بنو إسرائيل واليهود بين عقاب الله وكراهية الناس

لعنة أبدية وشعور متأصل ـ دراسة تاريخية تحليلية موثقة
أولاً : موسي وبنو إسرائيل [وأهل مصر] :
بعد موت نبي الله يوسف انتشر بنو إسرائيل ، أي نسل الأسباط ، وكثروا تحت حكم الفراعنة ، وكانوا على بقايا من الإسلام دين يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم ، وعندما جاء فرعون موسى أخذ يعذب بني إسرائيل ويستعبدهم ويجعلهم خدماً يبنون ويحرثون ويتولون الأعمال القذرة ، ومن لم يكن أهلاً للعمل فعليه الجزية ، قال تعالى”يسومونكم سوء العذاب” ، وقد تزوج فرعون من بني إسرائيل امرأة يقال لها آسية بنت مزاحم .
ثم كان أن رأى فرعون في منامه كأن ناراً قد أقبلت من بيت المقدس وأحرقت بيوت مصر وتركت بني إسرائيل ، فدعا فرعون الكهنة والسحرة والمعبرين والمنجمين وسألهم عن رؤياه ، فقالوا يولد في بني إسرائيل غلام يسلبك الملك ، ويغلبك على سلطانك ، ويخرجك وقومك من أرضك ، ويبدل دينك ، وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه ، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل وترك الإناث .
فلما كان في العام الذي أمر فيه فرعون بقتل الغلمان حملت أم موسى به ، وعندما وضعته خافت عليه ، فأوحى الله إليها “أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم” إلى قوله “المرسلين” فلما وضعته في خفية أرضعته ، ثم اتخذت له تابوتاً ثم ألقته في النيل ، وطلبت من اخته أن تراقبه في خفية ، حتى وصل إلى آسية زوجة فرعون ، فقالت “قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً” .
ولما بلغ موسى بن عمران أشده في بيت فرعون كان يركب مراكب فرعون ، ويلبس ما يلبس فرعون ، وكان يُدعى موسى بن فرعون ، وامتنع به عن بني إسرائيل كثير من الظلم والسخرة التي كانت فيهم .
ودخل موسى ذات يوم مدينة منف على حين غفلة من أهلها ، وكان في وقت القيلولة ، فبينما هو يمشي في المدينة إذ هو برجلين يقتتلان ، أحدهما من بني إسرائيل يُقال له السامري ، والآخر من أل فرعون كان خباز فرعون ، “فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه ” الآية ، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ، فوكزه موسى فقضى عليه ، قال موسى “هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين” ثم قال “رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم” .
ولما قتل موسى القبطي لم يره إلا الله والإسرائيلي فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار ، وفي الغد رأى موسى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً فاستغاثه الإسرائيلي على قتال الفرعوني ، فمد موسى يده يريد أن يبطش بالفرعوني وقال للإسرائيلي “إنك لغوي مبين” ، ففر الإسرائيلي من موسى وظن أنه يريد أن يبطش به من أجل أنه أغلظ عليه في الكلام وكان غاضباً ، فلما أقبل لنصرته ومد يده ظن أنه يريد قتله ، فقال له “يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس” ، فأخبر الفرعوني بما سمع وذكر أن موسى هو الذي قتل الفرعوني ، فأخذ فرعون يبحث عنه لقتله ، فجاء إلى موسى رجل من شيعته يُقال له حزقيل وأخبره أن القوم “يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين” ، فتوجه تلقاء مدين .
فلما وصل أرض مدين ورد بئر ماء شهيرة يقصدها الرعاء ليسقون ماشيتهم ، ووجد امرأتين تمنعان أغنامهما حتى ينتهي كل الرعاء من السقاية ، فعرف موسى أنهما ابنتا شعيب وهما اللتان ترعيان الغنم لأن أباهما شعيباً شيخ كبير ، فسقى موسى لهما ، فأخبرتا أباهما بما بدر من موسى ، وطلبت إحداهما وهي الصغرى من أبيها أن يستأجره للعمل لديه ، لأنه قوي أمين ، وكانت هي التي تزوجت من موسى ، وأتم موسى الأجل المتفق عليه بينه وبين شعيب ، ثم قفل عائداً إلى مصر .
جمع موسى غنمه وزوجته وقصد العودة إلى مصر من أجل إخراج أخيه هارون وأهله وبني إسرائيل ، وسلك في عودته طريق الطور الأيمن الغربي غير المألوف لمن يمكن أن يشكلوا عليه وعلى أهله خطورة ، وفي ليلة ظلماء باردة ممطرة آنس من جانب الطور نوراً ، فحسبه ناراً “فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى” أي من يدله على الطريق الصحيح ، فلما آتاها رأى نوراً عظيماً ممتداً من عنان السماء إلى شجرة عظيمة على الأرض فخاف موسى وارتعدت فرائصه ، وبعد اضطراب وخوف نودي من شاطئ الوادي الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة “أن ياموسى” فنظر فلم يرى أحداً فنودي “إني أنا الله رب العالمين” فلما سمع ذلك علم أنه ربه تعالى ، فناداه ربه أن أدن واقرب ، فلما قرب وسمع النداء ورأى تلك الهيبة خفق قلبه وفقد وعيه ، ثم نودي “فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى” كي تمس راحة قدميه الأرض الطيبة فتناله بركتها ، ثم قال الله له “وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي” فقال الله تعالى “ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى” فولى موسى مدبراً ولم يعقب ، فناداه ربه تعالى أن “يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنبن” ، “سنعيدها سيرتها الأولى” وبذا يكون موسى قد علم ورأى طبيعة العصا قبل أن يستعملها عند فرعون .
وبعث الله موسى إلى مصر ، فلما قرب من مصر أوحى الله إليه لا تخف ولا تجزع ، ثم أوحى إلى أخيه هارون يبشره بقدوم موسى ويخبره أنه قد جعله وزيراً له ورسولاً معه إلى فرعون ، وأمره أن يذهب إلى شاطئ النيل كي يلتقي موسى ، وبعد أن التقيا ذهبا إلى فرعون ، فسأله فرعون من أنت ؟ قال أنا رسول رب العالمين ، فتأمله فرعون وقال له “ألم نربك فينا وليداً ، ولبثت فينا من عمرك سنين ، وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين” ، قال موسى “فعلتها إذاً وأنا من الضالين” أي من المخطئيت ولم أرد بذلك القتل ، “ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين” ثم أخذ موسى ينكر على فرعون ما يقول “وتلك نعمة تمنها عليّ أن عبدت بني إسرائيل” أي اتخذتهم عبيداً تنتزع أبناءهم من أيدهم فتسترق من شئت وتقتل من شئت ، وما صيرني إليك إلا ذلك “قال فرعون وما رب العالمين ؟ قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين” قال فرعون “لمن حوله” من قومه “ألا تستمعون” إنكاراً لما قال موسى ، قال فرعون “إن رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون” يعني ما هذا بكلام رجل صحيح العقل إذ يزعم أن لكم إلهاً غيري ، قال موسى ” رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون” ثم قال فرعون لموسى “لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين *قال أو لو جئتك بشيئ مبين” تعرف به صدقي وكذبك وحقي وباطلك ، قال فرعون “فأت به إن كنت من الصادقين فألقى موسى عصاه فإذا هي ثعبان مبين” ، واعتقد فرعون أن ما أتى به موسى وهارون هو السحر ، فقال للملأ من حوله إن هذين لساحران عليمان ، فماذا تأمرون ؟ قالوا اقتلهما ، فقال العبد الصالح حزقيل مؤمن آل فرعون “أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله” وقال الملأ من قوم فرعون”أرجئه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم” ، فلما اجتمع السحرة والناس ، جاء موسى متكئاً على عصاه ومعه أخوه هارون حتى أتيا المجتمع وفرعون في مجلسه مع أشراف قومه ، فقال موس للسحرة “ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب قد خاب من افترى” ، “فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى” فقالت السحرة لنأتينك اليوم بسحر لم تر مثله “وقالوا بعزة فرعون أنا لنحن الغالبون” ثم قالوا لموسى “إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين” ، فألقوا فإذا عصيهم يُخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى ، فأوجس في نفسه خيفة موسى ، فأوحى الله إليه “لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى” ، “فألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون” ، قال فرعون للسحرة “آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر” ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم في جذوع النخل” فأصبحوا سحرة كفرة وأمسوا شهداء بررة .
بقي فرعون على كفره ، وذهب موسى إلى معسكر بني إسرائيل ، ومضت على هذه الواقعة سنون ، وأبى فرعون وقومه إلا الكفر ، وشرع موسى يصلح شئون بني إسرائيل ، وكانت هذه هي فترة إصلاح موسى لشئون قومه وفق التشريع الإلهي الذي جاءه من الله ، في فترة وجودهم في مصر وقبل خروجهم منها .
وقد عانى موسى كثيراً من إصلاح شئون قومه بني إسلاائيل ، فلم يذعنوا ولم يؤمنوا بكل ما جاء به من تعاليم الإصلاح لمجتمعهم ، كما عانى ذلك المجتمع من الآفات والموبقات ، مثل الانقسام الطبقي ، الذي أوضحته قصة قارون وكنوزه الذي تعالى بها على بني إسرائيل ، وعدم الالتزام بتعاليم الله الذي نصرهم على فرعون الذي أذلهم وعذبهم ، واجتراح المعاصي والموبقات ، وكانت هذه هي المرحلة الأولى التي تولى فيها موسى إصلاح مجتمع بني إسرائيل بعد بعثته .
وأمعن فرعون وقومه في إذلال بني إسرائيل وتسخيرهم والتنكيل بهم ، وعندما شكوا ذلك إلى موسى قال لهم “استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يرثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين” قالوا يا موسى “أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا” فقال موسى “عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون” .
وبدأت نقم الله تتوالى على فرعون وقومه استجابة لدعاء موسى ، بعضها في أثر بعض ، فأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات ، ثم بعث الله عليهم الطوفان وهو الماء ، أُرسل عليهم من السماء حتى كادوا يهلكون ، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة ببعضها فامتلأت بيوت القبط بالماء وفاض على أراضيهم وركد فلم يقدروا على أن يحرثوا ، ولم يدخل الماء بيوت بني إسرائيل ، فقال القبط يا موسى ادعو لنا ربك يكشف عنا هذا العذاب فنؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا موسى ربه فرع عنهم الطوفان ، فلم يؤمنوا به ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، وعادوا إلى أشر مما كانوا عليه .
فأنبت الله لهم في تلك السنة من الكلأ والزرع والثمر ما لم ينبت قبل ذلك ، فأعشبت بلادهم وأخصبت ، ثم أرسل عليهم الجراد فأكل كل زروعهم وثمارهم وأوراق أشجارهم وزهرها وكل شيئ يصادفه في طريقه ، وكان الجراد لا يدخل بيوت بني إسرائيل ولا يصيبهم منه شيئ ، وقال الفراعنة “يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل” فأعطوه عهد الله وميثاقه ، فسأل موسى ربه فكشف الله عنهم الجراد بعد أسبوع من غزوه لهم .
وبعد شهر بعث الله عليهم القمل وهو السوس الذي يخرج من الحبوب ، وانتشرت هذه الحشرة في كل مكان في بيوت الفراعنة وحتى أجسادهم ، فلما رأوا ذلك شكوا إلى موسى ، وقالوا ادعو لنا ربك يكشف عنا هذا العذاب ، فدعا موسى ربه فكف عنهم القمل ، ثم نكثوا العهد وعادوا إلى أخبث أعمالهم .
ثم أخرج عليهم الضفادع من النيل كأنها الليل الدامس فدخلت على القبط بيوتهم وامتلأت بها أفنيتهم وآنيتهم ، فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى ، وقالوا اكشف عنا هذا البلاء ، فإننا نتوب هذه المرة ولا نعود ، فأخذ على هذا عهودهم ومواثيقهم ، ثم دعا موسى ربه أن يكشف عنهم العذاب ، فكشفه عنهم .
ثم نقض أهل فرعون العهد وعادوا إلى كفرهم وتكذيبهم ، فدعا عليهم موسى فأرسل الله عليهم النيل دماً وصارت مياههم كلها دماً ، عندئذ يئس موسى من إيمان فرعون وقومه بعد أن مكث فيهم عشرين سنة ، فدعا عليهم وأمّن هارون ، قال “ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم” ، فأجاب الله دعاءهما “قد أجيبت دعوتكما فاستقيما” .
أوحى الله إلى موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر ، وأخبره مشايخ بني إسرائيل أن يوسف عليه السلام قد أوصى أخوته بأن يأخذونه معهم إلى الأرض المقدسة ، فأخرج موسى تابوت يوسف ، وكذا فعل كل بني إسرائيل ، فحملوا موتاهم وسرى بهم موسى بعد الفجر ، ولما بلغ البحر ضربه بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، فتقدم موسى ومعه بنو إسرائيل ليعبروا البحر وتبعهم فرعون بجنوده ، فلما انتهى بنو إسرائيل من عبور البحر عاد كما كان وابتلع فرعون وجنوده .
ثانياً : موسى وبنو إسرائيل في التيه والأرض المباركة :
لما نجّى الله موسى وبني إسرائيل من فرعون لم يكن لهم شِرعة ولا كتاب يحمل رسالة الله إليهم بالأوامر والنواهي والفرائض والشعائر والأحكام ، وواعد الله موسى بصيام ثلاثين يوماً ثم زادهم عشراً ، قال تعالى “وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر” وقال “وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة” ، ثم صعد موسى الجبل للقاء ربه فأنزل عليه التوارة في ألواح ، قال تعالى “يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين” .
وفي الوقت الذي ذهب موسى للقاء ربه وتلقي التوراة في ألواح استخلف أخاه هارون في بني إسرائيل ، وكان أن صنع لهم السامري عجلاً وأوهمهم بأنه إلههم فعبدوه ، وأخبر الله موسى بما حدث في بني إسرائيل ، فرجع موسى غضباناً حزيناً ، ثم قال لهم توبوا إلى الله فبقتل البرئ المجرم الكافر ، واختار موسى سبعين رجلاً للقاء الله وحدث ما سبق وقدمنا في شأن تسمية اليهود بهذا الإسم .
في الطريق إلى أرض كنعان أو العماليق ، وهي فلسطين الأرض المقدسة التي باركها الله ووعد بها موسى ومن معه من بني إسرائيل الذين أصبحوا اليهود أو الذين هادوا ، وبعد أن قضى موسى على الكنعانيين العماليق وتملك اليهود الأرض المباركة انتشروا فيها وأسسوا مجتمعات في مدن متفرقة ، ولم يقدّر لموسى أن يؤسس مجتمعاً جديداً من اليهود تحكمه وتقوده أحكام وتعاليم التوارة ، ولكن طبيعة تكوين بني إسرائيل وطبيعة الحياة التي عانوها في مصر تحت مذلة فرعون وعذابه طبعت في تكوينهم الاعوجاج وحب المعصية والاجتراء على الله ، فلم يتسن لموسى إلا أن يحاول استخدام تعاليم وأحكام التوراة في أصلاح شئون اليهود ، وقد بذل موسى كل جهده ، وقد تأبى مجتمع اليهود على الإصلاح ، فتوالت عليه الرسل والأنبياء .
ثالثاً : إلياس وإليسع وذي الكفل وبنو إسرائيل :
وكان الأنبياء من بعد موسى يبعثون إلى اليهود ليجددوا لديهم ما نسوا وضيّعوا من أحكام التوراة وهم متفرقون في أرض الشام ، وقد بعث الله إلياس بن ياسين إلى بعلبك ونواحيها ، وهو مجتمع كان يعبد الأصنام ، وقد حاول النبي إلياس نشر الإصلاح وتعاليم التوراة في ذلك المجتمع فاستجاب له كبيرهم وتبعه أفراد المجتمع ، وقد عاصر إليسع وكان شاباً إلياس وساعده في نشر التعاليم الإصلاحية للتوراة في بعلبك ، وعندما شاخ إليسع وأرهقه الحكم وسياسة اليهود في بعلبك أراد أن يولّي عليهم من يعدل بينهم ، فولّى عليهم رجلاً صالحاً تكفل بأن يفعل ثلاثة أفعال خيّرة ، أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ، ومن ذلك سُمي ذو الكفل .
رابعاً : شمويل وطالوت وبنو إسرائيل :
وبعد ذي الكفل بعث الله في بني إسرائيل نبياً يُقال له شمويل أي إسماعيل بالعربية ، ومكث في بني إسرائيل أربعين عاماً يصلح أحوالهم ويرعى شئونهم ويقضي بينهم ، وفق تعاليم وأحكام التوراة ، ولما كان جالوت والعماليق قد أخرجوا بني إسرائيل من أرض كنعان ، وكانوا يريدون العودة إلى ديارهم ، قال تعالى”ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم إبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله” ، والنبي هو شمويل ، قال تعالى “وقال لهم نبيهم أن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً” ، “فقالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال” ، وقد قال بنو إسرائيل ذلك في شأن طالوت لأنه كان في بني إسرائيل سبطان : سبط نبوة وهو سبط لاوي بن يعقوب ومنهم موسى وهارون ، وسبط مملكة وهو سبط يهوذا بن يعقوب ومنهم داود وسليمان ، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا سبط المملكة ، وإنما كان من سبط بنيامين بن يعقوب الذين غضب الله عليهم ونزع منهم النبوة والملك ، وقد أمر شمويل طالوت بالخروج على رأس الجيش لملاقاة جالوت والعماليق .
خامساً : داود وسليمان :
لما قتل داود جالوت ، دامت الشحناء بين داود وبين طالوت ملك بني إسرائيل لسبع سنوات إلى أن مات طالوت ، وكانت اليهود يرون في داود خيراً فملّكوه عليهم ، قال تعالى “يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض” الآية ، وقال “وآتينا داود زبوراً” والزبور هو الكتاب المقدس الذي أنزله الله على داود باللغة العبرانية ، ونزل في مائة وخمسين سورة ، خمسين منها ذكر ما يكون من بختنصر وأهل بابل ، وفي الخمسين الثانية ما سيكون بين الروم والفرس ، وفي الخمسين الأخيرة مواعظ وحِكم ، ولم يكن فيه أحكام ولا حلال ولا حرام ، ومكث داود في بني إسرائيل زمناً غير محدد يحكمهم ويصلح أمورهم ويفصل بينهم ويطبق فيهم أحكام التوراة ، ثم انقطع عنه الوحي سنتين ، ثم مات ، وقبل موته ولّى سليمان شأن اليهود .
قال تعالى “وورث سليمان داود” أي ورث النبوة والحكمة والعلم والملك دون سائر أبنائه وكان لداود تسعة عشر إبناً ، وكان سليمان أعظم ملكاً من أبيه ، وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبداً من إبنه سليمان ، وقد سخر الله لسليمان الجن والإنس والطير والوحوش والشياطين يعملون له ما يشاء ، وحكم سليمان اليهود بأحكام التوراة .
سادساً : زكريا ويحي :
عندما توفى سليمان بغت اليهود وطغت وفسدت ، وأرسل الله فيهم النبي تلو الآخر ، ولم يتم إصلاح أحوال اليهود إلى أن قدم إليهم بختنصر من بابل فدمر بيت المقدس وقهر اليهود وشتتهم في كافة الأنحاء ، بعد أن أسر الرجال ، واستولى على كل عير وعرض ، وسبى النساء ، ومن أنبياء هذه الفترة شعياء وأرميا ودانيال وعزير ، وكلهم حاولوا إصلاح أحوال اليهود وردهم إلى أحكام التوراة ، ولكن جهود هؤلاء الأنبياء لم يُقدّر لها إصلاح أحوال اليهود لاستفحال الفساد ومروق الناس .
انتهى السبي البالبلي وعاد بنو إسرائيل من أرض بابل إلى بيت المقدس وبلاد الشام ، وانتظمت أمورهم ، ولم يزالوا يحدثون الأحداث ، ويعود الله عليهم بفضله ورحمته ويبعث فيهم الرسل والأنبياء ففريقاً يكذبون وفريقاً يقتلون ، حتى كان ممن بُعث فيهم من أنبيائهم زكريا ويحي وعيسى وكانوا من آل بيت داود .
وكان ممن بُعث في بني إسرائيل زكريا بن يحي ويحي بن زكربا وعيسى بن مريم ، وقد عاش زكريا بن يحي منذ بُعث في بني إسرائيل وهو يترأس علماء اليهود ويقود المعبد ويحكم بينهم ويسوسهم بأحكام التوراة ، وعند سن مائة وعشرين عاماً بُشّر بيحي ، قال تعالى “يا يحي خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً” ، وظل زكريا وابنه يحاولان إصلاح اليهود جهدهما ، ولكن كانت نهايتيهما القتل على أيدي اليهود .
سابعاً : عيسى بن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل إلى اليهود :
ثم كان ميلاد عيسى بن مريم آخر رسل الله وأنبيائه إلى بني إسرائيل ، وهو من أولي العزم ، وأُنزل عليه الإنجيل ثاني أهم الكتب الإلهية بعد التوراة ، وعيسى بن مريم هو الرسول الذي بُعث منذ مولده ، في اليهود الذين فسدوا وطغوا وقتلوا يحي وزكريا ، وجحدوا العمل بتعاليم التوراة ، فكان مبعث عيسى لإصلاح اليهود الذين لم يجد معهم أي إصلاح .
جاهد عيسى بن مريم من أجل إصلاح مجتمع اليهود وأيده الله في ذلك الجهاد بروح القدس وهو جبريل عليه السلام ، وأنزل عليه الإنجيل مكملاً ومتمماً للتوراة التي أنزلها على موسى ، فالكتابان والشِرعتان نزلا في اليهود لإصلاح مجتمعهم الذي نزل فيه كل الرسل والأنبياء بدءً من إسحاق ويعقوب وانتهاءً بعيسى بن مريم بالإضافة إلى بعض الأنبياء الذين بعثوا من بعده وهم قليلون .
وقد بعث عيسى بن مريم برسله لمجتمعات أخرى ، فقد أرسل إلى قرية إنطاكية رسولين فلما كذبهما أهل هذه القرية عزز برسول ثالث ، فلما كذبوا الرسل الثلاثة أرسل الله عليهم جبريل فصاح فيهم صيحة فإذا هم خامدون .
واشتد أذى اليهود لرسول الله عيسى بن مريم وكذّبوه وقذفوه وأمه عليهما السلام ، وأطبقوا عليه ليقتلوه كما قتلوا يحي وزكريا وغيرهم من الأنبياء ، ونجّاه الله منهم بأن توفاه ورفعه إلى السماء .
قال تعالى “إني متوفيك ورافعك ومطهرك من الذين كفروا” ، وتوفّى الله عيسى بن مريم أي أماته ، ثم رفعه إليه ، وطهره من رجس اليهود ، وبعد عيسى بن مريم تخوّل الله اليهود بمزيد من الأنبياء الذين لم يُقدّر لهم إصلاح أحوال اليهود ، وعمد اليهود كدأبهم إلى تقتيل أنبياء الله ، ومجاهرة الله بالكفر ما جعلهم نكال الآخرة والأولى .








