لتغدو شبيهة برسم خطوات أناس سبقتني و ربما أخرى ستلحق بي يوماً  لنخطوا خطوات أخرى تقربنا ربما  من رأس سنة جديدة  و بالوقت ذاته  باتت تقرّبنا خطوة أخرى نحو ذاك الأجل  الغير مسمى و المجهول التأريخ  عند كل ّ شخص اعتلى سطح هذه المعمورة  ..

كانت حافلتي المسائية التي أعتلي سطحها في مثل هذا الوقت من كل مساء تهمّ بالرحيل حينما أخذت قدماي تسرع بخطاها نحو تلك البوابة ( اقصد بوابة الحافلة بالطبع) علّي أحتمي من زمهرير هذا المكان و لو حتّى قليلاً قبل معاوَدِة المسير نحو ملاذي الأخير

( أقصد منزلي بالطبع) …

كانت الشوارع ذاك المساء قد خلت من المارة إلا أولئك الذين ارتموا على زوايا الشوارع و عند المحطّات منتظرين ملجئ لهم يقيهم ألم تلك الرّماح التي أخذت من رياح ذاك الليل قوساً جاعلة من

وجوههم، إذا ما خلت من أوشحة تقيها ذاك الألم ،هدفاً..

و بما أنّ الشوارع قد خلت فإنّ الحافلات قد خلت أيضاً و لكن من الأوكسجين هذه المرة ، فما إن يبدأ جسدك يستعيد دفئه الأول داخل

تلك الحافلة حتى يستدرك انفك  أن المكان بات أشبه بحانة نسيَ

.صاحبها أن يفتح نافذتها منذ أشهر

و ذلك ما حصل معي منذ قرابة الشّهرين  من تاريخ اليوم حينما استقلّيت أحد حافلات هذا المكان في يوم خريفيّ ماطر لأغادرها على بعد محطة واحدة من مسيرها و قبل أن أصل إلى وجهتي المقصودة حينها،  رامية بنفسي عند أوّل محطّة بعد أن توضّع على أنفاسي داخل تلك المقصورة رائحة شممتها للمرة الأولى منذ قرابة العامين حينما نزلت إلى  شوارع هذا المنفى علّي أتعرّف عليها و اعتاد ملامحها الجديدة بالنسبة لإدراكي الأول لها حينها ،  فإذا بي أسأل  من كان يرافقني المسير تلك اللحظات :

ما هذه  الرائحة البشعة التي غطت على مركز هذه المدينة ؟فيجيبني  ضاحكاً إنها رائحة “الماريجوانا” يا عزيزتي  لابد أن تعتادي زيارتها في أيامك بين الحين و الآخر وسط أزقّة هذا المكان،  فإنها

.ستقبع يوماً في ذاكرتك المرتبطة بذاكرة هذه المدينة أيضاً

(لكن لم يخبرني ذاك الشخص حينها أنّه سيأتي يوماً ليحالفني فيه سوء الحظ فأشتمّها في أحد الحافلات بل و أهرب منها مترجّلةً راميةً بجسدي خارج تلك الحانة أقصد الحافلة ).

كنت أزفر من شدة الغضب ، فها انا ساتأخر عن مشاغلي الدنيوية من جديد و ها هي تلك اللائحة الالكترونية اللّعينة تخبرني بأنه عليّ الانتظار ما يقارب النّصف ساعة لكي أعتلي حافلة كالّتي كنت اعتليها قبل دقائق دون أن تضمن لي قدومها دون تلك الرائحة الكريهة أيضاً.

كان المطر بات يطئ الأرض بشكل أخف مما كان عليه منذ دقائق حينما هممت المسير عازمة أن أكمل طريقي مشياً هذه المرة ، فعلى ما يبدو ان اليوم هو ليس بيوم حظي مجدداً..

أو ذاك ما كنت أحسبه قبل أن يأسرني جمال ذاك المكان الذي أوصلني إليه القدر دون إبرام موعد مسبقٍ معه ، فالأشجار كانت قد توضعت حول تلك البحيرة الصغيرة عاكسة لون أوراقها الحمراء عليها ..

بحيرةً اتّخذت لها من وسط تلك الحديقة مستقراً بعيداً إلى حد ما عن ذاك النهر المتوضع في نهاية ذاك المكان، الذي راح الهواء يؤرق سطحه مع حبّات المطر بأمواج عالية نوعاً ما،  و الذي قبع على بعد امتار عن تلك البحيرة..

ليس المكان و حسب هو الذي اسنتجى قلمي و كأنه يخاف على ذاكرتي النسيان بل من جلس على حشائش ذاك المكان تحت مطره و خريفه المجنون المسعور يمارس ما اعتاد على فعله منذ سنوات و سنوات قبل أن يحط به قطار العمر على ابواب خريفه المرهق ذاك ، فحتى طيور المكان باتت على ما يبدو  تعرفه ..

رحت أراقبه من على جسر قريب توضع فوق تلك البحيرة ،

كان رجلاً في الستين من العمر، ملامحه توحي انّه قد قدم من أحد دول شرق آسيا أيضاً، كان  الشيب قد كسى شعره المتطاير على جبهته التي غطت ملامحها الأولى كثرة التّجاعيد و ربما الهموم ، لا أدري…

فإذا صدق ظنّي فإنّ حياته  لم تكن حياةً سهلةً مرفّهةً ، أم لعلّ ذاك ما أوحى لي ملبسه حينها ..

كان قد جلس على أحد الصخور القريبة من تلك البحيرة مخرجاً من حقيبته التي كانت متوضعة على ظهره منذ لحظات كيساً ورقيّاً امتلئ بقطع الخبز البائتة قبل أن يفرغ محتواه يمنة و يسرى مطعماً ليس طيور تلك الحديقة و حسب بل و حيواناتها ايضاً..

فما أن توضع على تلك الصخرة حتى اجتمعت السناجب حوله تنتظر رزقها الموعود مع ذاك البط الذي اتخذ من ضفاف تلك البحيرة مجلساً له هو الآخر، ناهيك عن النّوارس و الحمامات الملونة ..

كان مشهد يثلج القلب ، فيكفيك ان تفكر أنه رضي بأن يلحق ملبسه

البلل تحت تلك الأمطار التي بدأت تهطل بغزارتها المعهودة

:في هذه المدينة مجدداً حتى تستنتج امرين اثنين

الأول أنّه انسان لربما قضى حياته كلها يفي بمواعيده و وعوده حتى و لو كان مجرّد موعد بسيط مع تلك الطبيعة و بتعبير آخر مع العطاء، أما الثاني فيبدو انه عاش وحيداً فترة ليست قليلة من الزمن قبل أن يقرر ان يبرم موعد ثابت مع هذا المكان ، أم تراه لم يغدو وحيداً بافتقاده الناس ؟

!بل بتواجدهم هذه المرة

فكنت قد قرأت مرّة في أحد الكتب أن ليست الوحدة بأن نمسي دون رفيق درب بل الوحدة الأكبر حينما يكن ذاك الرفيق عدو أو بتعبير آخر صديق للفراغ لا شقيق روح في الألم قبل الفرح ، عند الصّعب قبل السهل لتجد نفسك غارقاً في نهر له ضفتين اثنتين :

الاولى هو محاولتك اعتيادك للوحدة مع وجود من يسببها لك أمّا الثانية هي محاولتك للسّباحة عكس التيّار علّك تصل إلى وحدتك الاولى دونه  لكن دون جدوى فذراعيك اليوم باتا أكثر ضعفاً من البارحة و روحك باتت أسيرة لوحدتك بنوعها الجديد ذاك ..

تلك الوحدة التي اخترتُها هذا الصّباح بملئ إرادتي (أي صباح يومي المثلج ذاك الذي بدأ قبل أن يلتحف القمر بتلك الغيوم) حينما ابتعدت عن ضجيج زملاء الدراسة و ترّهاتهم المعتادة و أحاديثهم اللّا منتهيّة ،مختارة قاعة من قاعات الجامعة التي لا يحبَّذُ فيها الكلام فقد كانت قد  خصّصت للطّلاب الّذين يودّون أن يقوموا بمراجعة دروسهم أو تحضيرها ..

جلست قرب أحد النّوافذ أراقب هطول تلك الثّلوج تارّة و هرولة المارّة تارّة أخرى قبل أن يقطع تأمّلي ذاك مجدداً سيّارة أشبه بحافلة صغيرة  على مرمى ناظري لتنزل  منها فتاة في مقتبل العمر ،  و ما أن فتح باب صندوق تلك الحافلة الخلفي حتى راح فقراء تلك المنظقة و المشرّدين منهم ممن افترشوا الطّرقات يتراود الواحد تلو الآخر يطلب ما يحتاج إليه علّه يقيه برودة ذاك الشتاء الذي بدء منذ نيّف من الزّمن ، فحتى تلك الفتاة الملتحفة بأغلى أنواع الأوشحة لم

.تسلم من ذاك البرد و قساوته و هي تنتظر من يأتي يلتمس حاجة ما

اكثر ما استجلب انتباهي في تلك اللحظات، أن تلك السيارة لم تحوي فقط على أوشحة و  بعض القبّعات الصّوفيّة و  حسب بل أيضاً كان بها كل ما يلزم لإشغال العقل ، من أدوات للكتابة بل  و حتّى الرّسم ، و كأن تلك الفتاة  تخبر ذاك الفقير أن من حقّ عقله أن يستشعر دفْ الفن  و عذوبة العلم ايضاً ، كحقّ جسده باستشعار

…الدّفئ

  و كأنّها تريد أن تخبر ذاك الشّخص أن الفقر هو فقر الجّيب ليس إلّا

و انّ كلّ نفس فيها الّذي يغنيها بل و  يغني غيرها في كثير من

…الأحيان

و من الجدير بالذّكر أيضاً ، أن حتى ذاك الانسان الفقير لم يكن يتدافع ليحصل على حاجاته،  بل و أكثر من ذلك،  لم يكن يأخذ

شيء ليس بحتاجه،  بل كان يردّه متشكّراً معبّراً أنه لا فائدة له بها

.اليوم

لتستعيد ذاكرتي تلقائياً ذكرى تلك البحيرة و كأنها تريد أن تخبرني أن في كلا الحادثتين أمر مشترك، فلا مطر ذاك الخريف و لا ثلوج هذا الشتاء استطاعت أن تمنع انساناً أو تأخره عن موعد اعتاد فيه  العطاء ، لأوقن حينها أن ذاك الشيء لن تستطيع أن تلقّنه لأحد

و لن تستطيع أن تسلبه من أحد أيضاً فمن اعتاده

لن يبرئ منه يوماً و من اعتاد قلّته أو انعدامه لن يشفى منه

.هو الآخر

لم تستسلم ذاكرتي من إعادة تلك المشاهد علي و تكرارها على طول مسيري ذاك المساء، و كأنها تخاف النّسيان مجدداً ، إلى أن باغت ضوء القمر خطواتي تلك على حين غرّة و كأنه

   .يوافقنيالرّأي بل و يثني عليه

لأوقن حينها أن أشياء كثيرة في هذه الحياة حينما لا نستطيع  أن نفهم لها سبباً في تواردها تواجدها و ربما مرافقتها لنا في مجريات و أحداث أيامنا ، علينا أن نترك لها بضعاً من الوقت علّها تخبرنا  بطريقتها ما الّذي تخبّئه لنا الأقدار .

و أن  تغيّير واقعنا بأناسه ، أماكنه ، و حتى برائحة نسماته التي

  يستشعر أنفك غرابتها في كثير من الأحيان  أينما حل أو

ارتحل بعيداً عن رائحة نسمات مكانٍ اعتاد عليه في طفولته ، فإنّها هي ذاتها التي قد ترسي بك نحو شاطئ آخر من شواطئ الأمان و لو 

…كان ذاك الأمان نابع من ذاتك و تأمّلها ليس إلّا

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.