لقد ابتكرت واختلقت النظم السياسية الفاشلة الفاسدة فرية وخرافة الإرهاب ، لكي تجد الذريعة التي تتذرع بها في إرهاب الشعوب ، وهذا هو إرهاب الدولة ، وكان ذلك أحد أهم تداعيات الثورات العربية ، فما هو التكييف المنطقي الموضوعي لمفهومي “الإرهاب” و”الثأر” ، وما هي منطلقات عملية صناعة الإرهاب من قبل النظم العربية الفاسدة ، وكيف يتسنى لنا دراسة وتحليل هذه العملية المشينة والخسيسة التي تقوم بها تلك النظم السياسية ، عبر هذا المقال نقوم بالدرس ونتولى التحليل .
أولاً : مفهومي “الإرهاب” و”الثأر” والفصل بين الفعلين المبدئي والثأري :
سريعاً نداول جملة من الأفكار نجيب من خلالها على حزمة من الأسئلة المثارة في صدد العلاقة بين مفهومي الإرهاب والثأر ، لعلها تفيد في إجلاء الغيم عن المفهومين وتقريبهما إلى الأذهان ، حتى تسهل عملية التحديد والتدقيق بمنطقية وموضوعية في ما تقوم به النظم العربية من صناعة الإرهاب وسحق المعارضة بهذه الذريعة الخسيسة ، ونتدرج في ذلك التداول على النحو التالي .
أ : التكييف المنطقي الموضوعي لمفهومي “الإرهاب” و”الثأر”: الإرهاب هو دوماً نتيجة لفعل مبدئي يصدر من فاعل ، أما الثأر فهو رد فعل في إطار علاقة جدلية هي الصراع بين طرفين ، أحدهما بادر بالآعتداء والتعدي والآخر لم يفعل أكثر من الرد بالفعل المتاح له القيام به ، ونوضح ذلك فيما يلي :
(1)الإرهاب فعل مبدئي : الإرهاب هو نتاج لصراع بين طرفين ، يستخدم كل منهما في مواجهة الآخر كافة الوسائل المتاحة للتخويف والترويع ، بهدف الردع أو الإذعان والإخضاع والتسليم ، أو بإنهاء الوجود في نهاية الأمر .
فالإرهاب إذن ظاهرة صراعية بين أطراف يفترض فيهم الندية ، مثل الصراع بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع ، أو بين الدول داخل المجتمع الدولي ، أو لا يفترض فيهم الندية ، مثل الصراع بين الدولة وبين الأفراد والجماعات بداخلها ، أو بين المجتمع الدولي ممثلاً في تنظيم دولي أو منظمة دولية وبين دولة أو مجموعة دول ، مما تقدم نستنبط جملة من الحقائق بخصوص الإرهاب :
*أول هذه الحقائق أن الإرهاب هو نتيجة لفعل أو سلوك أو حركة ، وهنا تثار مشكلة النية والقصد والفكر والقول ، وكلها أمور تظل دون الفعل أي لا تصل إلى حد السلوك والحركة ، فالنية والقصد محلهما ما يجول في النفس والفكر وما يتبلور في العقل ، والقول ما ينطق به اللسان كتعبير لفظي عما تكنه النفس ويختزنه العقل ، فهذه الأمور الثلاثة لم ترق إلى مستوى الفعل والحركة والسلوك ، فهل عندما تتشكل وتتبلور تصبح في عداد ما يوصف بالصراع المسبب للإرهاب ، بعبارة أكثر دقة هل يمكن القول بالنية في الإرهاب أو التفكير في الإرهاب أو القصد الإرهابي والنية الإرهابية ، وهل يمكن القول بالكلام الإرهابي أو الأقوال الإرهابية !
إن ما يمكن التحدث به في هذا الصدد ، هو أن الأمور الثلاثة التي تحدثنا عنها ، ليس لها كيان ملموس بمحض وجودها وواقعها هي في ذاتها ، ولكن لا يمكن الإمساك بها والتعويل عليها إلا بالفعل ، أي بعد حدوث ووقوع الفعل الصراعي المسبب للإرهاب الذي يصدر عن الفاعل في شكل سلوك أو حركة ، فثمة منطلقات ثلاثة متتابعة تحدث بشكل متتابع تبدأ بالنية أو القصد ، ثم تتبلور تلك النية ويتشكل ذلك القصد في هيئة فكرة ، فالأولى محلها في عموم النفس وثنايا الذات ، والثانية موطنها العقل ، ثم تخرج الفكرة من العقل ليلهج بها اللسان في شكل قول ، ومعنى ذلك أن الفعل يبدأ قصداً ثم يقترب رويداً من شكله النهائي ، وهو في القصد لا يُلتفت إليه لعدم الإحساس به ، ثم في الفكرة التي محلها العقل لا يُكترث به لعدم استشعاره ، ثم يبدأ الإحساس به والإلتفات إليه ، وهو في منطق لفظي أي كلام ، وبالرغم من ذلك لا يؤبه إليه ، لأنه لم يتحول إلى فعل وسلوك وحركة ، ولم يترتب عليها مساس بالآخر بأي شكل من الأشكال .
* ثاني هذه الحقائق أن الإرهاب نتيجة لفعل مبدئي ، إذا كنا قد أثبتنا أن الإرهاب نتيجة لفعل ، ولا يمكن أن يُلتفت إليه إلا إذا وصل إلى مرحلة نتاج الفعل ، فإن ثاني هذه الحقائق هي أن الإرهاب نتاج فعل مبدئي ، أي بادئ من الطرف الذي صدر منه وبمبادرة منه ، وليس رد فعل ، فليس ثمة سابقة علائقية بين الطرفين الذي بدر من أحدهما الفعل المسبب للإرهابي في إتجاه الآخر ، في هذه الحالة أو الوضعية فقط ، يمكن الحديث عن الإرهاب والفعل المسبب له.
* ثالث هذه الحقائق هي أن الإرهاب عندما يتبلور متدرجاً على النحو السابق ، يضع أول منطلقات وأسس الصراع بين الطرفين ، ومن ثم يصبح الفعل الإرهابي المبدئي بمثابة بداية وفاتحة لصراع بين طرفين ، والندية أو التوازن في القوة بين طرفي الصراع الإرهابي ، قد تكون قائمة وقد لا تكون قائمة أي ليس لها وجود .
*رابع هذه الحقائق أن الذي صدر منه الفعل الصراعي المسبب للإرهاب المبدئي ، يستخدم كافة وسائل التخويف والترويع المتاحة لديه ، حتى يتمكن من الحصول على أكبر قدر ممكن من النتائج أو الأهداف التي يأمل في الوصول إليها .
* خامس هذه الحقائق أن الفعل الصراعي المسبب للإرهاب يستهدف تحقيق أهداف معنوية أو مادية ، ولكنها تنتهي دوماً إلى الردع أو الإذعان والإخضاع والتسليم أو بإنهاء الوجود في نهاية المطاف .
(2) الثأر رد فعل في سياق علاقة جدلية : لقد انطلق الفعل الصراعي المسبب للإرهاب من معقله واستوت له كافة عناصر الوجود والاكتمال ، والآن ما هو حكم الرد عليه من الطرف الذي وقع عليه وفي حقه ذلك الفعل ، وهنا لا يستقيم أن يطلق على الرد فعل مسبب للإرهاب ، ولكنه في حقيقته فعل ثأري له مواصفات ويرتبط هو الآخر بمجموعة من الحقائق :
*أول هذه الحقائق أن الثأر هو رد على فعل صراعي مسبب للإرهاب ، فأصبح فعلاً مسبباً هو الآخر للإرهاب لكنه ليس مبدئياً ، بل جاء في سياق علاقة جدلية ، وهذه الحقيقة غاية في الأهمية والحساسية والخطورة ، ولابد من التنبه إليها والتركيز والتأكيد عليها ، عند تكييف حالات ووقائع وسوابق ما يسمى أو يوصف بالأفعال المسببة للإرهاب على كافة المستويات المحلية والدولية والعالمية .
* ثاني تلك الحقائق أن الإرهاب كنتيجة لفعل صراعي مبدئي غير مبرر وغير مقبول تحت أي ظرف وبأي شكل من الأشكال ، أما الفعل المسبب للإرهاب الثأري ، الذي جاء في سياق علاقة جدلية ، كرد فعل على فعل صراعي مبدئي مسبب للإرهاب ، فهو فعل مبرر ومقبول ، تحت دعاوى وأسانيد شرعية وقانونية واجتماعية معروفة ومعترف بها .
* ثالث تلك الحقائق أن الفعل المسبب للإرهاب الثأري الذي جاء في سياق علاقة جدلية ، كرد فعل على فعل صراعي مبدئي مسبب للإرهاب ، يصبح من حقه أن يستخدم كافة الوسائل المتاحة لدفع الاعتداء ورد التعدي .
* رابع تلك الحقائق أن الأهداف الأساسية المبدئية للفعل المسبب للإرهاب الثأري الذي جاء في سياق علاقة جدلية كرد فعل على فعل صراعي مسبب للإرهاب ، تتجسد بداءة في دفع الاعتداء ورد التعدي ، ولكنها قد تتطور لتصل إلى نفس أهداف الفعل الصراعي المبدئي المسبب للإرهاب ، بل ويمكن أن تصل إلى قمة التطور فتستهدف إنهاء وجود صاحب الفعل المبدئي المسبب للإرهاب .
ب : إشكال الفصل بين الفعل الصراعي المبدئي المسبب للإرهاب والفعل الثأري المسبب للإرهاب : إذا كان التحليل المتقدم يتسم بمزيد من المنطقية والموضوعية ، فإن ثمة صعوبة تكتنف ذلك التحليل ، وهي المتعلقة بعملية الفصل بين ما يسمى بالفعل الصراعي المبدئي المسبب للإرهاب ، وبين ما يعرف بالفعل الثأري المسبب للإرهاب ، الذي جاء في سياق علاقة جدلية ، كرد فعل على فعل مبدئي مسبب للإرهاب ، ويمكن التعامل مع هذه الصعوبة على النحو التالي :
(1) ينبغي الفصل الدقيق والتمييز الواضح بين الأفعال الصراعية المبدئية المسببة للإرهاب والأفعال الثأرية المسببة للإرهاب على المستوى الفكري ، وذلك بوضع معايير وضوابط لكل فعل من الفعلين ، عبر تأصيلات وتنظيرات موضوعية محايدة يقوم بها خبراء وعلماء في تخصصات شتى ، ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالأفعال المسببة للإرهاب ، وسوف يُلاحظ أن ثمة مداخل عديدة متشابكة ومتداخلة يمكن عن طريقها الولوج إلى الظاهرة ودراستها ، ومن شأن كل مدخل أن يزيل غموضاً حتى تتضح الظاهرة في نهاية المطاف ، وتستبين حقيقة الأفعال هل هي إرهابية مبدئية أم إرهابية ثأرية .
(2) ترتيباً على الضوابط والمعايير التي تم صياغتها عبر تأصيلات وتنظيرات موضوعية ومحايدة ، يتم تكييف الوقائع والثوابت التي تجري في الواقع ، وذلك بدراسة كل واقعة بدقة وتفصيل وعدم إخفاء حقائق أو سترها والتخلي عن الأحكام المسبقة والتحيزات بجميع أشكالها ، وأن تصدر عمليات التكييف من جهات بعيدة عن أطراف الأفعال المسببة للإرهاب بشكليه .
(3) إن من شأن عملية الفصل بين الفعل الصراعي المبدئي المسبب للإرهاب والفعل الثأري المسبب للإرهاب ، أن تبين أن كثيراً من الأفعال المسببة للإرهاب التي كانت تعامل على أنها أفعال مبدئية مسببة للإرهاب ، هي أفعال ثأرية مسببة للإرهاب ، جاءت كردود أفعال في سياق علاقات جدلية ، وذلك على كافة المستويات الداخلية والخارجية ، وهذا ما سوف نحلله في المطلب الثاني .
ثانياً : منطلقات عملية صناعة النظم العربية للإرهاب :
المتابع لتاريخ المنطقة العربية ونظمها السياسية التي نشأت بعد التحرر من الإستعمار الأوروبي ، يمكنه أن يستنبط كيف صنعت تلك النظم الإرهاب ، نسجاً من خيالها ، ثم تركيباً من أفعالها ، ليكتمل الخيال والفعل في عملية تتم عبر منطلقات متتابعة تستهدف في النهاية الحفاظ على وجودها وتدمير معارضيها وخصومها .
أ : المنطلق الأول : إخفاق النظم السياسية في تحقيق أهدافها : لعل أول ما دفع النظم السياسية العربية في التفكير في ذريعة الإرهاب هو إخفاقها الذريع في تحقيق طموحات الشعوب التي أطلقت لها الوعود بالحرية والديمقراطية والرفاه الاجتماعي ، وكانت المعادلة المطروحة على تلك النظم في ذلك الوقت والمطلوب منها معادلة طرفيها هي ، كيف يمكن للنظم العربية بالرغم من إخفاقها أن تحتفظ بالسلطة وتسحق معارضيها ؟! فكان المنطلق الثاني .
ب : المنطلق الثاني : معارضة أفراد المجتمع لتلك النظم واحتجاجهم على ما بها من عجز وفساد : لقد ضج أبناء المجتمعات العربية بالشكوى ، وبرزت منذ أوائل الستينيات من القرن العشرين في مواجهة نظم سياسية عديدة في مقدمتها مصر وسوريا والعراق معارضة من أبناء الشعب ، سواء في شكل جماعات كجماعة الإخوان المسلمين ، وفي شكل أحزاب كحزب الدعوة ، وفي شكل أفراد وشخصيات عامة ، وتنامى الاحتجاج مع الوقت إلى أن شرع يأخذ شكل مظاهرات واحتجاجات شعبية وإضرابات كثيفة ومتعددة ، ناهيك عن ظهور الحركات المعارضة في داخل الدول العربية ، وبروز وتطور ظاهرة المعارضة من الخارج ، وذلك خلال عقود التمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين .
ت : المنطلق الثالث : القهر والكبت والقمع والإرهاب والتخويف واستعداء الناس باستخدام الجيش والأمن : لم يكن أمام النظم السياسية العربية من بد إلا الإفراط في القهر والكبت والقمع والإرهاب والتخويف واستعداء الناس باستخدام الأمن والجيوش كما سبق وأوضحنا في موضع خلا ، وهذا الأسلوب هو رد فعل وسلوك طبيعي من نظم متخلفة فاشلة ليس لها شرعية ، ما يضطرها إلى فرض وجودها واستمرارها بهذه الأساليب الدموية القهرية على شعوب مغلوبة على أمرها .
ث : المنطلق الرابع : اعتراض الناس على سلوك النظم السياسية ورفضهم لأساليبها : لم يستسلم أبناء الشعب العربي وواصلوا احتجاجهم ورفضهم على الأساليب القهرية للنظم السياسية ، وتحول الوضع إلى صراع بين تلك النظم والشعوب العربية التي رفضت المذلة والقهر ، ما حدا بالنظم السياسية إلى التفكير في حيل شيطانية للقضاء على المعارضة وسحقها تبدو ضرورية وواجبة للحفاظ على “الأمن القومي” .
ج : المنطلق الخامس : شيطنة أي معارض ووصفه بالإرهاب والتذرع بذلك للقضاء عليه : كانت الحيل الشيطانية التي احتالت بها النظم العربية على السذج والبلهاء هي شيطنة أي معارض لها ووصفه بالإرهاب للتذرع بذلك من أجل القضاء عليه ، وايهام الخارج بفرية وخرافة الإرهاب ، وهذا ما فعلته كل النظم العربية بدون استثناء قبل وبعد تفجر الثورات العربية .