الرئيسية » تحرر الكلام » الخريف ..

الخريف ..

خرجت من منزلي اليوم نحو وجهتي الصباحية المعتادة ، كانت الشوارع مبلّلة فالمطر لم يعلن توقفه منذ ليلة البارحة ، فيضفي على الجو برودة لم تكن في يوم مضى لتداعب نسمات الصباح خدك الدافئ لتذكرك بأن شتاء هذاه المدينة سيكون صعب ممل طويل و قارس..
ترجلت من الحافلة لأكمل وجهتي سيراً على الأقدام ، كان الرصيف اليوم قد صُبغ بالحمرة على غير العادة ، فعلى ما يبدو أن المطر قد أثقل على تلك الوريقات فراحت تتساقط الواحدة تلو الأخرى حتى غطّت ذاك الرصيف و راحت تنسدل علية كغطاء جميل بعد أن فارقت ذاك الغصن دونما عودة ، فالخريف كان قد زار هذه المدينة منذ شهر و نَيّف ..
..
رفعت رأسي أراقب تلك الأشجار ، أو لعلي كنت أحصي كم من الأوراق كانت ما تزال عالقةً على تلك الأغصان محتفظةً بشموخها و رونقها رغم تلك النسمات و القطرات و بعد تلك الليلة الباردة ، فلعلّها كانت تهاب ذاك الرصيف أيضاً ، لا أدري..
تنقلت بناظريّ من شجرة إلى أخرى ، كانت الألوان تسحرك لتسرقك من مكانك بل و من زمانك أحياناً ، فعلى ما يبدو أنّ خريف هذا المكان سيجعلني أعشق هذا الفصل أكثر من الربيع الذي أهواه ، فألوان الخريف لا يقل جمالاً عن الربيع الذي نعرفه ، فكل شجرة هنا تحمل طابعاً يختلف عن الأخريات بلونها و جمالها ، ليحزنك فكرة أنك لن تحظى برؤية هذا الجمال إذا ما ودّع هذه الشوارع إلا بعد عام من الآن ، إذا كان قد كُتب لك أن تشهده بعد عام بالطبع ..
فتلك الأغصان ستصبح عارية تتلحف الثلوج لأشهر عدة قبل أن يحنو الربيع عليها فيزورها مجدداً..
جلست على مقعدي المعتاد أنتظر تلك الجمل ، الكلمات و الأحرف التي باتت تصيبني بالملل ، لا اعلم لماذا لم يستهويني يوماً البحث بين كلمات لغة غير لغتي الأم ..
لم يكن في يومي ما يشحن قلمي و يجعله يخط كلماتي و يرسمها إلى أن دخل الصف زائران لم يسبق لي أن رأيتهما من قبل و لا أعتقد أنني سأراهما بعد هذا اليوم ..
كانتا ضيفتان على حصتي الدراسية ، كان جميع الحاضرين ينصت لحديثهما دون حتى أي همس يذكر على غير العادة ، و بعد قرابة النصف ساعة من حديثها ذاك اتَّخذتُ من الباب وجهة لي خارجة من تلك القاعة علّي أستنشق بعض الهواء النقي ، قبل أن أعود ثانيةً إلى ذاك السجن فقد شعرت حينها أن جدران المكان باتت تطبق على أضلعي و كأنّها لن تتركني أبرح المكان إلا تحت أنقاضها أو ربما تحت أنقاض تلك الكلمات لا أعلم ..
و لكن و قبل أن أتحدث عن فحوى ذاك الحديث المشؤوم سأعود بأدراجي في الذاكرة حينما دخلتا تعرفان عن نفسيهما ، فقد قالت مبتدأة الحديث إحداهما ملقية التحية علينا معرفة عن اسمها ثم أردفت :
” أنني و زميلتي موفودتان من الخدمة التي تعتني بصحة المرأة ”
لم تسلم تلك المرأة حينها من نظرات التعجب و الدهشة و من تعليقات رجال كانوا يحضرون تلك المحاضرة ، قائلين و ربما ساخطين :
ماذا عن الرجال ؟؟
قاطعت تلك التعليقات بصوت مِلؤه الثقة قائلة مجدداً ..
انني هنا للحديث عن الصحة النفسية للنساء و ليس عن الصحة الجسدية هذا أولاً ، و ثانياً فإن كنتم ستسألون ما الفائدة في أن نستمع لمناقشات و نقبع أسرى مدة الساعتين و نَيّف من أجل صحة النساء فسأخبركم قبل أن تبادروني بأسئلتكم ..
” إن صحة النساء النفسية ترتكز أولاً و آخراً على وعي الرجل و ثقافته بنفسية المرأة ، اطّلاعه ، و طريقة تعامله معها مهما كان الرابط الذي يجمعه بها ، سواء أكانت أم ، اخت زوجة صديقة أم حبيبة … ”
فإذا بتلك القاعة تبدأ بالهدوء مجدداً ليحكم عليها سكون و يطبق على الأجواء الصمت للحظات قبل أن تكمل تلك المختصة كلامها قائلة :
إن العنف ضد المرأة لا يوضع ضمن قالب واحد و هو الضرب ، فالإهانة الكلامية عنف و احتقارها عنف ، و استعبادها من منطلق نفسي مريض أو ربما من منطلق ديني عنف ، فالمرأة حرة ، تساوي الرجل بكل شيء ، فكلاهما لديهما القوة على التفكير و كليهما يمتلكان حق تقرير المصير ..
فالدراسة لها حق و العمل أيضاً ، فمجالات الحياة ليست قصراً على الذكر دون الأنثى ..
ثم أردفت :
إن العنف لا يكمن فقط في ما قد ذكرناه مسبقاً بل حتى التحكم في مأكلها ضحكتها و طريقة كلامها عنف ، فهو بذلك يهين كرامتها و يحد من حريتها بطريقة أو بأخرى …
فلا يحق لأي رجل هنا أن يهين امرأة مهما كانت صلة قرابته بها سواء زوجته أو أخته و ما إلى ذلك ، ثم أنه لا يمتلك و لا حتى ذرة من الحق تجعله بتجرأ فيحرم أطفاله من أمّهم أو العكس مهما كانت الأسباب و الظروف و لا حتى من باب التّهديد كأن يقول على سبيل المثال ” اخرجي من عتبة هذا الدار فأنا من سيعتني بأطفالي ”
فهم ليسوا أطفاله وحده و القانون هنا مع المرأة إلى أبعد الحدود و لا يمكنه حتى من أن يتوعّد لها بذلك ..
و قبل أن تنهي جملتها الأخيرة وجدت نفسي خارج القاعة أتنفس الصعداء و أحاول أن أمسح دمعة كانت قد هربت من عينيّ..
لاأعلم لما تأثرت بكلامها إلى تلك الدرجة ، و لا أدري لما كنت طيلة حديثها ذاك يمر على مرآي صور نساء موطني في الحرب و الملاجئ ، في السجون و المعتقلات ، في الظلم و تحت وطأة الخناجر و حتى الحناجر ، فكم من امرأة تعاني أشد أنواع التعذيب النفسي و هي قابعة في بيتها الذي هو أشبه بسجن لا منزل عند شخص أو ربما أشخاص يمارسون عليها أشد أنواع الظلم فيدمّرون داخلها في كل يوم يمضي بل في كل دقيقة شيء جميل كانت قد امتلكته يوماً في شخصيتها التي باتت قد تشتاق إليها أو ربما لم تعد تتعرف إليها فلم تعد تجد نفسها الأولى ..
لم يحزنني كلامها عندما قالت أنه لا يحق لرجل أن يستعبد امرأة من منطلق ديني ايّاً كان ، فنحن من أوصلنا تلك الفكرة السوداوية عن ديننا الحنيف فديننا بريء ممّا يفعلون و لكن يا ليتهم يعلمون ، و كيف لهم أن يعلمون يا صاحبي و نحن من نزعم أننا نتبع ذاك الدين لدينا من الأخطاء لا تعد و لا لك أن تحصيها لنجد الكثيرين يظلمون و يبغي بعضهم على بعض خلف ستار الدين و الله بريء مما يزعمون ..
ما إن انقضت تلك الساعتان حتى أطلقت العنان لقدميّ كطائر فُتح له باب سجنه فأطلق لجناحيه العنان بعد أن فقد الأمل بأن يبصر رفيفهما يوماً ، ناسية أن أحتمي من ذاك المطر الغزير تحت مظلتي لأسير بخطى سريعة أعود أدراجي ، آملة أن أصل إلى وجهتي بأسرع وقت ممكن ..
لم أشعر أن ملابسي اخضلّت بالماء و أصبحت نديّة إلى أن مررت بذاك الشارع حيث الرصيف و الأشجار حيث الخريف و الأوراق ، لتتباطئ خطواتي دون شعور رافعة رأسي للسماء ، أراقب هطول تلك القطرات و غزارتها حيناً و انتقل بناظري نحو الأغصان حيث تلك الأوراق حيناّ آخر ، لأهمهم لنفسي قائلة ، هناك نساء كثر قد التحفوا الرصيف بعد أن أثقلتهم مصاعب الأيام و ظلم الأحداث فسقطوا بعد أن حاولوا مراراً و تكراراً الوقوف في وجه تلك الشدائد حتى باتت قوتهم معدومة تماماً مثلك أيتها الوريقات …
و لكن ليس دائما ما يكون الرصيف بتلك البرودة ، و ليس على الدوام تكون نهايتها كنهايتك على قارعة الطريق أيتها الورقة ، بل لعلّ هذا الرصيف سيحنو عليها أكثر من ذاك الغصن و لربما يأتي يوماً تتوضّع فيه مجدداً على ذلك الغصن و لكن خضراء لامعة تنبض بالحياة ، تماماً كدورة حياتك أيتها الشجرة ، فإنك لن تبقي أبد الدهر عارية لابد أن تزورك أوراقك مجدداً لتدفئ برد أشهر سبقت ذاك الربيع ..
و رحت أكمل المسير مجدداً و لكن هذه المرة كنت عازمةً أن أكمل طريقي دون أن أحتمي تحت ظل مظلتي تلك ، فعلى ما يبدو أن روحي هي التي كانت بحاجة إلى ذلك الغيث و تلك القطرات ، ليس جسدي و حسب ، كيف لا و هي التي تهطل من أقرب مكان حيث مصدر الرحمة ، حيث الرحمن عزّ و جل ..
8-10-2015
مونتريال -كندا.
معهد اللغة الفرنسية

قد يعجبك أيضاً

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.