الرئيسية » تحرر الكلام » النّجاح يبتدئ بكلمة…

النّجاح يبتدئ بكلمة…

إن الحياة  تسرقك من أماكن كثيرة لتترك  وراءك أثراً ما ، فإما أن يكون ذاك الأثر جميلاً طاهراً نقيّاً ينبعث منه رائحة الخلق ، الكرم و الشّهامة و إما أن يكون العكس ..

فكم من كلمة طيبة كانت سبباً  في انتزاع همومٍ أو تخفيفها 

همومٌ كانت قد استقرت في النّفوس لفتراتٍ ربّما كانت طويلة ، لنتأكّد حينها  أن   ” الكلمة الطّيبة صدقة ” ..

فكم من ابتسامة بدرت منك فدخلت نفوساً دون استئذان زارعة داخلها نبتة أمل  ، و كم من دعاء في ظهر الغيب كان بلسماً نزل على مصاب أحدهم فأزال عنه الهم و الكرب و كم و كم وكم ..

بل إنك لتستشعر أحياناً فوحان رائحة عطرة من تلك الكلمات شبيهةً برائحة العنبر و مرّات نجدها قد امتزجت مع رائحة المسك و كأنها بذلك تخبرك أنّها ترغب في استقرارها بين أحداث ذاكرتك الدائمة ، فتعمل على ربط ذكراها بأجمل الرّوائح التي إذا ما شممتها يوماً حتى تعيد وقع تلك الكلمات في مخيّلتك مجدداً ..

و إذا ما  استشعرت تلك الرائحة حتى ترشدك إلى أن صاحبها يمتلك من الخُلق الكثير الكثير و لديه كمٌّ من العطاء ، كمٌّ كلما أنفق منه ازداد ، فالصدقة لا تقف حدودها عند بضع دراهم و حسب ، فهي تبدأ بالبسمة لتصل إلى الدرهم و ربما لتنتهي عنده ..

و على نقيض ما سبق قد نجد أحياناً وجهاً آخر للكلمات ، وجه قد تستنجد لأجل استيعابها و ربما لتخطّيها أيضا بمئة مترجم و الف كتاب خصّص لشرح اللغة و مع ذلك تبقى تلك الاسطر مجهولة المعنى تقف على حافة أبواب وعيك و فهمك …

ذاك الوعي الذي كنت تحسبه يوماً أنه قد وصل إلى مرحلة من النّضج الّتي تخوّله بأن يفهم طباع البشر ، تصرفاتهم ، ردّات أفعالهم ، و دوافعهم ..

و لكن تأتي الأيام و المواقف لتذكّرك أن كلّ وعيك و ما يحمله من مفاهيم بات يسبح في شاطئ جهلك الأوّل من جديد ، مخبراً إياك أنّ  نسمة من نسمات الصّيف الحارّة كفيلة بأن تغرقك في ذاك البحر مجدداً ، متكفّلة متعهّدة ألّا تفارق أيامك حتى تتأكد أنّك قد التطمت بكل أمواج معرفتك ، ذكاءك و ربما غباءك أيضاً قبل أن ترمي بأشلاء عقلك الغارق على شواطئ اللّا معرفة و فوق رمال المعاني المجهولة بالنسبة إليك ..

لتمسي تماماً كرجل أراد يوماً أن يتعلّم لغة ما و نسي أنّه بحاجة لمعجم يساعده على تفكيك رموز تلك الأحرف ،  الحركات و حتى السّكنات  ..

و الجّدير بالذكر أن ليس الكلمات و حسب بحاجة إلى قواميس لفك طلسمها الغير مفهوم لك للوهلة الأولى   فحتى ما يشعر به الانسان من فرح ، حزن ، حب ، كره ، و ربما خوف أيضاً يحتاج أحياناً إلى مئات المراجع و عشرات من الاستشاريّين لفهم خليط النفس ذاك …

كيف لا و أنت تجد نفسك في بعض الأحيان إذا ما طرق الفرح بابك بعد طول انتظار تبكي تعبيراً عنه و ربما خوفاً من أن تفقده أو أن يغلق باب ذاك الشيء الذي أوصلك لهذا الكم من السعادة ، و كثيرة هي  الأحيان التي تجد نفسك تضحك في ألمك و كأنّ روحك تأبى أن تراك ضعيفاً بعد اليوم …

و الغريب في الأمر  أن ذلك التّناقض لا يكون فقط في حالات الفرح و الحزن و حسب بل أيضاً في كل مجالات الحياة ، في الحب ، في الثقة ، في المبادرة ، و ربما في السكوت أيضاً…

فكثيرة هي المرّات التي كان فيها الصّمت أبلغ الأوقات حينما عبّر عن مئات الكلمات و الجّمل …

و كثيرة هي المرّات التي نطقتَ فيها كلمات مغايرة عما يجول في خاطرك ..

و هنا بالطّبع  ليس بالضّرورة أن نصنّف ذلك خلف باب النّفاق هذه المرة ، فهناك أبواب أخرى قد يختبئ خلفها ذاك الشيء ،  كالخوف مثلاً ..

ليس الخوف بمعناه الحرفي ، بل ذلك الخوف من أن  تمسي فيه أحاديث نفسك مقروءة للآخر على حين غرّة …

أم تراه باب الثقة من جديد ، ذلك الشيء الذي تتحيّر في أمره على الدوام !

ليس في منحك ثقتك للآخر و حسب بل أيضاً في تقبّل ثقته بك ، و كأنك بذلك تنأى بنفسك مبرراً ضعفك في منحك ذاك الشيء من جديد فتكتفي بأن تقوم بصدّه و كأنّك أحد مصارعي روما القدماء الذي ارتدى كافة أنواع الدّروع الحديديّة  ناسياً أن يضع تلك الخوذة الّلعينة ..

ليس خوذة الرأس بل خوذة الشّجاعة هذه المرّة ! ليكتشف أن كل دروعه أمست على حين غرّة رقيقة مهترئة تلعب فيها الرياح تماماً كطائرة ورقية نُسيت سنين عدداً في أحد أقبيةٍ تابعةٍ لمنزل عائلة كانت يوماً ضخمة العدد قبل أن تتخافت أصوات قاطنيه و تختفي واحدأً تلو الآخر ، فتجد صاحب تلك الطائرة الورقية يعود إلى ذاك القبو من جديد ،  قبو ذكرياته و أصوات أحبائه ، ضحكاتهم ، أحلامهم  و حتى عبَراتهم دون أن يعلم أن كل ماسبق بقي منه تماماً ما بقي من تلك الطائرة الورقية التي لم يجد صاحبها من بقاياها سوى عودين اثنين بعد أن باتت وريقاتها غذاء لحشرات ذاك المكان البغيض على مدى أشهر و ربما أعوام ، فتصبح تحلقيها في سماء واقعه و نحو فضاء أحلامه أمراً أشبه بالمستحيل …

و إذا ما أردنا التوغّل أكثر في مضمون الثّقة فإنّنا نجد أنها لا تقتصر على علاقتنا بالآخر أو العكس …

  بل أيضاً توجد داخلنا و نشعر بها بين الفينة و الأخرى حينما نعمل على تنميتها داخلنا و كأننا نتخوّف من أن  نفقدها يوماً ، فثقتنا بنفسنا ، بقدراتنا ، و بمهاراتنا ليس بالأمر السّهل على الإطلاق ، فأنه تماماً كأحد مؤشرات سوق الأوراق المالية في شركة نامية ، و الّتي تمتلك مؤشرات غير ثابتة ليس في كل يوم يمضي و حسب ، بل بين دقيقة و أخرى أيضاً…

أحياناً نستطيع شحن ما ذُكر ، شحذها ، و تشذيبها أيضاً بتطوير انفسنا و ذاتها و لكن كثيرة هي الأحيان الّتي تستشعر فيها أنّك بحاجة لأن يتولّى عنك أحدهم هذه المهمة و لو لمرّة واحدة و كأنّك بذلك تثبت لنفسك التي أخذت على عاتقها مهمّة الشحذ تلك أنّك في المسار الصّحيح و أن مجاهدتك مع نفسك و مع أحداث واقعك لم تذهب يوماً سدى ..

و الآن لماذا تراني أكتب عن الكلمات ، مفهومها ، و تأثيرها ؟

بل السؤال هنا ما علاقة ذلك كله بالثقة و بخاطرة اليوم …؟

سأخبركم يا سادة و لكن دعوني أولاً أن أصف يومي هذا …

اليوم هو يوم استثنائي بالنّسبة لي ، يوم كانت فيه سعادتي في أوج مراحلها ، يوم تيقّنت فيه أن الفرح يمكن له أن يدخل قلب المرء رغم اغترابه ، حنينه و اشتياقه …

يوم أسدل بأحداثه غطاء سكينة حريريّ أرجواني على أيّامي ّ ، غطاء احتضن كلّ ما كان يؤلم داخلي يوماً …

سكينة اشتقت إليها منذ زمن،  سكينة حملت ذكراها إلى غدي و لو كانت قد زارتني ساعات معدودات ..

فأنت إذا ما كنت تسعى لشي منذ فترة من الزمن ، تنتظره حيناً و تراقبه من على بعد حيناً آخر و كأنه شيئاً صعب المنال ناسياً أو ربما غافلاً عن قوله تعالى ” و ما ذلك على الله بعزيز “

ثم تجد نفسك تقف على أعتاب تحقيق ذاك الشيء الذي، طال انتظاره حتى تنسى للحظات و ربما لأيام كل ما مرّ عليك من حزن ، ألم ، صعوبات و ربما فقدان….

ليس الفقدان بمعناه الحرفي هنا،  بل فقدان ثقتك بنفسك في كثير من الأحيان حتى تأتي تلك اللحظات لتنعش بداخلك روحك الأولى من جديد و لتستجلب في تلك اللحظة كل الدقائق سواء تلك التي كنت تتولى فيها أنت مهمة شحذ الذات أو غيرك ممّن لمسوا للحظات أن مؤشر نفسك  عاد  للانخفاض مجدداً فتولّوا حينها  تلك المهمة هذه المرة…

ليستحضرني في تلك اللحظة قول أحد  أساتذتي التي كان لي الحظ بلقياها حينما كان جوابها ليس على  سؤالي و حسب بل أيضاً على اسئلة كل من كان في تلك القاعة ..

قاعة اجتمع فيها قرابة الخمس و عشرون فرداً ينطقون لغات مختلفة ما عدا الفرنسيّة بالطّبع..

فقد كانوا قد قدموا من ثقافات عديدة تاركين خلفهم الكثير الكثير …

بعضهم خلّف رحيله ألم في نفوس أحبائه هناك و آخرون تنازلوا ليس عن مهنهم ، خبراتهم ، و أعمالهم و حسب بل في كثير من الأحيان كانت أحلامهم أكبر الأثمان و أغلاها آنذاك حينما قرروا القدوم إلى هذه الأراض ..

فكان جميع الحاضرين ذلك اليوم يتنافسون حتى ينسجوا من مفردات لغتهم الجديدة هذه سؤال كان مفتاحه كلمة ” متى “..

متى سأدخل مجدداً إلى عالمي المهني ؟

متى سأكمل تحصيلي العلمي ؟

متى سأتحدث هذه  اللغة بطلاقة؟

متى و متى ومتى ..

لتضج القاعة ليس بالكلمات و حسب و إنما بنظرات الحيرة تارّة و الخوف و التردد تارّة ، و النّدم مرّات و مرّات ..

و كأنّ تلك النظرات بما فيهم نظراتي أيضاً حينها،  كانت تخبر من حولنا و محدّثينا قائلة :

أتُرانا أخطأنا التقدير حينما قررنا القدوم إلى هنا ، أتُرانا تعجّلنا في ذاك القرار ، و هل يا ترى كان لنا خيارات أخرى في تلك الظروف و لم نرى سوى المهجر كحلّ أوحد …

ليأتي هذا اليوم بقاعاته الجديدة ، ساحاته الدّاخلية الضخمة و حدائقه الواسعة ،  ازدحامه و تراكض الناس فيه ، ذهابهم و مجيئهم من حولي حينما وقفت وسط  تلك الفسحة الداخلية الواسعة للحظات أتأملها بعد أن استوقفني ذاك المكان و كأنه يخبرني بل و يذكّرني بكلمات مقوية للغة تلك في ذاك اليوم  حينما قالت بصوت أقرب إلى الصّرامة منه من المحادثة على غير عادتها ليهدئ الجميع و علامات التّعجّب على وجوههم و وجهي ضمن تلك الوجوه  ايضاً حينما قالت بصوت أقرب إلى التّحذير و ربما التّذكير أيضاً حينما قالت :

كنت قد أخبرتكم مسبقاً أنني مهاجرة مثلكم قدمت من فرنسا لأفتح في صفحات عمري صفحة بيضاء لم يكتب فيها سوى أنني أتحدث هذه اللغة..

صفحة استهلك مني الكثير من الوقت و عشت الكثير الكثير و رأيت فيها ما لم أكن أتوقع يوماً رؤياه حتى وصلت إلى هذه المرحلة  ، و إلى  هنا حيث هذا المكان  ، فحتّى لغتي الأم لم تسعفني وحدها في هذه البلاد في بادئ الأمر  و مع ذلك نجحت ..

فإذا كنتم قد نجحتم بأن تتملّكون الشجاعة و القوة  بأن تودعوا أهلكم ، أحباءكم ، أبناءكم ، أرضكم ، لغتكم ، موطنكم ، جيرانكم و انتماءاتكم فهل سيعصى عليكم دخول جامعة ، أو  الالتحاق بعمل ما ..

أليس من الأصح أن تجيبوني أنتم أيّهما أصعب برأيكم ، و أيّهما يحتاج إلى شجاعة و قوة أكبر يا ترى !! …

ليخيم الصّمت من جديد  في تلك القاعة على عكس هذه الساحة التي أنا بها اليوم حينما جاءتني هذه الكلمات تطرق مسامعي من جديد وسط هذا الهرج و المرج  و حينما همسَت لنفسي قائلة  و كأنّي أجيب على ذاك السؤال و كأن تلك الإمرأة تقف أمامي تنتظر إجابتي في تلك السّاحة حينما همهمت قائلة :

نعم صدقت،  فكلُّ ما كنت قد ذكرت هي الصّعوبة في أوجها و أعلى درجاتها …

لأتأكّد حينها أن معاني تلك الكلمات لم تحتاج لفهمها معجم و لا حتى دليل لغوي و لكن كان الزّمن كفيل بأن يترجمها لي على واقع أيامي و إحداثيّات حياتي و أحداثها ..

و لأستشعر في تلك اللّحظة أن في كل يوم أحياه هنا، أتأكّد فيه أنّ الاغتراب أحياناً لا يكون في تغيير المكان و حسب..

فكم من غربة كانت قد كُتبت لنا أن نحياها دون أن نشعر بذلك ..

كمشاركة الحياة مع أناس يحملون عكس أحلامنا على سبيل المثال….

أناس لم يكتفوا بذلك حينها بل عملوا على تحطيم تلك المذكورة يوماً لنكتشف نوع من أنواع الاغتراب عن الذات …

أو أن يأتي يوماً  و أنت في موطنك تشعر فيه أنّك لست ذاك الشّخص الذي عهدتَّه سابقاً ، هو غربة من نوع آخر…

فالغربة قد تكون بوجود اشخاص في حياتك لا بالابتعاد عنهم …

فكثيرة هي الأحيان التي نستشعر الغربة داخل أوطاننا ، سواء بتغيّر الذّات عمّا عهدتها يوماً أو حتى بتغيّر الأوطان عليك ..

لنكتشف ان مفهوم الوطن لا يتجسّد بحدودٍ جغرافية كانت أو سياسيّة، فهو و قاطنيه لهما دوراً كبيراً بأن يشعروك بالاغتراب حتى عن ذاتك..

لتجد ان اغترابك بمعناه الحرفي هنا  قد أستطاع و لو للحظات أن يُعيد إليك روحك الأولى التي اشتقت إليها يوماً و ذلك على عكس ما كنت تتوقع حصوله في القريب ..

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.